د. جمال الهاشمي
تعيش اليمن واحدة من أكثر مراحلها التاريخية تعقيدا وفوضى واضطرابا إذ تتداخل فيها الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية وتتقاطع فيه العوامل الداخلية مع التأثيرات الإقليمية والدولية.
وفي ظل هذا الواقع المتشابك لم يعد من الممكن معالجة الأزمة بالأساليب التقليدية أو بالعقلية الصدامية التي سادت في فترات سابقة، ولقد أصبح الواقع احتياجا لشخصية النموذج العدلي، شخصية الأب الرحيم القدوة في إعادة البناء الثقافي والأخلاقي الذي تميز به اليمن عبر تاريخه.
شخصية مرحلية تمتلك القدرة على إدارة التوازن الدقيق بين الداخل والخارج و بين الممكن والمأمول وبين الثبات والمتغير على المبدأ والانفتاح الذي يسيرهما الواقع.
تعد الشخصية المرحلية في السياق اليمني نموذجا للقيادة الواعية التي تدرك تعقيدات المرحلة الانتقالية وتتعامل معها بعقلانية ومسؤولية؛ فهي لا تندفع وراء العواطف أو المصالح الآنية وإنما تستند إلى فهم عميق لطبيعة المجتمع اليمني وتكوينه وتوازناته الداخلية المتعددة واحتياجاته في نظم استراتيجية وقواعد تكتيكية بحيث يكون لها القدرة على قراءة المشهد الإقليمي والدولي بلغة المصالح المشتركة والأهداف الآنية والممكنة.
هذه الشخصية تدرك أن الاستقلال الوطني لا يعني القطيعة مع العالم أن الانفتاح لا يعني الذوبان في إرادات الخارج، وإنما هي تلك الشخصية القادرة على التفاعل المتزن بما يضمن لليمن مكانته ويحفظ سيادته ويحسن الجوار ويتكامل مع الجغرافيا المشتركة تحديدا دول الخليج الأشقاء نسبا وثقافة وعقيدة وتاريخا ودول القرن الأفريقي الذي يتقاسم مع اليمن خطوط الجغرافيا والتداخل الاجتماعي والحضاري.
ويتجلى البعد التوازني للشخصية المرحلية في مدى قدرتها على إدارة السياسات المحلية والعلاقات الداخلية أولا عبر استراتيجية التكامل الوظيفي المبني على مبدأ الشراكة والحوار وعلى إدماج جميع القوى والمكونات الوطنية في مشروع جامع يتجاوز الحسابات الضيقة والانتماءات الجزئية.
فاليمن لا يمكن أن ينهض مع استمرار عقلية التناحر والصراعات الجهوية والعقدية والحزبية وإنما في إطار توافق وطني واسع يعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة ويؤسس لنظام سياسي يقوم على العدالة والمواطنة المتساوية.
أما في العلاقات الخارجية فإن الشخصية المرحلية تنطلق من فهم واقعي لموقع اليمن الجغرافي وأهميته الاستراتيجية، إذ ينبغي عليها أن تدرك أن محيطها الإقليمي والدولي ليس ساحة مواجهة دائمة وعداوة مزمنة وصراع الهيمنة والتحرر والسيطرة بل فضاء يمكن استثماره لبناء تحالفات متوازنة تخدم المصالح الوطنية في إطار المصالح الإقليمية والدولية والإنسانية.
فأمريكا والغرب وروسيا والصين يتقاسمون مع اليمن المبادئ الإنسانية والعقلانية والحضارية والاقتصادية والأمنية يتكامل مع اليمن مع عالمه الإنساني وتداخلاته التي أصبحت تنحو منحى التداخل العرقي كما كانت في تاريخها، وفي هذه الحالة تظل الجغرافيا نسبا في حدودها بينما تتداخل فيها الأعراق الإنسانية وتتكامل.
إن هذه الشخصية النموذج هي التي تبتعد عن الاستقطابات الحادة محليا ودوليا وتسعى إلى سياسة خارجية مرنة تحفظ لليمن استقلال قراره دون أن تعزله عن العالم في إطار بناء المصالح وتعميقها مع الإمارات والسعودية وعمان وقطر والكويت والبحرين ودول القرن الأفريقي وغيرها، ليعيد لليمن مبدأ الأصالة وإعادة توظيفها في الإنسانية ومتطلبات المعاصرة .
إن التوازن في هذا الإطار لا يعني الحياد السلبي وإنما هو الحضور الفاعل المتزن الذي يحدد المصالح بوضوح وبعيد ترتيبها بما يحقق خدمة الشعب ومصالحه الاستراتيجية في دولة مدنية تعيد إنتاج نفسها .
وتتجسد أهمية هذه الشخصية في قدرتها على الجمع بين البعدين السياسي والثقافي، إذ لا يكفي أن تدير الصراع وإنما يجب أن تتميز في فكرها و قدرتها على أن تعيد بناء الإنسان اليمني عبر منظومة تربوية جديدة تزرع فيه قيم المسؤولية والمواطنة والوعي الجمعي. فالأزمة اليمنية لم تكن فقط متعلق بأزمة السلطة والإدارة المدنية والمؤسسية وإنما هي في الأساس أزمة وعي وثقافة وسلوك وأزمة فرد وتعليم ومجتمع، ولن يتحقق الخلاص إلا عبر مشروع تربوي وفكري يصنع جيلا جديدا من القادة والمواطنين الذين يؤمنون بالعمل المشترك وبفكرة الدولة الجامعة.
إن الشخصية المرحلية التي ينشدها الواقع هي التي تجمع بين الحزم والمرونة وبين الإيمان بالمبدأ والقدرة على التكيف، وبين الفكر الوقاد والمسؤولية، إنها النموذج القدوة التي تملك من الحكمة ما يجعلها قادرة على احتواء التناقضات وقيادة الوعي، ومن الرؤية ما يجعلها تدير التحولات المحلية والإقليمية وليست القيادة الفوضوية التي ترى منتهى أملها البقاء في السلطة أو صراع الوصول إليها على حساب التفريط بالثوابت الوطنية.
هي شخصية تؤمن أن الوطن لا يبنى بالخطابات أو الشعارات أو التمظهرات الثقافية ونما بالوعي والصدق والقدرة على الموازنة الدقيقة بين تحديات الداخل وضغوط الخارج.
وبذلك يمكن القول إن خروج اليمن من أزمته لن يكون بقرار سياسي منفرد بتخذه مكون أو شخص دون آخر، ولكن من خلال وعي وطني جامع يتجسد في نمط من القادة والمفكرين والتربويين والأكاديميين الذين يمثلون جوهر الشخصية المرحلية.
هذه الشخصية ليست انتقالا مؤقتا بين مرحلتين بقدر ما هي جسر واع بين ماض مثقل بالصراعات ومستقبل يسعى إلى الاستقرار والبناء، ومن ثم فإن الرهان الحقيقي في هذه المرحلة ليس على القوة والتخندقات التنظيمية والعسكرية والحزبية والجهوية وإنما تؤسس على الحكمة والكفاءة و التوازن والقدرة على إدارة العلاقات المحلية والدولية بما يحقق لليمن استقلاله، واستقراره ومكانته المستحقة في محيطه العربي والدولي.
إن الشخصية المرحلية اليمنية تتسم بمجموعة من الخصائص الفكرية والسلوكية والسياسية التي تؤهلها لقيادة مرحلة انتقالية معقدة تجمع بين إعادة بناء الداخل وإدارة العلاقات الخارجية بتوازن وواقعية.
هذه الصفات لا تنبع من المثاليات النظرية والاعلاميات الشعبوية وإنما تنبع من حاجة واقعية لقيادة وطنية تمتلك وعي المرحلة وقدرة التعامل مع تحدياتها المتشابكة.
وأول هذه الصفات هي الوعي التاريخي والسياسي والتي تفتق وعي الشخصية بمعرفة مكامن الأزمة اليمنية وتراكماتها البنيوية في السياسة والاقتصاد والثقافة، مما يجعله يتعامل مع الواقع من منظور تاريخي شمولي يقرأ جذور المشكلة قبل مظاهرها ويخطط للمستقبل بروح واعية مدركة لا تختزلها الأحقاد والعواطف أو المصالح الشخصية أو حب الزعامة والتسلط.
والصفة الثانية هي الواقعية المتزنة و القدرة على التعامل مع الحقائق كما هي دون انفعال أو تهور مع الحفاظ على الإيمان بقدرة الإرادة الوطنية على التغيير؛ فالشخصية المرحلية لا تستسلم للواقع لكنها لا تغيب عنه بمثاليات مفرطة حيث ينبغي عليها أن توازن بين الممكن بأدواته والمأمول بخططه واستراتيجياته وتقدم الإصلاح المنهجي المتدرج على الوهم والحديث عن المجهول الذي يصنعه الخطاب وينكره الواقع .
الصفة الثالثة وهو أن تتسم هذه الشخصية بالمرونة الفكرية والسياسية مما يجعلها قادرة على التكيف مع المتغيرات دون فقدان المبادئ، فهي لا تتصلب أمام المستجدات ولا تذوب فيها وإنما تبحث عن صيغ وسطية تحقق المصلحة العامة، ولا شك أن هذه المرونة هي التي تمكنها من التفاعل الإيجابي مع القوى الداخلية والخارجية من غير ارتهان أو تنازل عن الثوابت الوطنية.
الصفة الرابعة هي القدرة على إدارة التوازن سواء في الداخل أو في الخارج بحيث تؤمن التوازن بين القوى الوطنية هو شرط الاستقرار وأن التوازن في العلاقات الدولية هو شرط الاستقلال وهذه العقلية المتوزانة ترفض الانجرار وراء الاستقطابات وتسعى إلى سياسة متعددة الاتجاهات تحفظ لليمن موقعه وتمنع عنه الهيمنة وعن شعبه الهوان.
الصفة الخامسة وهو أن تتسم هذه الشخصية بالنزاهة والمسؤولية الأخلاقية؛ إذ تدرك أن الفساد هو العدو الأول لأي مشروع وطني وأن القيادة لا تقاس بامتلاك السلطة ولا بتوريثها، بل بقدرتها على خدمة المصلحة العامة وبناء الدولة المدنية العادلة والمستقرة، فالقيمة الأخلاقية شرط واقعي لاستعادة ثقة المجتمع بالدولة وهو النموذج الذي يلهب المواطنين بأهمية الدولة وقيمتها.
أما الصفة السادسة فتتمثل بالروح التربوية والتنموية لأن الشخصية المرحلية لا تكتفي بإدارة السياسة بقدر ما تدرك أهمية السياسات المحلية إذ تسعى بإدارتها المنهجية إلى إعادة بناء الإنسان اليمني على أسس الوعي والانتماء والإنتاج والتكامل والتعاون بين المواطنين وبعضهم من جهة والمواطن والسلطة من جهة أخرى فهي ترى في التعليم والتربية والاقتصاد ركائز للخلاص الوطني وتدرك أن الإصلاح يبدأ من الإنسان وليس من العبارات والتميز والخطاب.
ومن صفاتها القدرة على الحوار والتقريب، إذ تمتلك هذه الشخصية لغة وسطية قادرة على جمع المتخاصمين حول طاولة واحدة وتؤمن أن العقلانية والمصلحة صنوان لا ينفصمان وأن الحكمة تنبع من القيم أولا وتتجسد في الأخلاق ثانيا، لذلك فهي تسعى دائما إلى بناء الجسور بدل الحواجز وإلى تحويل الخلاف إلى اختلاف مشروع يمكن إدارته بوسائل سلمية.
أما الصفة الثامنة فيجب أن تتسم بالرؤية الاستراتيجية الطويلة المدى فلا تنشغل بردود الأفعال أو إدارة الأزمات المؤقتة بقدر ما يكون فكرها منصب على تأسيس مشروع وطني ممتد يتجاوز الأشخاص والأحزاب والمهرجات الموسمية.
وأخيرا يجب أن تتصف هذه الشخصية بـ الإيمان بالمصلحة الوطنية الجامعة والحزم والعزم وأن يكون الوطن والقيم فوق أي انتماء آخر فهي لا ترى اليمن من منظور الجغرافيا فقط بل ايضا من منظور الرسالة والمصير المشترك؛ وأن هذه الرؤية تجعلها قادرة على تجاوز العصبيات الصغيرة وتوحيد الطاقات حول مشروع وطني جامع يكون فيه كل فرد لبنة في البناء وليس معول للهدم.
إن اليمن وشعبه رصيد تنوع حضاري وثقافي يمكن تحويله إلى قوة إذا أدير بعقلية الشراكة والاعتراف المتبادل حينها تدرك هذه الشخصية أن البنية الاجتماعية اليمنية قامت تاريخيا على التعدد القبلي والمذهبي والمناطقي وأن محاولات إلغائه أو تهميشه لن يؤدي إلا إلى مزيد من الانقسام والصراع.
لذلك تتبنى هذه الشخصية النموذج رؤية تقوم على إدارة التنوع لا إقصائه وتفعيل الاختلاف لا توظيفه في الصراع.
وأن يكون في نظرها أن القبيلة ليست خصما للدولة وانما هي عنصر اجتماعي أصيل يمكن أن يسهم في الاستقرار متى ما أدرج في مشروع وطني جامع يوازن بين الولاء القبلي والانتماء الوطني على أن تعمل على نقل القبيلة من مجال النفوذ المسلح إلى مجال التنمية والإدارة المحلية بحيث تتحول من أداة سلطة إلى شريك في البناء.
أما التيارات المذهبية والفكرية فالشخصية المرحلية تنظر إليها من زاوية الحق في الوجود الفكري لا في الاحتكار السياسي أو الديني فهي ترفض التوظيف المذهبي في الصراع وترى أن الاختلاف العقدي والفكري جزء من التراث اليمني الممتد عبر قرون ولا يجوز أن يتحول إلى أداة للتفكيك.
لذلك تدعو إلى بناء ثقافة مدنية تجعل الانتماء للوطن هو الإطار الأعلى الذي يحتوي المذاهب والمناطق والتيارات جميعا.
وفي ما يتعلق بالمكونات السياسية تؤمن الشخصية المرحلية بمبدأ التعدد الحزبي المسؤول لا التعدد الفوضوي و تدرك أن الأحزاب ضرورية للحياة الديمقراطية ومع هذا ترفض أن تتحول هذه الأحزاب والمكونات إلى أدوات للارتهان الخارجي أو لتغذية العصبيات الداخلية ومن ثم تنادي بإصلاح البيئة الحزبية لتصبح ساحة للتنافس على البرامج لا على الولاءات. والمهرجات العبثية.
أما على المستوى المناطقي فترى هذه الشخصية المرحلية اليمن نسيجا واحدا لا يقوم إلا بتكامل مناطقه شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ومن ثم تعمل على معالجة قضية الجنوب عبر حوار عادل وشجاع يعيد صياغة العلاقة بين المركز والأطراف على أساس العدالة في السلطة والثروة والاعتراف بالتاريخ والخصوصية مع الحفاظ على وحدة الكيان الوطني.
وترى في الشباب والمرأة قوة التغيير الأساسية وأن أي مشروع وطني لا يضع الشباب والمرأة في قلب الفعل السياسي والاجتماعي هو مشروع ناقص الوعي، ومن ثم تعمل على تمكينهم معرفيا ومؤسسيا ليصبحوا شركاء حقيقيين في رسم مستقبل اليمن من خلال مؤسسات تربوية واعية بأهمية هذه الطاقات الوطنية.
كما تنظر إلى المكونات المدنية والمجتمعية مثل النقابات والمنظمات والمبادرات المحلية باعتبارها قواعد استقرار اجتماعي يمكن من خلالها ترميم الثقة بين المواطن والدولة وأن تراهن على المجتمع المدني بوصفه حارسا للوعي العام وجسرا بين السلطة والشعب وأداة لإحياء القيم المشتركة.
وفي المجمل فإن رؤية الشخصية المرحلية للمكونات اليمنية تقوم على مبدأ التكامل والتعايش وليس الإلغاء و الغلبة ولن يكون هذا لا عبر تأسيس عقد اجتماعي جديد يعترف بجميع المكونات ويمكنها من المشاركة في صنع القرار دون احتكار أو تهميش و هذا العقد لا يجب أن يبنى على توازنات مؤقتة وإنما يؤسس تأسيسا مدنيا على ثقافة المواطنة التي تجعل الجميع شركاء في الحقوق والواجبات.
إن الشخصية النموذج لا ترى اليمن تجمعا لمناطق أو طوائف أو قبائل وانما تنظر اليه كهوية واحدة تتعدد في داخلها الرؤى وتتوحد في غايتها المقاصد، فهي تسعى إلى تحويل التنوع من عبء سياسي إلى طاقة حضارية ومن التناقضات المتصارعة إلى فسيفساء وطنية قادرة على بناء دولة مدنية حديثة تحترم الجميع وتجمعهم تحت مظلة العدالة والكرامة والانتماء المشترك.
كما تنظر الشخصية المرحلية اليمنية إلى فكرة اندماج اليمن في محيطه الخليجي والإفريقي كمسار تاريخي طبيعي ولكنه مشروط بوعي السيادة وبناء الذات الوطنية أولا.
وتدرك أن موقع اليمن الجغرافي يجعله نقطة التقاء بين الخليج والقرن الإفريقي وأن هذا الموقع لا ينبغي أن يستغل من الخارج بل يفعل من الداخل في إطار رؤية استراتيجية تحقق التكامل لا التبعية.
وفيما يخص الاندماج مع دول الخليج العربي يجب أن تراه اندماجا سياسيا مباشرا بقدر ما تعتبره اندماجا وظيفيا وتكامليا في مجالات الاقتصاد والطاقة والأمن والتنمية البشرية.
كما تنظر إلى مجلس التعاون الخليجي كفضاء إقليمي يمكن أن تكون اليمن جزءا منه عبر مراحل متدرجة تبدأ بالتكامل الاقتصادي والتنموي قبل الانتقال إلى صيغ مؤسسية أعمق.
هذا الاندماج لا يمكن أن يتحقق إلا عندما تستعيد اليمن توازنها الداخلي وتبني مؤسسات دولة قادرة على الشراكة والتعاون لا الاستجداء والمنح الخارجية، ومن هنا فإن الشخصية المرحلية تتعامل مع الخليج من موقع الشريك في الأمن الإقليمي وليس التابع في السياسات.
أما في ما يتعلق بالقرن الإفريقي فإن الشخصية المرحلية ترى أن العمق امتداد حضاري وتاريخي واقتصادي لليمن؛ فالبحر الأحمر وخليج عدن عبارة جسور تواصل بين الشعوب. لذلك تنظر إلى التكامل مع دول القرن الإفريقي بوصفه فرصة لتعزيز الأمن البحري والتبادل التجاري وتوسيع دوائر النفوذ الإيجابي لليمن في محيطه الإفريقي.
ولكنها مع هذا ترفض تحويل هذا الارتباط إلى محور سياسي جديد أو مجال تنافس دولي بقدر ما يكون وسيلة لبناء شراكات متوازنة قائمة على التعاون في مجالات النقل البحري والموانئ والزراعة والطاقة، ومكافحة الهجرة غير النظامية.
وتدرك هذه الشخصية أن أي مشروع اندماج سواء مع الخليج أو مع القرن الإفريقي لا يمكن أن ينجح في ظل واقع سياسي منقسم أو اقتصاد ضعيف وصراعات ملتهبة أو كامنة وهو ما يستدعي إعادة بناء الدولة ومؤسسات فاعلة لا هيكلية. إذا هي تضع أولوية إعادة بناء الداخل كشرط أولي للانفتاح الإقليمي فالدولة غير المستقرة لا يمكن أن تكون طرفا فاعلا في أي منظومة إقليمية أو دولية، فالدولة غير المستقرة عبء جيوسياسي على محيطها ومن ولتجاوز ذلك تسعى إلى تحقيق توازن بين طموح الاندماج ومطلب الاستقلال وبين الانفتاح على الجوار وبناء القدرات الذاتية.
إن الشخصية المرحلية تنظر إلى فكرة الاندماج كمشروع حضاري واقتصادي وأمني يحقق التكامل الإقليمي على قاعدة الندية والاحترام المتبادل و تؤمن أن اليمن يمكن أن يشكل حلقة وصل بين الخليج والقرن الإفريقي وليس ساحة صراع بينهما.
ولذلك فإن رؤيتها تقوم على تحويل الموقع الجغرافي إلى مصدر قوة استراتيجية من خلال تطوير الموانئ وربط شبكات التجارة والطاقة وتعزيز الأمن المشترك في البحر الأحمر مع الاحتفاظ الكامل بالقرار الوطني المستقل.
وفي نهاية المطاف لا ترى هذه الشخصية المرحلية في الاندماج الإقليمي مخرجا بديلا عن بناء الدولة الوطنية وإنما تعتبره مرحلة متقدمة فحينما تشتد مؤسسات الدولة وتتعافى البنية الاقتصادية يصبح الاندماج الخارجي إضافة طبيعية وليست تعويضا عن الفشل الداخلي. بذلك يتحول الارتباط بالخليج والقرن الإفريقي من علاقة نفوذ إلى علاقة تكامل ومن موقع التابع إلى موقع الشريك في رسم ملامح الأمن والتنمية في المنطقة بأسرها.
أما في تعاملها مع الولايات المتحدة الأمريكية، فإنها تنطلق من إدراك لطبيعة الدور الأمريكي في المنطقة باعتباره دورا مركبا يجمع بين البعد الأمني والاقتصادي والسياسي. لذلك فهي لا تقف موقف الرفض المطلق ولا القبول المطلق ونما تعتمد سياسة واقعية تحفظ لليمن استقلال قراره الوطني وتوظف العلاقات مع واشنطن في خدمة القضايا التنموية والأمنية المشتركة وخصوصا في مكافحة الإرهاب مع رفض أي تدخل يمس القرار السيادي أو يوظف اليمن في صراعات القوى الكبرى.
وفي ما يتعلق بروسيا فإن الشخصية المرحلية تراها شريكا استراتيجيا محتملا يمكن من خلاله تحقيق توازن في العلاقات الدولية لليمن خاصة في ضوء التعدد القطبي المتنامي في النظام الدولي.
فروسيا تمثل ثقلا سياسيا وعسكريا يمكن أن يتيح لليمن حركة أوسع بعيدا عن الاحتكار الغربي للمشهد لذلك تنظر إليها كقوة داعمة للتوازن الدولي وليست بديلا عن أي طرف آخر بل إن التوجه نحو روسيا سيعيد تحريك القضية اليمنية في الغرب واخراجها من الجمود، وهذا من أهم مداخل العلاقات الدولية ومنهجية المباريات.
أما الاتحاد الأوروبي فترى الشخصية المرحلية فيه شريكا إنسانيا وتنمويا قبل أن يكون طرفا سياسيا ومن ثم تسعى إلى توسيع التعاون مع الدول الأوروبية في مجالات التعليم والتنمية المستدامة وإعادة الإعمار ودعم مؤسسات الحكم المدني مع الحرص في الحفاظ على استقلال القرار اليمني وعدم تحويل المساعدات إلى أدوات ضغط سياسي.
وفي رؤيتها للصين تدرك أن بكين تمثل نموذجا مختلفا في التعامل الدولي والتي تقوم على المصالح الاقتصادية والاستثمارية أكثر من التدخلات السياسية المباشرة ومن ثم فإنها تنظر إلى الصين كشريك استراتيجي محتمل في البنية التحتية والتنمية طويلة المدى وتحرص على الاستفادة من التجربة الصينية في بناء الدولة الحديثة دون المساس بالسيادة الوطنية أو التورط في صراعات النفوذ بين الشرق والغرب.
أما بقية الدول الإقليمية والدولية فتنظر إليها الشخصية المرحلية من زاوية شمولية توازن بين القرب والانفتاح وترى أن العلاقات الخارجية لليمن يجب أن تدار بعقل مؤسساتي واضح الأهداف يقوم على تنويع الشراكات وتجنب الارتهان لأي محور.
فالعالم في نظرها شبكة مصالح متداخلة والنجاح الدبلوماسي يكمن في القدرة على إدارة هذه المصالح بما يخدم أولويات التنمية والاستقرار في الداخل لا أجندات الخارج.
إن الشخصية المرحلية لا ترى في العالم الخارجي ساحة صراع فقط بل هو فضاء للتعاون والتكامل ومن ثم وي ترفض أن تكون اليمن ميدانا لتصفية الحسابات بين القوى المتنافسة. وهو ما يدفعها إلى أن تنتهج سياسة هادئة متزنة تضع في مقدمة أولوياتها تثبيت الأمن الداخلي واستعادة الدولة وبناء الثقة مع دول الجوار والعالم على أساس الاحترام المتبادل والمصلحة المشتركة.





