ألغام على طريق خطة لبنان الماليّة

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

علي نور

 

 

لم يكن من الممكن أن تصل الحكومة اللبنانيّة إلى تفاهمها المبدئي الأخير مع صندوق النقد، والذي نصّ على الخطوات التي يفترض أن يقوم بها لبنان قبل الدخول في برنامج قرض الصندوق، لولا قيام الحكومة بإعداد خطّة مبدئيّة للتعافي المالي.

هذه الخطّة، حددت من الناحية العمليّة رؤية الحكومة لكيفيّة التعامل مع الأزمة النقديّة من جهة، وطريقة توزيع الخسائر المصرفيّة، بالإضافة إلى آليّات إعادة هيكلة الدين العام واستعادة الانتظام في ماليّة الدولة.

وهكذا، لم تكن مشكلة التفاهم المبدئي مع الصندوق عدم صياغة خطّة تعافٍ مالي تتوازى مع هذا التفاهم، كما ظن البعض في البداية، بل في صياغة الخطّة دون الإفصاح عن تفاصيلها أمام الرأي العام، وأصحاب المصلحة الذين سيتأثرون بهذه الخطة.

لكن ورغم حرص الحكومة اللبنانيّة على إضفاء طابع السريّة على الخطّة ومندرجتها، حتّى بعد توقيع التفاهم المبدئي مع صندوق النقد، لم يكن من الممكن إخفاء هذه الخطّة عن أعين الرأي العام طويلًا.

فبعد أن أرسلت الحكومة مسودة مشروع قانون “الكابيتال كونترول” إلى المجلس النيابي، والذي يُعنى بقوننة وتنظيم القيود على السحوبات النقديّة والتحويلات من النظام المصرفي، أصر النوّاب في المجلس على الاطلاع على مندرجات خطّة التعافي المالي، قبل المضي بمناقشة تفاصيل قانون “الكابيتال كونترول”.
من الناحية العمليّة، يمكن فهم إصرار النواب على ربط مناقشة مشروع قانون “الكابيتال كونترول” بالاطلاع على تفاصيل خطة التعافي المالي.

فمشروع قانون الكابيتال كونترول، الذي لم يُقر بعد، والذي يُعد أحد الشروط التي يطلب الصندوق تحقيقها قبل الوصول إلى التفاهم النهائي معه، يمثّل أيضًا آخر ما تحتاجه المصارف اللبنانيّة لتشريع القيود غير الرسميّة التي تفرضها على المودعين لديها، والتي تمتنع بموجبها عن سداد التزاماتها لعملائها.
ولكل هذه الأسباب، كان من الطبيعي أن تطلب روابط وجمعيّات المودعين، ونقابات العمال والمهن الحرّة التي تملك صناديقها التعاضديّة حسابات وازنة في المصارف، الاطلاع على خطة التعافي المالي والمسار الذي يُفترض أن يعيد الانتظام إلى العمل المصرفي، قبل إقرار قانون الكابيتال كونترول وإعطاء المصارف هذا الغطاء القانوني.

لم تكن مشكلة التفاهم المبدئي مع الصندوق عدم صياغة خطّة تعافٍ مالي تتوازى مع هذا التفاهم، بل في صياغة الخطّة دون الإفصاح عن تفاصيلها أمام الرأي العام، وأصحاب المصلحة الذين سيتأثرون بهذه الخطة

باختصار، لم يكن من المنطقي تمرير القانون الذي يغطي المصارف ويقونن القيود على المودعين، قبل أن يتأكّد المودعون بأن هذه الخطوة ستكون جزءا من خطة أو خارطة طريق، تكفل الحد الأدنى من الحقوق والضمانات لأصحاب الودائع في المستقبل.

مع الإشارة إلى أنّ البلاد ستحتاج إلى قانون “الكابيتال كونترول” في المستقبل على أي حال، لمنع تهريب المزيد من السيولة من النظام المصرفي بعد الحصول على قرض صندوق النقد.

في كل الحالات، ولأن البلاد باتت على مشارف الانتخابات النيابيّة، وبما أن جميع الأحزاب صارت مسكونة بهاجس الحفاظ على شعبيّتها، تبنّت معظم الكتل النيابيّة مطلب روابط وجمعيات المودعين والنقابات، من خلال الإصرار على تزويد المجلس النيابي بخطّة التعافي المالي التي صاغتها الحكومة، قبل مناقشة مسودة قانون “الكابيتال كونترول”.

وبذلك، وبعد أن أرسلت الحكومة هذه الخطة إلى المجلس النيابي مؤخّرًا، انكشفت تفاصيل الخطّة أمام الرأي العام، وبات بالإمكان مناقشة مندرجاتها. مع الإشارة إلى أن المفارقة الأساسيّة كمنت في إثارة مضامين هذه الخطّة لهواجس المودعين والمصارف على حد سواء، ما يشير إلى أنّ طريق تطبيقها ستكون مليئة بالعقبات.

من جهة المودعين، ضمنت الخطّة سداد الودائع الموجودة داخل النظام المصرفي إلى حدود المئة ألف دولار لكل مودع، وهو ما سيعني تسديد نحو 15.7% من قيمة الودائع المصرفيّة بنفس عملة وقيمة الإيداع.

ورغم أن قيمة هذه الودائع تبدو صغيرة قياسًا بحجم الودائع الإجمالي، من المهم الإشارة إلى أنّ عدد الحسابات التي سيتم سداد قيمتها تمامًا نتيجة هذا الإجراء ستوازي نحو 85% من إجمالي عدد الحسابات المصرفيّة، بالنظر إلى تركّز نسبة كبيرة من قيمة الودائع في عدد محدود من الحسابات المصرفيّة.
في المقابل، وبالنسبة إلى الودائع التي ستتجاوز قيمتها المئة ألف دولار أميركي، تطرح الخطّة ثلاث معالجات للتعامل مع هذه الودائع: شطب جزء من قيمة هذه الودائع، وتحويل جزء آخر منها إلى أسهم داخل المصارف، وسداد الجزء الأخير بالليرة بأسعار صرف تقل عن سعر الصرف الفعلي في السوق.

لكنّ الخطة ورغم إعلانها الصريح عن التدابير التي ستحمّل المودعين جزءا من الخسائر، لم تحدد كيفيّة تطبيق هذه الإجراءات الثلاثة، وبأي نسب وعلى أي شريحة من شرائح الودائع.

المفارقة الأساسيّة كمنت في إثارة مضامين هذه الخطّة لهواجس المودعين والمصارف على حد سواء، ما يشير إلى أنّ طريق تطبيقها ستكون مليئة بالعقبات

بمعنى آخر، لم يكن بالإمكان، وبحسب الخطّة نفسها، فهم نسبة الخسائر التي سيتحمّلها المودعون نتيجة هذه الإجراءات الثلاثة.

وفي النتيجة، لم تعطِ الخطّة الضمانات التي احتاجها أصحاب الودائع، لجهة حقوقهم التي سيتم الحفاظ عليها في مسار التعافي المالي. ولهذا السبب بالتحديد، أثارت مندرجات الخطّة تحفّظات روابط وجمعيّات المودعين والنقابات، التي واظبت على الاحتجاج على هامش جلسات اللجان في المجلس النيابي، للضغط باتجاه عدم إقرار قانون الكابيتال كونترول، على أساس خطّة التعافي المالي التي عرضتها الحكومة أمام المجلس النيابي.

في المقابل، أبدت جمعيّة المصارف سريعًا موقفاً شديد السلبيّة تجاه الخطّة، ورفضت مقارباتها لمعالجة كتلة الخسائر المتراكمة داخل الميزانيّات المصرفيّة. ولعلّ أبرز ما أثار حفيظة جمعيّة المصارف، التي تمثّل مصالح المساهمين في القطاع، البنود التي نصّت على مراعاة “تراتبيّة الحقوق عند استيعاب أو امتصاص الخسائر”، عبر “شطب رأس المال أولًا”، وهو ما يعني عمليًا خسارة أصحاب المصارف لقيمة أسهمهم في القطاع.

ولهذا السبب بالتحديد، لم تكتفِ جمعيّة المصارف بإبداء تحفّظها على مندرجات الخطّة في بيان رسمي، بل بلغت حد التلويح بمقاضاة الدولة في حال ذهابها باتجاه تطبيق هذه الخطّة، فيما قامت الجمعيّة بتكليف استشارييها القانونيين بالإعداد لهذا النوع من الخطوات.

في الوقت نفسه، كان من الواضح أن هناك بنودا أخرى تتعارض مع مصالح النافذين من أصحاب المصارف، ومنها على سبيل المثال البند الذي ينص على الحد من أي مسار يمكن أن يفضي إلى استخدام الأموال العامّة، للتعامل مع خسائر القطاع المصرفي.

فهذا البند مثلًا، والذي جاء بإصرار من صندوق النقد في سياق محادثات وفد الحكومة معه، يتعارض مع أولويّات جمعيّة المصارف، التي تصر على إنشاء “صندوق سيادي” يضم أصول الدولة القابلة للاستثمار أو الخصخصة، لاستخدام عائدات هذه الأصول في معالجة خسائر القطاع المالي.
ببساطة، ستواجه خطّة التعافي المالي معارضة شرسة من القوى النافذة داخل النظام المالي، وتحديدًا أصحاب المصارف اللبنانيّة، لتعارض مندرجاتها مع مصالح هذه الشريحة التي تحاول تقليص قدر الخسائر الذي ستتحمله من رساميلها.

كما ستواجه الخطّة في الوقت نفسه معارضة من النقابات العماليّة ونقابات المهن الحرّة، التي تملك صناديقها التعاضديّة ودائع ضخمة ستكون في مهب الريح في حال تطبيق الخطّة، التي تقتصر ضماناتها للمودعين على حدود المئة ألف دولار للحساب الواحد. وأخيرًا، لا يبدو أن الخطة بما حملته من بنود قد تمكّنت من تطمين روابط وجمعيّات المودعين، نظرًا لغموض معالجتها المتعلّقة بالودائع الكبيرة.
في نتيجة كل هذه المعطيات، من الأكيد أن طريق التعافي المالي، وبحسب الخطّة الماليّة اليوم، ستكون مليئة بالألغام الكفيلة بعرقلة تنفيذها بعد إجراء الانتخابات النيابيّة.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...