أردوغان ولعبة التوازن الاستراتيجي.. إشكاليات واشنطن وموسكو.

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

*أمجد إسماعيل الآغا

 

 

ضمن معادلة “شريك محدود الموثوقية والحليف الخصم”، تسعى تركيا لإقامة معادلة توازن استراتيجي، تُبقي علاقاتها مع موسكو وواشنطن، ضمن أطر الحفاظ على المصالح الحيوية لـ أنقرة، ومواجهة التحديات وفواعل السياسة التركية، إقليمياً ودولياً، دون أن تتعرض العلاقات التركية مع روسيا والولايات المتحدة، إلي أي ضرر، ومما لا شك فيه، أن التوصيفات التركية كـ” الشريك الاستراتيجي في إشارة لـ واشنطن، أو التحالف الاستراتيجي في إشارة لـ موسكو”، لا يُمكن أن تُحقق للقيادة التركية، ما تصبو إليه، لا سيما أن مُحددات السياسية الخارجية لـ تركيا تنطلق من ضرورة لعب دور إقليمي مؤثر، يجعل منها دولة إقليمية تكون مركزًا مُشاركًا في حلحلة غالبية الملفات الشائكة في المنطقة، وتستحضر لتحقيق هذه الرؤية قواعد دولية يُغذيها الخوف الذي يُثيره صعود جيرانها الإقليمين، لا سيما إيران ومصر والسعودية وإسرائيل، بالإضافة إلى الرغبات التركية بحجز مقعد دولي ضمن صفوف الكبار، بين روسيا والولايات المتحدة.

التوصيفات التركية السابقة، دائماً ما تخضع للاختبارات والتحديات، بناءً على جُملة من الظروف الموضوعية، تُترجمها التطورات الإقليمية والدولية، وعلى اعتبار أن موقع تركيا الجغرافي، وما ينتج عنه من تفاعلات وشبكة سياسات قائمة على التأثر والتأثير، والتي حددت الأهمية الجيوستراتيجية لتركيا في منظور المصالح الغربية، وما نتج عن ذلك من تحالف استراتيجي تركي مع المنظومة الغربية “الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي” منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن، وإنّ لم تخل هذه العقود الطويلة من حالات توتر كانت تطرأ على العلاقة بين الطرفين، أو ما قد يبدو من تضاؤل أهمية تركيا بنظر حليفيها؛ لكن التطورات السياسية بأبعادها الإقليمية والدولية سرعان ما تثبت مفتاحية الموقع التركي للسياسة الغربية، وتقنع الطرفين بضرورة الحفاظ على أعلى درجات التعاون بينهما.

ما سبق يأخذنا إلى آليات جديدة، تفرض على تركيا مراعاة فواعل السياسات الدولية في المنطقة، وبناء على الإدراك الجديد لحقيقة العلاقة التركية مع روسيا والولايات المتحدة، نجد أن تركيا دائماً ما تنجح في معارك كسر العظم، سواء مع روسيا أو الولايات المتحدة، وما يرتبط بها من امتيازات سياسية واستراتيجية، وهنا يحضر قوياً تأخر القيادة التركية في تهنئة جو بايدن، عقب فوزه في الانتخابات الأمريكية، إثر رهانات تركية بإمكانية فوز ترامب مجدداً، لكن رغم ذلك، فإن معطيات لقاء جو بايدن ورجب طيب أردوغان، على هامش اجتماعات الناتو، تؤكد بأن اللقاء كان مثمراً وإيجابياً في المستويات كافة، وكذا فإن جوهر العلاقات التركية مع روسيا، وإن خبى جراء التطورات السورية، أو التمدد التركي الذي وصل إلى حدود روسيا، إلا أن العلاقة بين موسكو وأنقرة، لا تزال قوية ومتينة بالأطر الاستراتيجية.

في بروكسل، وعقب اجتماع جو بايدن، ورجب طيب أردوغان، كان واضحاً أن الاجتماع بدد ولو جُزئياً، الهالة السوداء التي أحاطت بالعلاقات الأمريكية والتركية، ولعل الإيجابية التي اعتمدها الطرفان، كانت ضرورية لإبقاء العلاقة بينهما، في الأطر ذات الأهداف الضرورية لـ أنقرة وواشنطن على السواء، خاصة أن براغماتية الرجلين، تتجاوز واقعياً الخطابين التركي والأمريكي، ما يعني أن الالتزام الأمريكي بحقوق الانسان والديمقراطية، يحتمل التمايز لجهة تطبيقه على الدول، وكذا الخطاب التركي المُهدد لدول الاتحاد الأوروبي، لجهة إغراقهم باللاجئين، فضلاً عن أن أردوغان دائما ما يستل السيف العثماني، ويُشهره في وجه خصومه، ويتمدد في الأراضي التاريخية للسلطنة العثمانية، كل ذلك، يُمكن أن يتغير حين تستجيب واشنطن والدول الأوربية، للسياسات التركية، وبين هذا وذاك، خرج بايدن وأردوغان بُجملة مقررات، ارتكزت على أن الخبراء من كلا الجانبين، سيواصلون المباحثات، ووضع النقاط على الحروف لما تمّ الاتفاق عليه بين الرئيسين، وهو ما يشير إلى أنّ كسراً للجليد قد تمّ إنجازه بحلحلة الملفات العالقة أو بعضها.

لا شك بأن إحدى أهم الملفات العالقة بين واشنطن وأنقرة، يتعلق بـ رؤية تركيا تُجاه الدعم الأمريكي للكرد، فضلاً عن امتعاض تركيا حيال الانتقادات الأمريكية للدور التركي إقليمياً، مع رفض أنقرة بشدة الاعتراف الأمريكي بإبادة الأرمن، وعطفاً على ذلك، فإن استحواذ تركيا على منظومة S-400 الروسية، أثار حفيظة الولايات المتحدة، والتي ترى في هذه الصواريخ، تهديداً لمنظومة الناتو الدفاعية؛ في هذا الإطار، ثمة تسريبات أمريكية تُشير إلى مُقترح تُركي يُبدد المخاوف الأمريكية.

التسريبات السابقة، أشارت إلى أنّ أنقرة قدّمت مقترحاً لأمريكا حول منظومة صواريخ إس 400 الروسية، لجهة أن يتم نشرها في قاعدة “إنجيرلك” التركية، وأن تكون تحت إشراف واشنطن بالكامل، كما تعهدت أنقرة وتحت مظلة حلف الناتو، بأن تقوم على تأمين السفارات الغربية في أفغانستان، بعد انسحاب القوات الأمريكية من كابول، الأمر الذي ترجمته تصريحات أردوغان المتعلقة بإجراء مباحثات مع بايدن تتعلق بالوضع الأفغاني. وفي ذات الإطار، جاءت التصريحات الفرنسية بعد لقاء “أردوغان وماكرون”، حيال الاتفاق على سحب كافة القوات المرتبطة بـ تركيا من ليبيا، في الوقت الذي قام فيه وزير الدفاع التركي قبل أيام بزيارة إلى طرابلس.

من المهم التنويه، إلى أن سياسة تبريد الملفات، والتي اعتمدها رجب طيب أردوغان، تفتح مشهداً جديداً على الصعيدين الإقليمي والدولي، عنوانه تنازلات تركية وإعادة ترميم العلاقات مع حلفاء واشنطن، لا سيما السعودية ومصر والإمارات. كل ذلك يأخذنا إلى مقاربة العلاقات الروسية التركية، ومآلاتها، بعد السياسة التركية الجديدة، والتنازلات التي قُدمت جُزئيا لكل من الولايات المتحدة وفرنسا، في بعض الملفات الإقليمية والدولية.

في جانب موازٍ، فإن موسكو تُدرك أن تحالف أنقرة معها، لا يعدو عن كونه ورقة ابتزاز لـ واشنطن والدول الأوروبية، وما تقديم أردوغان تنازلات وعروض، إلا تجسيداً للرؤية الروسية، ومن المؤكد أن غياب التعليق الروسي، على مخرجات قمة الناتو، والاجتماعات التركية مع الولايات المتحدة وفرنسا، إنما تأتي في إطار الصمت الروسي، والذي تؤطره سيناريوهات ردود للتعامل مع أنقرة في الفترة المقبلة، خاصة أن تركيا ضالعة في الكثير من الملفات، كـ إدلب وليبيا والنزاع الأذري الأرميني، الأمر الذي ستقوم موسكو باستثماره، ومضايقة تركيا، إلى الحد الذي سيجعل من الدب الروسي، إظهار مخالبه في وجه أردوغان.

في المحصلة، ترى أنقرة أن المحافظة على التوازن بين موسكو وواشنطن، هي الصيغة الأسلم للحفاظ على علاقات حيوية مع القوتين العظميين؛ في المقابل، صحيح أن تركيا قوة إقليمية لها تأثير على مسار التطورات في المنطقة، لكن الصحيح أيضًا أن تركيا تنتمي إلى منطقة شهدت تحولات وصراعات وصدامات حادة، عطفًا على تحول هذه المنطقة إلى ساحة صراع دولي لا تحدها مؤشرات واضحة لجهة مسارات التهدئة أو الحلول، كل ذلك وضع أردوغان أمام تحديين، الأول يتمثل في قدرة أردوغان على تخطي لاعبين من الوزن الثقيل، وهم فاعلين ومؤثرين في الأزمات الإقليمية والدولية، والثاني عدم قدرة تركيا على الإفراط أكثر في تحمل أعباء الدور التركي والموقع الجيو استراتيجي المُتميز، خاصة أن الإفراط في تحمل أعباء الدور والموقع، أودى تاريخيًا بقوى إقليمية ودولية، وأفضت إلى انهيارات وتراجع وحتى اندثار، فهل يستقي رجب طيب أردوغان العبر من الدروس التاريخية التي قرأ عنها؟.

*إعلامي وكاتب من سوريا

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...