قراءة فكرية في وصول طالبان إلى الحكم في أفغانستان

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

*إبراهيم الديب

 

 

 

عن المرجعيات والمنطلقات والأفكار نبحث سعيا للوصول إلى حقائق الأشياء، وامتلاك مقدمات الاستشراف، وتعزيز الوعي الجمعي العربي نخبا وشعوبا في مشروع اليقظة والنهوض الحضاري القادم.

دعونا نتجاوز ملابسات وصول طالبان للحكم على أهميته ودلالته، وماذا إذا كان قد تم وفق صفقة ما والحديث عن ملامح هذه الصفقة؛ فهذا ملف خاص، لنوجه البوصلة الآن صوب المستقبل، ونسأل ماذا بعد استلام طالبان الموسومة بالإسلامية للسلطة في أفغانستان؟

أولا: قراءة تقديمية للتنظيمات الدينية عامة

لتنشيط الذاكرة، وبناء السياق العام الذي تم وضع طالبان فيه، حتى يمكن رؤيتها بوضوح:

رفض التنظيمات الدينية من قبل النظام الدولي الأميركي والغربي والصفوي كمنافس حضاري مستيقظ وقادم بقوة، ومن ثم حافزتيها العدائية ضده ومحاربته بكافة أشكال الحرب الهجينة لإيقافه وإفشاله، بالرغم من ضعفه وهشاشته الفكرية والتنظيمية، ومن سعة انتشاره الفطري، ورصيده التاريخي الكامن.
نجاح النظام الدولي -منذ أحداث سبتمبر/أيلول 2001- في بناء حائط صد معنوي ومادي كبير بتوسيم الإسلام بالإرهاب، والاستثمار فيه بقوة في مواجهة أي دولة وفصيل يريد إجهاضه، وحصاره، وعزله وإقصاؤه.
الجمود الفكري والتنظيمي الذي تعانيه التنظيمات الدينية والذي خلق فجوة كبيرة بينها وبين الدولة الحديثة والعالم
ضعف القدرات البشرية للتنظيمات الدينية على مستوى النخب والأفراد مقارنة بما يجب أن تكون عليه لتحقيق أهدافها التي تعلنها، وكذلك مقارنة بمعايير القيادة، والمعايير المهنية للقوة البشرية في العصر الحديث.
كل ذلك ساهم في غياب قدرتها على الحكم وإدارة الدولة، وذلك ما أكدته التجارب العملية في مصر والجزائر والأردن وتونس، من ضعف قدرتها على مغالبة تحديات المنافسة السياسية من جهة وإدارة الدولة وحل مشاكلها من جهة أخرى.
المسألة ليست بالافتقار إلى المعارف والمهارات والخبرات التي يمكن تحصيلها بالتدريب على التخطيط وإدارة الدولة، بل أعمق من ذلك؛ حيث تكمن المسألة في طبيعية البنية الفكرية التقليدية القديمة لمفاهيم الدين، وعلاقتها ودورها في صناعة وإدارة الحياة وتحقيق العمران والتنافس الحضاري المطلوب، والتي تغافل الإسلاميون عن العمل عليها وتجديدها.
وفي طريقة التفكير النابعة من العقل والجهاز المعرفي الذي يحمله والذي يتعاطى مع العالم من حوله وفق قوالب صماء جامدة، تؤدى إلى مخرجات غير صحيحة.
حالة الاستعلاء المجوف التي تعيشها التنظيمات الدينية والتي تخلط بين الدين كمقدس من الله تعالى صالح لكل زمان ومكان، وبين فهمها هي له، وقدرتها على تجديد أفكاره في كل عصر ومصر، ومدى التزامها هي به، مما أورثها حالة من الاستعلاء والانكفاء على الذات وغياب القابلية للتعلم والتطور.
يجب تصميم عقيدة عسكرية تنطلق من معطيات الهوية الوطنية للدولة، وفهم النظام الدولي والتعاطي معه وفق قدراتها ومكانها فيه، وتكوين جيش وطني واحد، وجمع السلاح، وتحويل المجتمع الأفغاني إلى مجتمع مدني يخضع لسلطة الدولة، ويمتلك جيشا نظاميا محترفا يدافع عنه.

ثانيا: التحديات السبع الكبرى التي تواجه الشعب والدولة الأفغانية

هناك جملة من التحديات الكبرى التي تواجه الشعب والدولة الأفغانية والتي ستكون محلا عمليا لاختبار حكم طالبان:

1. تحدي هوية الدولة:

يكون ذلك في مدى استيعاب الحركة لتعدد وتنوع العرقيات الأفغانية والتي تشترك جميعها في حمل السلاح، والخبرة الطويلة على استخدامه، وقدرتها على جلب كميات منها.

البشتيون ما بين 40 إلى 50%.
الطاجيك حوالي 37%.
الهذارة حوالي 9%.
التركمان حوالي 2%.
الأوزبك حوالي 9%.
مجموعات أخرى 2.5%.
ويبقى التحدي الأول والأساس هو هل ستتمكن طالبان من تصميم مشروع للهوية الوطنية الأفغانية يستوعب ويقنع ويرضي كافة المكونات العرقية على التراب الوطني الأفغاني ويمنحها جميعا مواطنة أفغانية كاملة الحقوق والواجبات؟

2. تحدي بناء عقيدة عسكرية وجيش واحد للشعب الأفغاني

يجب تصميم عقيدة عسكرية تنطلق من معطيات الهوية الوطنية للدولة، وفهم النظام الدولي والتعاطي معه وفق قدراتها ومكانها فيه، وتكوين جيش وطني واحد، وجمع السلاح، وتحويل المجتمع الأفغاني إلى مجتمع مدني يخضع لسلطة الدولة، ويمتلك جيشا نظاميا محترفا يدافع عنه.

3. تحدي البنية المادية الأساسية للدولة

ومعلوم أن أفغانستان -على سعتها- تعد أفقر دول العالم في بنيتها الأساسية للدولة (شبكات الطرق والجسور والمياه والكهرباء والصرف والمساكن والمدارس والمستشفيات، وغير ذلك).

4. تحدي بناء الإنسان والمجتمع الأفغاني وفق معايير العصر الحديث

وهذا يشمل مدى قدرة طالبان على تطوير الوزارات؛ التعليم والثقافة والإعلام والشؤون الاجتماعية والشباب والرياضة والأوقاف والشؤون الدينية، لسرعة إنتاج المواطن الأفغاني القابل في الاندماج في النظام العالمي والتعاطي معه وتبادل الاستفادة معه.

5. تحدي بناء الدولة

ببناء وتطوير كافة قطاعات الحياة الإنتاجية من زراعة وإنتاج حيواني وصناعة وتكنولوجيا، واستخراج الطاقة والمعادن، وإنشاء اقتصادي قوى قادر على الوفاء باحتياجات الدولة وتحقيق الأمن الشامل والاستقرار الاجتماعي والسياسي، وذلك على مراحل ووفق خطط إستراتيجية بعيدة ومتوسطة وقصيرة المدى.

6. تحدي التعاطي مع المصالح والمكتسبات الأجنبية المعتادة من أفغانستان

أمام طالبان تحدي تعدد المصالح الأجنبية في أفغانستان والتمكن الأجنبي، وتقاطع مصالحها في شبكة معقدة من المصالح والمنافع التي تتحصل عليها الدول الكبرى من معادن وثروات أفغانستان لعقود طويلة بشكل شبه مجاني، والتي تحتاج إلى مراحل من العمل السياسي المطول حتى تتمكن من التحرر التدريجي ومن تعظيم مكتسباتها الوطنية.

7. الوفاء بالمعايير الخاصة بالنظام الدولي لضمان الاعتراف بها ودعمها

والتي تتوقف على عوامل متعددة؛ منها القدرة على إدارة المصالح المشتركة مع الدول الكبرى وفق القوانين الحالية وما هو متاح وممكن في الوقت الحالي، بالإضافة إلى مرونتها الفكرية وتحليها بمقدار لازم من البراغماتية السياسية.

وأعتقد أن هذه التحديات السبعة -وما تتطلب من استجابة وتعاطي- تمثل الحد الأدنى الذي يمكن معه الانطلاق لبناء الدولة الأفغانية الحديثة.

ثالثا: تحديات داخلية خاصة بالحركة

كما تعاني الحركة من داخلها من بعض التحديات الخاصة التي يجب تداركها سريعا والتي يتوقف علاجها على مدى استماعها للنصح الجاري حاليا والاستفادة منها، وقدرتها على تأسيس بنية بحثية وإنتاج معرفي متجدد داعم لتفكيرها وصناعة قرارها. ومن هذه التحديات:

البنية الأيديولوجية والفقهية الجامدة المغلقة للحركة وتعاطيها مع أسئلة الواقع المعاصر واختلاف آلية صناعة القرار الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي المطلوب التحول إليها عن آلية صناعة القرار العسكري التي تمرست عليه الحركة لما يقارب نصف قرن.
طريقة تفكير الحركة وفق استنباطات الأحكام الدينية القديمة، وغياب تجديدها ومرونتها القادرة على الاستجابة إلى براغماتية الحكم والعصر، وهي طريقة تؤكدها تصريحات محمد نعيم المتحدث باسم المكتب السياسي للحركة وما تضمنته من دلالات:

1. مرونة براغماتية في عالم الإجراءات والشكليات العام، مثل زي وتعليم وعمل المرأة والعفو العام.

2. غياب الرؤية والخطة والمسارات الإستراتيجية المعدة مسبقا لإدارة الدولة، فقد تكررت على لسانه أن الحركة تفاجأت بسرعة سقوط البلاد، وأنها ستفكر وتعد الخطط والمشاريع اللازمة لبناء وإدارة الدولة بما يؤكد غياب الخيال والجاهزية الخاصة ببناء وإدارة الدولة وفق معطيات العصر الحديث، وهو ما ينبئ باصطدام قادم مع الشعب نتيجة عدم القدرة على تلبية احتياجاته الأساسية للحياة وسير الدولة.

3. ما تم تقديمه من تطمينات خاصة بالمرأة والتعليم، والعلاقة بدول الجوار، والتعايش مع النظام الدولي والتعهد بعدم استخدام أرض أفغانستان كملاذ أو داعم للإرهاب، وإني أعدها كلها من التطمينات والمسكنات غير المؤسسة على بنى فكرية صلبة، لحين المرور واستلام الدولة والاصطدام بالواقع الحقيقي، وعندها ستظهر مخرجات الأفكار المستبطنة، والألغام الفكرية، ونتائج الضعف والقصور الفكري، والتخطيطي والقيادي والبشري.

رابعا: الأيديولوجيا الخاصة المسيطرة وما تتضمنه من ألغام فكرية:

سيطرة مفهوم القوة وكسب مساحات من الأراضي والسيطرة عليها؛ عوضا عن مفاهيم التعايش مع الواقع وإدارة مقدرات الحياة المتوفرة من بشر وموارد ومعرفة وعلاقات وفرص.
الغياب التام للاستشراف والتخطيط والإعداد والجاهزية الاستباقية لإدارة الدولة، وعدم امتلاك أي خارطة طريق لأي مجال من مجالات الحياة في أفغانستان الدولة. ومن خبرتنا الخاصة بالتنظيمات أرجع ذلك إلى استبطانهم فكرة أن إدارة الدولة أمر هين وبسيط جدا أمام التنظيم الناجح في الانتصار على المستعمر الأميركي وطرده.

الاستناد إلى مبدأ الخصوصية وتميز كل مجتمع ودولة عن غيرها، ومقارنة أنفسهم -من جهة كونهم تنظيما منتصرا- بالخصوصيات الأميركية والألمانية واليابانية وغيرها، من دون امتلاك أية مقومات فكرية أو حضارية تعبر عن هذه الخصوصيات، وتطبيق ذلك على تصوراتهم المستقبلية.
عدم الاعتراف بالانتخابات، وادعاء امتلاكهم بديلا آخر، بدأت تتكشف ملامحه على ألسنة بعض المتحدثين منهم، بنقل هيكل التنظيم الطالباني على الدولة بالتعيين، مما يحمل في مضمونه إقصاء الآخرين عن المشاركة في الحكم، وإشراك البعض من أهل الثقة من خارجهم وفق المعايير التي يحددونها هم، بمعنى أنهم يقدمون مفهوما جديدا للمشاركة الوهمية غير التي تعارف وتعاقد عليها العالم الحديث.

الفهم الأحادي المغلق لحقائق ومقاصد الدين وتشريعاته وأحكامه الفقهية والذي سيخلق عددا من النتائج الكارثية مستقبلا عند محاولة تطبيقه؛ ومنها التقادم والتخلف، وعدم القدرة على تلبية احتياجات الواقع، والعزلة، مما سيضع الشعب أمام سؤال الدين نفسه وعدم صلاحيته للحياة الحديثة وفي هذا ظلم كبير للدين، حيث إن أصل المشكلة هي في فهم الدين وغياب القدرة على تجديد مفاهيمه وتطبيقاته وفق معطيات وأسئلة العصر.
أمر بالغ الخطورة تم ملاحظته في طريقة تفكير المتحدث الرسمي؛ وهو سيطرة التفكير التبريري والذي يعد كارثيا في ذاته، في حرمان أصحابه من الوقوف على الحقيقة ونقد وتطوير الذات والهروب إلى التبرير بأشكال مختلفة أهمها -كما طرح هو- سرعة سقوط كابل، بالإضافة إلى ما يتم استخدامه دائما من قبل التنظيمات في تفسير الصراع الطبيعي على المصالح إلى نظرية المؤامرة.
حقائق العقل والعلم والتاريخ تؤكد أننا أمام تجربة ومحاولة إسلامية جديدة، مليئة بالتحديات الضخمة، ومحفوفة بالمخاطر الكبيرة والقدرات المحدودة، وبطبيعة الحال لا تكفيها النيات الطيبة.

*كاتب ومفكر متخصص في تخطيط وبناء القيم والمحافظة على الهوية، رئيس مركز هويتى لدراسات القيم والهوية كوالالمبور

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...