«بلاغة الواقعية الجديدة في الرواية العربية»: الانفلات من قيود التصنيف التي تقيد حرية الابداع

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

 

*محمد بوسلام

 

 

 

صدر حديثا عن دار إيدسيون بلس، مؤلف نقدي جديد للباحث إبراهيم الكراوي تحت عنوان «بلاغة الواقعية الجديدة في الرواية العربية» يتوزع الكتاب إلى قسمين نظري وتطبيقي، ويحاول أن يتتبع تمثيل الواقعية الجديدة في الرواية المعاصرة، باعتبارها موضوعا للتفكير في الواقع وأفقا لمواكبة أسئلة العصر وقضاياه.

ينطلق الناقد في هذا المؤلف من مجموعة الأسئلة التي تؤطر قضية الواقعية الجديدة وأفق الإبداع الروائي الراهن. فقد حاولت الرواية العربية حسب الناقد، مواكبة قضايا الذات العربية وأسئلة العصر والمجتمع من خلال تمثل الواقعية. بيد أن هذا لا ينفي انشغالها بالمحتوى على حساب جماليات الرواية والشكل التعبيري الذي يرسم حدود الواقعية الجديدة. ومن هذا المنطلق، تحولت الواقعية في الرواية المعاصرة، كما يرى المؤلف، من مادة تعالج محتوى الواقع، كما عهدنا في الواقعية الكلاسيكية، إلى شكل للتعبير يكشف جماليات الرواية، ويفكك الواقع ويشرح الذات ويستنفر الأسئلة، بل يحاول إعادة بناء الواقع، من خلال نسج مختلف الرؤى للعالم. ومن هنا فالواقعية في النص الروائي الجديد – حسب ما يتوصل إليه المؤلف – واقعيات تنفلت من قيود التصنيف والمعيارية التي تقيد حرية الإبداع والتخييل.

تكشف الأسئلة التي انطلق منها المؤلف هاجس الحفر في الخطاب الروائي العربي ومختلف آفاقه… يقول في هذا السياق: «إن مقاربة الواقعية في الرواية يظل محفوفا بمخاطر السؤال وإشكالية القضية. فهل يعني تمثل أسلوب الواقعية إقصاء للتخييل؟ أم نوعا من تخييل الواقعية؟ هل هناك حدود للواقعية؟ ما الحدود القائمة بين الواقعي والتخيلي؟ ما حدود العلاقة التي تربط الرواية ذات النزعة الواقعية بالتاريخي والسيكولوجي والسوسيولوجي؟ هل الواقعية منهج، مذهب أم أنها تبقى خطابا جماليا تتقاطع فيه كل المكونات الأنثروبولوجية، التاريخية، الاجتماعية؟».

فالذات /الكاتب يتجاوز تصوير الواقع إلى مستوى بناء إدراك جديد للواقع والتفكير فيه، باعتماد السرد والتعبير اللغوي. ففي الفلسفة الماركسية يتمثل النص الجيد بوصفه يتناول الصراع بين الطبقات، ويكشف واقع الاستغلال المادي. ويشير الكاتب إلى أن هذه النظرة الأيديولوجية تعرضت لجملة من الانتقادات، ومن ثم تطورت مع نقاد مثل لوسيان غولدمان، وتيار الرواية الجديدة مع ميشيل بوتور، وألان روب غرييه، وناتالي ساروت، وريموند كينو، وغيرهم. فضلا عن رواد النقد والفلسفة في الغرب الذين ساهموا في بلورة تصورات لواقعية جديدة انعكست على الإبداع الروائي. ويكفي أن نذكر، على سبيل التمثيل، رولان بارت وجيرار جينيت وإرنست كاسيير وهوسرل وموريس بلانشو وجاك دريدا.

ويؤكد الكاتب أن تطور المناهج النقدية كان من أبرز العوامل التي انعكست على تطور تصور للواقعية يتماشى وأسئلة العصر، ونذكر بالخصوص المنهجين السيمولوجي والتفكيكي.. وبذلك نجد المؤلف ينتقل في الفصل الثاني إلى التساؤل عن حدود «الواقعية»؛ وإمكانية الحديث عن «واقعية جديدة» كما أشار إليها روجي غارودي وكلود ليفي ستراوس ودريدا وغيرهم. هذه الواقعية تمارس في سياق مختلف يفرز أشكالا جديدة لتمثل الواقع يسميها المؤلف «بلاغة الواقعية». في هذا الإطار يكشف الناقد، أن الواقع الجديد لا يظهر الواقع مباشرة، بل من خلال الأنساق التي يختفي وراءها كما ذهب إلى ذلك إرنست كاسيير.

وهكذا لا يمكن الحديث اليوم عن واقعية واحدة، بل واقعيات تتميز فيها كل تجربة سردية بما يميزها عن غيرها. هذه الواقعية الجديدة المعاصرة تفكر في الأنا والآخر، وتبحث في واقع متحرك يصعب القبض عليه، لأنه يختلف باختلاف المراحل والسياقات؛ ما ينفي أحادية الواقع. فالواقع والواقعية يتراوحان بين الممكن والمحتمل، المتصل والمنفصل، الخيال والواقع.

يكشف المؤلف في القسم التطبيقي من هذا المؤلف أن السارد العربي المعاصر، توسل بمكون الذاكرة بوصفه امتدادا لحضور مكون الواقع والانتقال إلى الواقعية، من أجل تمثل قضايا الوجود وإدراك الواقع، من زاوية يريدها أن تكون متحررة من المطلقية في التفكير والأحادية، وتقود إلى اكتشاف الذات والعالم وفق أبعاد زمانية ومكانية معاصرة. فالواقعية الحديثة حسب المؤلف تتحرر من الارتباط الشكلي بالحدث، وتروم سبر الواقع بعيدا عن المطلق والثابت، وقد تدمج الواقعي بالتخييلي وتستعين بكل أصناف الاقتباسات والفضاءات والأبعاد، وتصوغ الواقع بطريقة مغايرة، كما يتضح ذلك من رواية «المغاربة» لعبد الكريم الجويطي، و«هنا الوردة» لأمجد ناصر و«طفل الملهاة» لإبراهيم نصر الله و«أولاد الغيتو» لإلياس خوري. فهي نصوص تكشف بلاغة الواقعية الجديدة بأساليب وتصورات مختلفة، تشتغل على تمثيل جدلية الواقع والمتخيل، متحررة من النظرة المعيارية للإبداع الروائي.

يعتبر حضور الذاكرة والموت من مظاهر تمثيل الواقعية في الرواية العربية، باعتبارها مخزونا ذاتيا وجماعيا وفضاء لتأمل الواقع، ومساءلته. في هذا الإطار يؤكد الناقد في سياق مقاربته التطبيقية، أن البطل «يونس الخطاط» في رواية «هنا الوردة» يعكس الذاكرة الفردية والجماعية، والموت فيها علامة على وجود محدد وذاكرة تكشف عن الأسرار، أما في «المغاربة» لعبد الكريم جويطي فتنبعث الذاكرة من رماد الموت، ويشير الناقد في الرواية إلى أن الموت في قد ينحرف عن مساره الطبيعي ليصبح موتا رمزيا يكرس ألم الانفصال عن الذاكرة وفقدان الهوية.. على عكس من ذلك تتوقف الحياة في شخوص رواية «رجال تحت الشمس» لغسان كنفاني عند الحدود، وتتماهى الكتابة في رواية «أولاد الغيتو» لإلياس خوري بالذاكرة، بوصفها ذاكرة المؤلف والسارد الذي يستعيد مأساة الشعب الفلسطيني، ومعاناته داخل المكان والتاريخ. فهو لا يواجه الموت من داخل الوطن ولا يهاجر ليصبح موته مضاعفا، بل يهرب إلى الموت بفعل ازدواج الهوية والبعد عن الوطن.

وفي رواية «ممر الصفصاف» تغوص الذاكرة في الفضاء بوصفه تقابلا بين الهامش والمركز. فذاكرة الراوي تنقل معاناة شخوص الهامش في مواجهة شطط المركز، بكل تجلياته وتشرح بنية مجتمع الظلم والقمع والاستغلال والاستخفاف بالقيم.

ولعل أبرز مظاهر بلاغة الواقعية الجديدة هو الفصل الذي يقترح فيه مفهوم الانزياح السردي في علاقته بخطاب الواقعية، انطلاقا من رواية سليم بركات ”هياج الأوز» فقد حاول الناقد من خلال مقاربة هذه الرواية اكتشاف أحد خصائص الواقعية كما يتجلى انطلاقا من التحرر من قيود الواقعية الكلاسيكية، والبحث عن واقعية جمالية تستجيب لأسئلة العصر، كما يظهر من خلال تمثل قضايا الهوية والهجرة والاغتراب والغوص في سيكولوجية الشخوص في ظل واقع الهجرة.

ويكشف لنا الناقد من خلال تحليل رواية «بلاد القايد» للروائي اليمني علي المقري، بلاغة الواقعية الجديدة في الرواية العربية من خلال رمزية البناء والأنساق الدالة والمادة الروائية التي تراهن على سبر الواقع، وتحويله إلى محتوى ينسج روائية النص عبر تعدد الخطابات وحوار الأجناس. فيصبح الواقع مادة قابلة للإدراك من منظورات متباينة. ويلاحظ المؤلف في سياق تحليله لرواية المقري، أنها نص ينهل من أسلوب جمالية القصة من أجل نسج عوالمها التخييلية والواقعية. فهي رواية كما تكشف عن ذلك مقاربتها، تدمج بين الروائي والرحلي والسيري للكشف عن فضاء طرابلس وزمن الربيع العربي ووقائعه متوسلة بالشعري، من أجل إنتاج ثنائيات الواقع…

وينتقل بنا المؤلف في الفصل الرابع إلى قضية تشكل الخطاب الروائي وارتباط السرد بذاكرة الشخوص والواقع المفعم بأسئلة الفكري والجمالي والإنساني، من خلال رواية «بأي ذنب رحلت» لمحمد المعزوز، فالواقعية هنا تتمثل بوصفها موضوعا للتفكير وأفقا لإعادة مساءلة المرحلة وبناء الحاضر. ويؤكد الناقد أن الحكي ينفتح على العمق الإنساني بكل أبعاده الثقافية والرمزية والجمالية، منطلقا من السرد لينتهي إلى التمثل الأنثروبولوجي. وبما أن سرديات الذاكرة في هذه الرواية تتشكل من المفارقة الزمنية ونسق الشخوص، فهي نتاج رمزي وثقافي لوضعيات إنسانية تعيش الزمن بوصفه سؤالا وجوديا وفكريا يتقاطع فيها الواقع والتخييل. فيصبح الجمالي شكلا للتعبير الروائي، ونسقا كاشفا لبلاغة الواقعية الجديدة، كما يظهر من خلال تقاطعات البصري والروائي، حسب الناقد.

ويتناول المؤلف في الفصل الخامس مظهرا من مظاهر جماليات الواقعية في الرواية العربية المعاصر انطلاقا من مقاربة سرديات الذاكرة بين تمثيل التاريخ وبلاغة الواقع، من خلال رواية «مصائر كونشيرتو الهولوكوست والنكبة» لربعي المدهون.

وتتمثل جمالية الواقعية في هذه الرواية، حسب الناقد، في التقاطع بين المرجع التاريخي الواقعي والاستعارة من عالم الموسيقى، لتوجيه القارئ وبناء الحوار والتواصل معه. ولكشف جماليات الواقعية في هذه الرواية يتوسل المؤلف بمفهوم «المحاكاة الإبداعية» التي تعتبر من أبرز ركائز خطاب الواقعية، وأحد مظاهر تحديث الكتابة. وحين يستعين الراوي بالخطاب الموسيقي، فلكي يراهن على التجديد في الكتابة الروائية وبناء بلاغة للواقعية الجديدة. يحاول المؤلف من خلال مقاربة الواقع والمتخيل في «القارورة» ليوسف المحيميد، الكشف عن أحد تمثلات جماليات الواقعية. فالحرب في مجتمعات الخليج قائمة على عدة جبهات، وهي ترمز إلى الصراع بين الحاكم والمحكوم والمركز والهامش، والأنوثة والذكورة، وأنساق الفكر التقليدي في مواجهة فكر الحداثة. فالرواية تقوم بتشريح دقيق لمجتمعات مستلبة تعيش تقاليد ثقافية بالية لم تعد مناسبة للسياق المعاصر.

ويتناول المؤلف في الفصل السابع ميثاق السرد الواقعي وبناء المسار السردي انطلاقا من رواية «العفاريت» لإبراهيم الحجري، التي تتطرق إلى بعض تناقضات المجتمع المغربي قبل الاستقلال، وما تعكسه من آثار سلبية على الذات والهوية. ويخلص الناقد إلى أن «الخطاب العجائبي» في هذا النص، يكشف عالم مفارقات الواقع المغربي وتناقضاته، وكيف يتم استغلال المقدس لخدمة أغراض دنيئة وممارسة التنكيل والابتزاز وانتهاز الفرص واستغلال سذاجة المجتمع، وبؤسه لتحقيق كسب غير مشروع في مجتمع يسوده الجهل والأمية.

ومن هذا المنظور، ينكشف لنا من خلال التصور الذي يرتكز عليه المؤلف، عدم أحادية مفهوم الواقعية، كما تتمثله الرواية المعاصرة، كما يتجلى من خلال التقابل بين الواقع والمتخيل. فالتخييل الروائي آلية من أجل كشف الواقع وبناء الواقعية بوصفها شكلا للتعبير يراهن على بناء سردية، تتجاوز المحاكاة المبتذلة للواقع إلى محاولة سبر أغوار جماليات الكتابة في الآن ذاته.

وبذلك انتهى الناقد في هذا المؤلف إلى تأكيد فرضية استحالة تصنيف وتقييد الواقعية في المتون الروائية المعاصرة؛ فهي محاولة نقدية «تروم بناء مدخل للتفكير في سؤال السرد والخطاب الروائي، وعلائقه بالراهن العربي ومختلف تحدياته وأسئلته الشائكة، وتمثل الواقعية بوصفها جمالية تحيل على شكل من أشكال إدراك الواقع» ومحاولة إعادة بناء هذا الواقع وإثارة أسئلته ومواكبة قضاياه.

*كاتب و أكاديمي مغربي

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...