التحيز الفكري: لحن واحد وأوتار متعددة

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

*جيهان علي الدمرداش

 

يمتاز كتاب «شرنقة التحيز الفكري – الأنماط والتجليات» لمصطفى عطية جمعة (منشورات دار شمس للنشر والإعلام – 2019)؛ بالإمتاع والفائدة، وغزارة المعرفة. فالكتاب يقف بالتحليل على أبعاد قضية على قدر عال من الأهمية، ألا وهي قضية التحيز بأبعاده ومفاهيمه المختلفة، ونحن بحاجة ماسة إلى إلقاء الضوء على أبعاد هذه القضية حتى نتمكن من الحفاظ على هويتنا، والارتقاء بحضارتنا، والتجاوب فكريا مع الحضارات الإنسانية الأخرى، وكان لبعض المفكرين العرب جهود واضحة في تتبع تحيزات الفكر الغربي، وأبعاده المختلفة في مجالات الفكر والثقافة، وهي خطوات جادة نحو التنوير والوعي، وقد حرص الكاتب على الوقوف على أهم هذه الجهود، وتقديم دراسات واعية عنها ضمنها رؤيته التحليلية والتقييمية لتلك الجهود.

فبالنظر إلى دلالة العنوان، نجد أن الشرنقة هي التي تحيط بالإنسان وتجعله أسيراً لتحيزاته، والشرنقة أيضا غشاء واق يتكون من خيوط دقيقة تنسجه بعض الحشرات حولها كدودة القز، لتحتمي به في طور من أطوار حياتها، وتشرنق الشخص، أي انغلق وانطوى وانعزل على نفسه ”اتَّبع سياسة قائمة على التشرنق على الذات، ولذلك جاءت دلالة العنوان محذرة من الوقوع في التشرنق، الذي يجعل الإنسان أسيراً لتحيزاته؛ أي أنها محذرة من المنظور السلبي للتحيز، باعتباره نمطاً من التفكير المترفع الذي يجعل الإنسان حبيساً لرؤيته ومقولاته.

ويرى الكاتب أن هذا التحيز يكون مرتبطاً «بالنزعة المتسلطة التي تنتصر لقناعة القوي، بغض النظر عن عدالتها وارتباطها بالقيم الإنسانية السامية، وقد نعت هذا التحيز بالتحيز الإمبريالي/ الاستعلائي، الذي ينطوي على بعدين الأول: نرجسي يجعل الفكر منحبساً عند تصورات معينة، والثاني إقصائي: لا يتقبل تصورات الآخر.

يعني التحيز وجود معرفة سابقة لدى الإنسان، يتلقى في ضوئها كل جديد، كما يشير عبد الوهاب المسيري في كتابه «فقه التحيز» إلى أن عالم الإنسان مدنس دائماً بالخبرة، فليس لديه البراءة الأولى. وقد تناول المؤلف مصطفى عطية، أنماطا عديدة للتحيز، مؤكداً على أن «التحيز ليس كلاً واحداً ولا مفهوماً أحادياً، وإنما ينطوي على تعدديات تتجه إلى المفاهيم المتصلة به». لذلك رأى أنه يشمل الفرد العادي والمتعلم والمثقف، والجماعة المحلية، والمجتمع الأكبر، والدولة وسلطاتها، وبالتالي لا يمكن فهم التحيز بوصفه مفهوماً ثابتاً، وإنما هو مفاهيم عديدة واستخدم الكاتب لذلك مصطلح التحيزات المتعددة، للتعبير عن ذلك. ومن المفاهيم التي توقف عندها الكاتب، مفهوم التحيز والتحيز المضاد، فالتحيز يحتوي على بنى متضادة تصاحبه فهو ليس أحادياً، فوجود التحيز يترتب عليه وجود مقاومة وهي ما أطلق عليه «التحيز المضاد»، وهذا يعني أن كل تحيز يجد هيمنة من تحيزات أخرى لها سلطة يضادها ويقاومها بأشكال وطرق مختلفة، وقد عرض الكاتب لهذا النمط من التحيز، من خلال الوقوف على حياة المفكر إدوارد سعيد، وظروف نشأته وتكوينه الذاتي والأسري والوطني والعروبي، إلى جانب عقلانيته ومنهجيته العلمية النقدية، التي استقاها من الأكاديميات الغربية، ووصف الكاتب منهجية سعيد بأنها قراءة طباقية، لعلاقة الثقافة بالإمبريالية، وقراءة السيطرة الإمبريالية بنظمها وأنساقها مع قراءة موازية للمقاومة الوطنية المعارضة لهذه السيطرة؛ أي قراءة الثنائيات المتضادة عبر جدلية السيطرة والمقاومة، أي التحيز والتحيز المضاد. وقد تناول الكاتب كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد باعتباره نموذجاً تطبيقياً على التحيز المضاد، الذي سعى مؤلفه للانحياز للحقيقة، وإسقاط الأقنعة عن الزيف الذي استقر، لعدم وجود معارضين له، فالكتاب يقاوم كل الطروحات والرؤى الغربية ضد الشرق، ليخلص إلى حقيقة مفادها، أن كل دراسات المستشرقين عن الشرق ما هي إلا معلومات مقدمة إلى دوائر الاستعمار الغربي، من أجل أن يستفيد منها ويستثمرها، ويستخدمها لصالحه، تمهيداً لاحتلاله، ومن ثم امتصاص خيراته، فالاستشراق بدأ بسيطاً ثم تدعّم بسلطة المؤسسات الداعمة له ثم الحكومات.

يؤكد المؤلف على مفهوم «تحيزات المثقف»، وقد أوضح أن المثقف الملتزم، الذي امتدحه سعيد، هو الذي تحيزاته خيرية جمالية، تنأى عن السلطة، وعلى هذا صنف المثقفين إلى ضربين؛ الأول: المثقفون التقليديون الذين لا يهمهم سوى الاستفادة المادية والشخصية من السلطة، وهذا النوع أيضاً يتمثل في الغرب؛ حيث تحول المثقفون الخبراء إلى أدوات في أيدي الرأسمالية العالمية، التي تسعى إلى تشكيل العالم بأسره. والضرب الثاني: يمثله المتحيز المثقف الذي تحيزاته هي قضايا العدالة المطلقة، المتجاوزة لعصبيات القوميات والأوطان والديانات، فهي تحيزات تقف ضد جبروت السلطة.
ومن خلال تلك المفاهيم التي عرضها الكاتب ، استطاع أن يؤكد على فكرة التعددية التي تبناها في دراسته لأنماط التحيز.

يرى الكاتب أن الكثير من المذهبيات الأدبية الغربية، نُقلت إلى الثقافة العربية المعاصرة، بدون مناقشتها ومساءلتها من قبل ناقليها ومترجميها، وبدون دراسة علاقتها بالأبعاد الثقافية للمجتمعات المُنتجة فيها، وهذا أمر مغلوط، فالناقد ابن لبيئته الثقافية فهو يفكر ضمن لغته وثقافته ودينه.

ويثير الكاتب قضية النقد وعلاقته بالتحيزات الدينية، فالحضارة الغربية تأسست على العلمانية ومن المفترض أنها تقصي الدين عن الحياة المدنية، لأنها ترى أن الدين كان عائقاً أمام نهضة أوروبا، والنقد الغربي مؤسس نظرياً على الفلسفات العلمانية مثل، فلسفة ديكارت وماركس ونيتشه وسارتر وغيرهم، التي تعلي سلطة العقل على النقل، وترفض كل ما هو ديني، وعلى هذا سعى النقد إلى قراءة التراث قراءة جمالية فكرية، ورفع شعارات المنهجية العلمية والموضوعية، ونزاهة الباحث وحياده وغيرها من الشعارات التي رأى الكاتب أنها شعارات براقة تم الترويج لها، ولكن «واقع الممارسات النقدية يشير إلى انحيازات عديدة للمركزية الفكرية الغربية، وكل ما يتصل بها من أسس معرفية ولاهوتية ولغوية وقومية ودينية، وبذلك يكون هناك بون شاسع بين المبادئ والشعارات والواقع والتطبيق، وعليه يوصي الكاتب عند دراسة المدارس الأدبية والنقدية الغربية بضرورة الانتباه إلى طبيعة المركزية الحضارية، التي أنبتتها بكل نظرتها الاستعلائية للعالم والتي بررت استعمار الشعوب ونهب خيراتها.

وعلى هذا فإن إقصاء الدين عن الممارسة النقدية أمر مستحيل وهذا يفسر حضور الدين بقوة في أعمال عدد من النقاد منهم، دانيال بيل ووليام باريت، ما يؤكد أن الدين لم يغادر الحداثة. فالكاتب في نقده للمقولات الغربية، استطاع أن يبرهن على تناقضها بين التنظير والتطبيق بنماذج عديدة من أعمال النقاد الغربيين، تثبت صحة نقده وتؤكد مقولاته.
ويتصل بالقضية السابقة؛ قضية تلقي النقد العربي للنقد الغربي والانحياز ضد الدين والتراث العربي، يرى الكاتب أن الكثير من المذهبيات الأدبية الغربية، نُقلت إلى الثقافة العربية المعاصرة، بدون مناقشتها ومساءلتها من قبل ناقليها ومترجميها، وبدون دراسة علاقتها بالأبعاد الثقافية للمجتمعات المُنتجة فيها، وهذا أمر مغلوط، فالناقد ابن لبيئته الثقافية فهو يفكر ضمن لغته وثقافته ودينه.

فقد اقتصر النقل العربي على الترويج للمذهب نظرياً مع شعور بالتيه والفخر والاستعلاء على ما هو سائد في الثقافة العربية، والنظر بدونية إلى ما هو تراثي أو نابع من الثقافة العربية الإسلامية، وهو ما أُطلِق عليه «الأنفة الثقافية»، وتناول الكاتب بالتحليل، رصد عدد من النقاد العرب حضور الدين في مرجعيات النقد الأدبي الغربي ومنهم شكري عياد وعبد العزيز حمودة، ثم أوضح أن العديد من الشعراء والأدباء الحداثيين العرب، تأثروا تأثراً واضحاً بما جاء في العهد القديم والعهد الجديد، وضرب أمثلة على ذلك بأشعار لويس عوض وأمل دنقل وغيرهما.

واستطاع الكاتب من خلال عرضه للقضية البرهنة على الانحياز الديني الواضح في النقد الغربي، رغم إعلان إنكاره، كما أنه قدّم نماذج لسيطرة هذا الفكر على مجموعة من الأدباء الحداثيين العرب، موضحا تأثر مدارس النقد الحديثة التي اتكأت على المرجعيات الغربية، مما يجعلها ترفض كل ما هو عربي إسلامي بنظرة استعلائية، وأوصى بأنه «يجب علينا ونحن نقوم بقراءة المذهب الأدبي استحضار السياقات الثقافية والاجتماعية، التي أنتجته مع دراسة الأعمال الأدبية التي عبّرت عن المذهب وعندها سنكتشف الآثار الثقافية التي تناقض رسالة النقد الأدبي الغربي المعلنة، التي تقول بالموضوعية والحيادية في الطروحات والعلمية في التحليل والمنهجية. وهذا التناول الموضوعي للقضية يقودنا إلى الاعتراف بأن التجربة الأدبية والنقدية العربية المعاصرة التي تأثرت بالتجربة الغربية كانت – في أغلبها- امتداداً للانحيازات الفكرية والدينية والفلسفية الغربية، ولم تقف منها موقف الند الذي يناقش ويجادل ليستفيد ويثري إلا في حدود ضيقة.

وختاما، فإن هذا الكتاب يمثل إضافة نوعية للمكتبة العربية، فالقارئ العربي بحاجة إليها، كما أنه يحتمل قراءات عديدة لسبر أغواره والوقوف على ما فيه من فكر تنويري بأبعاد جديدة.

*أكاديمية مصرية

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...