* بقلم محمد براو
شهد المغرب في 31 أكتوبر 2025 لحظةً فارقة في تاريخه المعاصر. فقد اعتمد مجلس الأمن الدولي لأول مرة القرار الذي يكرّس المبادرة المغربية للحكم الذاتي كحلٍّ جاد وواقعي ونهائي لقضية الصحراء، منهياً بذلك نصف قرن من النزاع الإقليمي والتجاذبات السياسية.
لم يكن هذا الانتصار ثمرةَ صدفةٍ دبلوماسية، بل نتاج رؤية ملكية بعيدة المدى قادها الملك محمد السادس بصمتٍ استراتيجي وثباتٍ راسخ، واضعًا نصب عينيه مبدأ أن “السيادة لا تُعلن بالضجيج، بل تُصنع بالصبر والتراكم والذكاء”.
خطاب التحوّل: قبل 31 أكتوبر وبعده
في خطابه التاريخي، أعلن جلالته: “نعيش مرحلة فاصلة في تاريخ المغرب الحديث… فهناك ما قبل 31 أكتوبر وما بعده. إنه زمن المغرب الموحّد، من طنجة إلى الكويرة، زمن لا يُسمح فيه لأحدٍ أن يعبث بحقوقنا أو يزايد على سيادتنا.“
بهذه الكلمات، فتح الملك فصلًا جديدًا في مسار الوحدة الوطنية، مؤكدًا أن المغرب يدخل زمن السيادة الكاملة والوحدة الترابية الراسخة. فالمغرب اليوم، كما قال، “من طنجة إلى لكويرة”، لا يقبل المساس بحقوقه ولا التشكيك في حدوده التاريخية.
دبلوماسية الصمت والفاعلية
منذ اعتلائه العرش عام 1999، أعاد محمد السادس صياغة أسس الدبلوماسية المغربية، فانتقل بها من ردّ الفعل إلى المبادرة، معتمدًا نهجًا يقوم على أربع ركائز:
- السيادة الوطنية
- الأمن الإقليمي
- العمق الإفريقي
- الانفتاح المتوازن على الغرب
هذه الرؤية الهادئة أثمرت عن بناء شبكة دعم دولية غير مسبوقة:
- عودة قوية إلى الاتحاد الإفريقي،
- اعتراف أمريكي تاريخي بمغربية الصحراء،
- توسيع قاعدة المؤيدين داخل الأمم المتحدة حتى أصبح ثلثا الدول الأعضاء يعتبرون مبادرة الحكم الذاتي الإطار الوحيد للحل.
إنها دبلوماسية صامتة في أسلوبها، صاخبة في نتائجها.
الواقعية الدبلوماسية: الاتفاق الثلاثي نموذجًا
كان الاتفاق الثلاثي بين المغرب وإسرائيل والولايات المتحدة (2020) محطة محورية في مسار تثبيت السيادة المغربية. فقد أداره الملك بحكمة وواقعية، محققًا اعترافًا أمريكيًا رسميًا بمغربية الصحراء، دون أن يتنازل عن ثوابت المغرب في دعم القضية الفلسطينية.
لقد أظهر هذا الاتفاق أن البراغماتية لا تتعارض مع المبادئ، وأن المغرب قادر على الجمع بين التضامن العربي والانفتاح الدولي ضمن رؤية متكاملة لمصالحه العليا.
الصحراء: قضية وطنية لا هوس شخصي كما زعمت “لوموند”
أكد الملك محمد السادس في خطابه أن قضية الصحراء هي قضية وحدة وطنية مقدسة. وبالتالي ليست “هوسًا ملكيًا”، كما ادعت جريدة لوموند. “لقد تحقق التطور الشامل لمناطقنا الجنوبية، واستتب فيها الأمن والاستقرار بفضل تضحيات جميع المغاربة”. واليوم، يُترجم هذا الالتزام الوطني إلى واقع تنموي ملموس في الأقاليم الجنوبية، التي أصبحت قطبًا للاستثمار والاستقرار الإقليمي.
لقد حاولت صحيفة لوموند الفرنسية، في سلسلة مقالاتها حول ما أسمته «لغز محمد السادس»، تصوير الملك في سياسته الدولية، كشخص “غريب الأطوار” و”يتخذ قراراته بمزاجية”. لكن هاهي الحقائق تترى ناسفة هذا الخطاب الدعائي:
- تماسك دبلوماسي نادر أثبتته اعترافات القوى الكبرى.
- واقعية استراتيجية جمعت بين الانفتاح الاقتصادي والتضامن العربي.
- نتائج ملموسة في السياسة والأمن والتنمية.
- رؤية مؤسساتية تديرها دولةٌ ذات استمرارية، لا نزوات شخصية.
لقد تهاوت تلك القراءات بعد 31 أكتوبر، لأن ما كان يُسمّى «الغموض» اتضح أنه فنّ القيادة الهادئة.
رسائل الخطاب الملكي ودروسه
يحمل خطاب 31 أكتوبر رسائل استراتيجية متعدّدة:
- المغرب السيادي الموحّد: إعلان الدخول في مرحلة جديدة من التاريخ الوطني.
- حلّ سلمي دون غالب أو مغلوب: دعوة إلى تسوية تحفظ كرامة الجميع.
- الحوار مع الجزائر: دعوة صريحة لبناء علاقات ثقة وأخوة جديدة.
- تنمية الصحراء: تحويل الجنوب إلى محور استقرار وتنمية إقليمية.
- الوفاء للذاكرة الوطنية: تكريم تضحيات المسيرة الخضراء والملك الراحل الحسن الثاني.
محمد السادس: مهندس المغرب السيادي الموحّد
إن انتصار 31 أكتوبر ليس انتصارًا في ملف الصحراء فقط، بل انتصار لفكر الدولة المغربية الحديثة.
لقد نجح محمد السادس في:
- تحويل التحديات إلى فرص قوة.
- بناء تحالفات دولية متينة.
- تكريس سيادة المغرب ووحدته الترابية.
- إعادة الاعتبار لصوت الدبلوماسية الهادئة والواقعية.
“بعد خمسين عامًا من التضحيات، نفتح فصلًا جديدًا من الانتصارات”
بهذه العبارة ختم الملك خطابه، معلنًا أن المغرب دخل مرحلة ما بعد النزاع، مرحلة الدولة الواثقة بسيادتها، والموحّدة بإرادتها، والماضية بثبات نحو المستقبل.
ختاما: المغرب بعد 31 أكتوبر
لم يعد المغرب بعد 31 أكتوبر كما كان قبله. لقد أثبت أن الصبر الدبلوماسي أطول نفسًا من الصراخ السياسي، وأن السيادة تُبنى على العمل الهادئ لا على الشعارات.
اليوم، يقف المغرب دولةً واثقة، موحّدة، وسيادية — يقودها ملك وضع بصمته في التاريخ، وفتح صفحة جديدة عنوانها: المغرب السيادي الموحّد.
*محمد براو، الباحث في القانون العام والعلوم السياسية والخبير الدولي في الحكامة





