*ذ.عبدالبصير جمال عيد
كيف عساك أن تتصرف إن وجدت نفسك تعبث بعشٍ للدبابير؟! تلك الدبابير القاتلة التي لا ترحم. تطلق هذه الدبابير فيرمونات من شأنها أن ترسل رسائل لباقي المجموعة “أن هلموا إلى هنا.. يوجد فريسة علينا أن نُجْهِزَ عليها”. فتجتمع الدبابير من كل حدبٍ وصوب.
حالنا نحن مع أصحاب الفكر المتعصب عندما نقترب منهم كحال ذلك الكائن الذي يقترب من عش الدبابير. تنهال عليه باللسع، وكذلك ينهال عليك المتعصبون بالتفسيق والتبديع والتكفير ويرمونك بالانحراف الديني والفكري ويرمقونك بأقلامهم العمياء متغاضين عن الفكرة والمضمون.
ليس المهم من أنت وبماذا تكلمت وما هي الفكرة التي تريد أن تناقشها أو ما هي وجهة النظر التي تخالفهم بها؟! بل إن كل ما يشغل تفكيرهم في تلك اللحظات هي أنك خالفتهم وأنك لا تنتمي إليهم، وقد وضعوك بين خيارين لا ثالث لهما إما معنا فنصفق لك أو علينا فنشن حرباً عليك.
يقدسون الأشخاص وكلامهم كما تقدس الدبابير نداءات ملكتهم، فلا تستطيع عقولهم أن تفكر في شيء آخر سوى رائحة الرأي الواحد. كلام شيخهم هو الرأي الذي لا ينطق عن الهوى، وهو المرجع وهو الفقه وهو السند والمتن الذي يرتكزون عليه كلما تخلخلت أفكارهم الهشة. للأسف هذه حال الكثير من الشباب المتعصب في وسائل التواصل الاجتماعي عندما تشاركهم في تعليق تبدي فيه رأياً مخالفاً.
هذه الحال تسلط الضوء على أوضاع الكثير من الشباب العربي الذين ما يزالون فريسة سهلة سائغة لأصحاب الفكر المتشدد. متناسين بذلك تعاليم الإسلام الدين الحنيف الذي يحثُ على التسامح والعيشِ المشترك بين الشعوب. ومن المؤسف أن أول المتضررين من أصحاب هذا الفكر هم الشعوب المسلمة، وهذا ما شهدناه في سوريا والعراق وغيرها من الدول العربية والإسلامية، التي أنتجت عندهم أمثال داعش والحشد وغيرهم. وقد صدَّرت عند الغرب بما يعرف بالإسلاموفوبيا، فكانت خنجراً مسموماً يستخدمه أعداء الإسلام بيد المسلمين أنفسهم.
وفي معرض هذا السياق أذكر الآية القرآنية حيث قال تبارك وتعالى في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (13)
وقال تبارك وتعالى في سورة النحل:{ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125)
وقال تبارك وتعالى أيضاً في سورة آل عمران:{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) }
فالدعوة بالحسنى واللين هي من صفات خير المرسلين – محمد صلى الله عليه وسلم- وهو خير من نقتدي به. وعلى مثل خُلُقِه فُتحت البلاد وتَطهرت من عَبَدَةِ الأوثان، فأحرى بنا أن نقتدي بنبينا الكريم ونسير على نهجه. فمن نتائج التقوى ومنهاج النبوة أن يعيش البشر متسامحين فيما بينهم متآلفين لا متنازعين مختلفين.
إن السلوك الذي يسير عليه المتعصبون هدفه النيل من الآخر وقتل كل ما فيه من إنسانية، ففقدان الحس الإنساني من خلال عدم تقبل الرأي الآخر وتحويل الحوارات إلى الرأي الواحد يكشف أن الأزمة الحقيقة في الوطن العربي هي ليست أزمة اختلافات بقدر ما هي أزمة أخلاق مستعصية الحل، وذات نتائج كارثية.
إن سياسة التجهيل الممنهج وتكريس التعصب المذهبي المنتمي لتيارات فكرية ودينية تعزز التفرقة وفكرة الرأي الواحد الذي لا يحتمل الخطاً؛ هو من ينشئ عش الدبابير الذي يعكر صفو مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
الإنسان مطالب باحترام الرأي الآخر والرد عليه بالدليل والبرهان، وأيضاً مطالب بأن يبحث عن المعلومة في المصادر المعرفية المعتبرة وهذا عامل مهم في توسيع مدارك المعرفة عند الإنسان، منبهاً إلى أن الاقتصار على قناة واحدة لأخذ المعرفة هو إجحاف وظلم بحق العقل البشري.
مما سبق نخلص إلى أن الإشكال القائم في التعصب إنما هو اشكالٌ سلوكيٌ أخلاقيٌ بدأ في العقول الجاهلة وتترجم إلى واقعها. وختاماً أُذكِر بالحديث النبوي الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
( إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ ) رواه البخاري (39) ومسلم (2816)
*كاتب وخبير تربوي





