النظام المصري ومناورة الحوار الوطني

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

 

تقادم الخطيب

 

 

 

أطلق النظام المصري في إبريل/ نيسان الماضي، دعوته إلى ما سمّي الحوار الوطني، بهدف إقامة حوار مع قوى المعارضة في الداخل والخارج. والمتأمل للظروف التي جرى فيها إطلاق الدعوة، وكذلك للأشخاص الذين تمت دعوتهم، وللطريقة التي سيُدار بها الحوار والهدف منه، يستطيع أن يتنبأ بالمآلات التي سيؤول إليها هذا الحوار. ففي وقتٍ تعاني فيه مصر أزمة اقتصادية عميقة، نتيجة سياسة الاستدانة التي اعتمد عليها نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، أدّى ذلك إلى عدم قدرة مصر على سداد فوائد تلك القروض، وبالتالي، محاولة جدولة سداد تلك الديون وطلب مد أجل السداد، ما نتج عنه تعثّر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي في الحصول على القرض الأخير، خشية ألا تستطيع مصر سداد تلك القروض. مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية التي أثرت على الاقتصاد العالمي بصورة كلية، تعمّقت أزمة الاقتصاد المصري، وأصبح هناك أحاديث أن مصر قادرة على تلبية احتياجات مواطنيها حتى نهاية العام الحالي (2022)، وبعدها تدخل في عالم المجهول. تخشى المؤسّسة العسكرية المصرية، قبل السيسي ومجموعته، أن يخرج الناس إلي الشوارع، بالطريقة التي خرجوا فيها في يناير/ كانون الثاني 2011، فهذا كفيل بإدخال البلاد فيما لا تُحمد عقباه، وبتعميق الأزمة السياسية أكثر فأكثر. لذا تحاول المؤسسة العسكرية بكل الطرق أن تجد الحل المناسب لذلك، ولعلها تقف خلف ذلك الأمر، أو ربما أنها اقترحت القيام بمسألة الحوار، حتى يستطيع النظام كسب مزيد من الوقت، والعمل على تخفيف وطأة الأحداث، حتى يستطيع النظام ترتيب أوراقه، لكن الأزمة الحقيقية أن النظام لا يريد تقديم تنازلاتٍ لإجراء حوار حقيقي، بل يريد من المعارضة أن تهرول للجلوس معه، مستخدما في ذلك مبدأ سيف المعزّ وذهبه، وهو ما حدث بالفعل بهرولة شخصياتٍ عديدة محسوبة على المعارضة، في مقدمتها المرشّح الرئاسي السابق، حمدين صباحي، وآخرون. في الوقت نفسه، تثبت تصرّفات النظام عدم جدّيته أو حسن نيته في مسألة الحوار، ففي وقتٍ يتحدّث فيه النظام عن انفراجة سياسية، لا تزال سياسة الاعتقال والتنكيل مستمرّة من دون أي تغيير، يتزامن هذا مع إنزال أحكام سياسية ضد معتقلين سياسيين، من بينهم المرشّح الرئاسي السابق، عبد المنعم أبو الفتوح، ونائبه محمد القصاص، إلى جانب المحامي محمد الباقر، والناشطين السياسيين، علاء عبد الفتاح وزياد العليمي، وآخرين.

النظام المصري قام بتوسيع مفهوم الإرهاب، ليشمل التعبير السلمي

لا تعدو دعوة الحوار التي أطلقها النظام المصري أن تكون مناورة سياسية ليس أكثر ولا أقل، يُراد منها شراء مزيد من الوقت، من أجل تمرير الأزمات التي تحاصر النظام، إلى جانب الرهان على تغير الأوضاع داخل الولايات المتحدة، وعودة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، ما يعني تحفيف وطأة الضغوط التي تمارسها إدارة بايدن فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان، ما يعطي للنظام مساحة جديدة للتعامل مع الملف من منظوره وممارساته القديمة، حال عودة ترامب إلى البيت الأبيض. يبقى دافع الحرب الروسية الأوكرانية، حيث يأمل النظام المصري أن تحسم روسيا المعركة لصالحها، ما يعني له فرصة جديدة لإعادة قوة التحالف مع نظام بوتين الشمولي.

وفي إطار الاستعدادات لإطلاق جلسات الحوار الوطني، عقدت الأمانة العامة للحوار اجتماعها الأول، وكان مذاعا على الهواء. وقد أوضح هذا الحوار المباشر مدى التناقضات التي تنطوي عليها تصورات تلك اللجنة وخطاباتها، فقد أجمع أعضاء اللجنة على أنهم مرحبون بدعوة الجميع إلى الحوار ماعدا الذين مارسوا الإرهاب والعنف والتحريض ضد الدولة، إلى جانب الذين لم يحترموا دستور 2014. ففي وقت يتفق الجميع فيه على رفض العنف ورفع السلاح في وجه الدولة، إلا أنه عند النظر في مسألة الإرهاب نجد أن هذا المصطلح فضفاض، يطوّعه النظام المصري حسب رغبته، فمن وجهة النظام، من يكتب منشورا (بوست) على “فيسبوك”، أو جملة على “تويتر”، يجري تأويلها دعوة إلى الإرهاب، قد يُحاكم وتوجّه إليه اتهامات بانضمامه لجماعة إرهابية، وهذا دليل على أن النظام قام بتوسيع مفهوم الإرهاب، ليشمل التعبير السلمي. ومعروف أن لدى النظام أزمة مع “السوشيال ميديا”، يراها السبب الذي أدّى إلي قيام ثورة يناير. ومن اللحظة الأولى، هاجمها وقيّدها، وفرض قواعد مكافحة الإرهاب على المتفاعلين عليها لتخويفهم وإسكات أصواتهم.

أبرزت الجلسة المذاعة لأمانة لجنة الحوار أن هذه اللجنة في مكوناتها ليست ديمقراطية، لو ادّعت غير ذلك

في المقابل، طالبت اللجنة باستبعاد كل من لا يحترم دستور 2014 من الحوار، وبتطبيق هذا الشرط نجد أن النظام هو أول من لم يحترم الدستور ودهسه، فما قام به النظام من عملية الالتفاف على المواد المتعلقة بتحصين مدد الرئاسة وحصرها في مدّتين، أكد عمليا عدم احترامه الدستور قيمة ومفهوما وشرطا حاكما في المعادلة السياسية والتعاقدية بين المجتمع والدولة، فالبرغم من وضوح تلك المواد، عدّلها النظام للبقاء في السلطة، وفتح مدد الرئاسة حتى عام 2030. والسؤال: هل تستطيع تلك الأمانة الخاصة بالحوار أن تكتب إلى السيد الرئيس الذي سترفع إليه مقترحات الحوار، أنه لابد من احترام دستور 2014، والتراجع عما جرى تعديله في الدستور، خصوصا المواد المتعلقة بمدد الرئاسة، ما يعني وجوب رحيل الرئيس عن السلطة؟ الإجابة أن تلك الأمانة، أو حتى الحوار الوطني في مجمله، لن يكون قادرا على توجيه هذا السؤال أو المقتر11ح إلي السيد الرئيس. ولكن لا غضاضة في توجيه مثل هذه العبارات وهذه الشروط إلي الخصم السياسي.

لقد أبرزت الجلسة المذاعة لأمانة لجنة الحوار أن هذه اللجنة في مكوناتها ليست ديمقراطية، حتى لو ادّعت غير ذلك، وأنها معبأة بالانقسام السياسي والإقصاء، كما أنها تشارك النظام في ديكتاتوريته وتوجهاته السلطوية ومصادرة الآخر المختلف سياسيا، فلو كان هناك نية صادقة ودعوة حقيقية إلى إطلاق حوار وطني، يهدف إلى تحول حقيقي، لقيل إنه لابد أن تتزامن دعوة الحوار تلك مع حوار آخر أوسع يستهدف المختلف فكريا، فمصر مرّت بتجربة الحوار في التسعينات، واستطاعت أن تقضي على العنف من الجماعة الإسلامية، وإعادة دمجها في المجتمع، لكن النوايا تكشف نفسها.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...