استقالة أم أزمة حكم في تونس؟

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

سالم لبيض

 

على الرغم من صدور الأمر الرئاسي، عدد 50 لسنة 2022، الذي “ينهي تكليف السيدة نادية عكاشة بمهام مديرة الديوان الرئاسي”، المنشور في الجريدة الرسمية (الرائد الرسمي) للبلاد التونسية الصادر في 25 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2022، فإن الاستقالة التي أعلنتها مديرة الديوان الرئاسي التونسي من منصبها يوم 24 من الشهر نفسه، التي لاقت أهمية وتداولاً كثيفاً في وسائل الإعلام والمنصّات الاتصالية والدوائر السياسية المحلية التونسية والأجنبية، لم تفقد بريقها واحتلالها صدارة الوقائع السياسية ذات الأهمية والتأثير المباشر في الرأي العام. ولا يعود هذا الاهتمام والتداول الاستثنائي لخبر التخلّي عن المنصب إلى وظيفة نادية عكاشة الإدارية والتنظيمية في أعلى سلم التراتب الإداري في مؤسسة رئاسة الجمهورية، فقد تولى هذه الوظيفة في زمن حكمَي الرئيسين السابقين، المنصف المرزوقي والباجي قائد السبسي، آخرون واستقالوا منها من دون إثارة أي لغط أو جدل، وإنما يرجع إلى الدور السياسي الهام والمحوري الذي تولته رئيسة الديوان الرئاسي سنتين متتاليتين أو يزيد، بعد فوز قيس سعيّد في الانتخابات الرئاسية سنة 2019. فقد استطاعت أن تلازم رئيس الجمهورية كظلّه في مختلف الأنشطة التي يقوم بها داخل قصر قرطاج وخارجه، وفي أثناء زياراته الخارجية ومهامه الدولية واستقبال ضيوفه الأجانب وتوديعهم، فهي صندوق أسراره وحافظة بياناته ومدوّنة أفكاره ومستشارته الأولى وجليسته التي لا تغيب عن منتدىً من منتدياته، وخصوصاً لقاءاته مع رؤساء الدول، ومجالس الوزراء التي ترسم السياسات العامة وتوافق على المراسيم والأوامر الرئاسية، وجلسات مجلس الأمن القومي التي تنعقد بحضور وزيري الدفاع الوطني والداخلية وقادة الجيوش، وتنظر في قضايا الإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للحدود، وتتداول في أدقّ أسرار الأمن الوطني وخفاياه وارتباطاته بالدول الأخرى الشقيقة والصديقة والحليفة والمناوئة وبالمصالح الإقليمية والدولية والمعسكرات الحامية لتلك المصالح وصراعاتها الأمنية والعسكرية.

قيس سعيّد قدم إلى السلطة بمشروع هلامي خالٍ من الواقعية

وقد تضاعف هذا الدور وتدعّم بعد أحداث 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2021 التي عاشتها عكاشة من موقعها المتقدّم جداً في الدولة وقصر قرطاج، فهي تعرف أسرار الحراك الاحتجاجي لتلك الليلة وقادته ومنظّميه ودور القوى الداخلية والخارجية في تأجيجه والقوّة الصلبة التي أسندته، وأمنت للرئيس اتخاذ قراراته الخطيرة واختياراته في تجميد البرلمان وغلقه، في سابقةٍ لم تعرفها تونس من قبل، وتنحية هشام المشيشي وإسقاط حكومته ليحلّ محلها فريق نجلاء بودن الحكومي، وتعليق العمل بالدستور التونسي لسنة 2014، واستبداله بالنظام المؤقت للسلطات العمومية المعروف بالأمر الرئاسي عدد 117 المؤرخ في 22 سبتمبر/ أيلول 2021، ما ساعد الرئيس سعيّد على تولّي السلطات كافة، والاستفراد بها، بعد أن كانت موزّعة بين قصور الحكم في باردو والقصبة وقرطاج، كما ينصّ على ذلك الدستور التونسي، فقد كان لنادية عكاشة دور كبير في تسمية الوزراء والحكومات، فهي من جاءت بهشام المشيشي مستشاراً لدى رئيس الجمهورية، ثم وزيراً للداخلية في حكومة إلياس الفخفاخ، ثم رئيساً لحكومة الرئيس الثانية، وهي من هندس حكومة بودن واقترحت أغلب وزرائها، وكان لها دور بارز في التسميات المفتاحية والوظائف العليا في الدولة التونسية.

لا يمتلك رئيس الجمهورية معرفةً واسعةً بالشخصيات التي تتوافر فيها كاريزما الحكم والتسيير والتجربة والحنكة

ولا يفيد في شيء، بعد هذا الدور والمكانة المتقدّمة لمديرة الديوان الرئاسي في سلم الحكم في تونس، الاكتفاء بتفسير الاستقالة أو الإقالة بالمؤامرات والدسائس وصراع مراكز النفوذ في قصر الرئاسة ودوائر السلطة، بين جماعة وزير الداخلية المتحالف مع لوبيات نافذة تجد الدعم من عائلة قيس سعيّد وعكاشة التي عملت على حماية موقعها، ثاني أهم شخصية في سلم الدولة التونسية، حتى إنها صارت أكثر أهميةً من رئيسة الحكومة، بدعم بعض المدوّنين المساندين للرئيس، مع غلق نوافذ التواصل الرئاسي مع شرّاح المشروع الرئاسي للبناء القاعدي ومفسّريه، وكسب ودّ قادةٍ أمنيين سابقين، وتمكينهم من مناصب هامة في الداخل والخارج، ما قد يكون عجّل برحيلها. وإنما تحصل الفائدة بالاعتراف بأن الرئيس قيس سعيّد قدم إلى السلطة بمشروع هلامي خالٍ من الواقعية، فهو لم يقدّم برنامجاً للحكم في حدود ما يمنحه الدستور من نفوذ وصلاحيات بعد انتخابه سنة 2019، ولم يضع خطّة للحكم وإنقاذ البلاد من أزماتها الاقتصادية والمالية والاجتماعية والقيمية التي تراكمت في أثناء عشر سنوات من حكم الإسلام السياسي وإدارته الدولة التونسية القائمة على ثنائية الغنيمة والتمكين، بعد أن أنطق الفصل الـ 80 من الدستور بما لا ينطق، وجمّع كلّ السلطات في يده. وبعد ستة أشهر من “النظام الرئاسي الخالص” الذي يلعب فيه الرئيس دور الحاكم المشرّع والمنفّذ، الباحث عن حيّز سلطةٍ في “المرفق القضائي”، وفق التسمية الرئاسية، بما يتلاءم مع الأوضاع الجديدة، فإن مشكلاً جديداً، هو مشكل الديمقراطية والشراكة السياسية والتداول السلمي على السلطة قد أُضيف إلى مختلف الأزمات التي تكدّست وباتت مستعصية الحلول. إذ تعيش تونس اليوم عقماً اقتصادياً ومالياً يحول دون تعبئة 20 مليار دينار لميزانية الدولة المقدرّة بـ 57 مليار دينار، وهي في حاجة إلى القروض لتسديد ما عليها من ديون بالعملة الصعبة، مع وجود رفض واضح من المؤسسات المالية الدولية لإقراض الحكومة، لفقدانها الشرعية الديمقراطية التي تحوّلت إلى عنوان أزمة حكم هيكلية، على الرغم من القبول بكل الشروط المجحفة والمذلّة لصندوق النقد الدولي، وهذا الأمر يقابله اهتمام رئاسي بمناكفاتٍ سياسيةٍ دورية وقضايا ثانوية واستشارات واستفتاءات إلكترونية وهمية لا تصنع برامج سياسية ومخطّطات تنموية وتصورات إنقاذ اقتصادية.

لم يدرك رئيس الجمهورية بعد أن وضع برامج الحكم الهادفة إلى النهوض بالدول والمجتمعات تسبق اختيار الأشخاص لأجل الوظائف والمناصب، وأن تحقيق الأهداف السياسية النبيلة تقتضي ملاءمة الملمح الشخصي لما يُراد تنفيذه من مهام وخطط واستراتيجيات مختلفة سياسية وتنموية وغير تنموية، ما جعله يلجأ إلى التجربة والخطأ في اختيار الشخصيات التي تتولّى المناصب القيادية في الدولة والحكومة، فهو لا يمتلك معرفةً واسعةً بالشخصيات التي تتوافر فيها كاريزما الحكم والتسيير والتجربة والحنكة، وليس له منبت حزبي أو مدني يتولّى التدريب وإعداد الكادر السياسي لمزاولة الحكم يستعيض به عن جمهور المفسّرين الذين جمعتهم حملته الانتخابية من دون وجود رابط فكري أو وحدة موقف سياسي، وإلا ما وقع في شراك الاستقالات المتتالية التي باتت عنوان أزمة حكم حادّة، حتى ممن اعتقد أنهم من مقرّبيه ومريديه، وجديدهم أخيراً رئيسة ديوانه نادية عكاشة.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...