خطاب ملكي استثنائي يؤسس لمستقبل علاقة مغاربة الخارج بالوطن

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

 

*د. التجاني بولعوالي

 

 

 

إشادة ملكية بمغاربة العالم

تعود أهمية الخطاب الملكي الأخير بمناسبة ثورة الملك والشعب (20 غشت) إلى كونه يشكل وثيقة مهمة تؤسس لما ينبغي، ولما سوف يكون عليه مستقبل علاقة مغاربة الخارج عامة، وأجيال الهجرة الأخيرة خاصة بوطنهم الأب؛ المغرب. إن أكثر من 50% من نص الخطاب خُصص لهذه الشريحة المهمة من المغاربة، وهذا يعني بالملموس أهمية هذا المكون بالنسبة للملك وللوطن.

من الأكيد، إن الملك عبّر عن اهتمامه ورعايته المتواصلة بالجالية المغربية في مناسبات وخطب متعددة، لكنه في هذا الخطاب الأخير يؤكد إلى أقصى الحدود اهتمامه بهموم الجالية المغربية وتحدياتها، بل ونجاحاتها أيضا. وهذا ما نلمسه تقريبا في كل فقرة من الشق الثاني من الخطاب الذي تناول فيه موضوع مغاربة الخارج. نعتقد أن هذا الاهتمام الملكي يتراوح بين إعجاب الملك الكبير بالجالية المغربية لتعلقها الوثيق بالوطن، ودفاعها المستميت عن الثوابت الوطنية، وتوفرها على كفاءات عالمية، وقابليتها للاستثمار، وبين عدم رضاه على طبيعة التعاطي الحالي مع قضايا مغاربة العالم، وهذا ما يتضح بجلاء من خلال الأسئلة العميقة التي طرحها: “ماذا وفرنا لهم لتوطيد هذا الارتباط بالوطن؟ وهل الإطار التشريعي، والسياسات العمومية، تأخذ بعين الاعتبار خصوصياتهم؟ وهل المساطر الإدارية تتناسب مع ظروفهم؟ وهل وفرنا لهم التأطير الديني والتربوي اللازم؟ وهل خصصنا لهم المواكبة اللازمة، والظروف المناسبة، لنجاح مشاريعهم الاستثمارية؟”

ويظهر أن كل سؤال يكشف عن تحدٍّ معين يتعلق بالجالية المغربية، منها ما هو قانوني يتمثل في جعل الإطار التشريعي يتلاءم وخصوصيات الجالية المغربية، ومنها ما هو إداري يتطلب تكييف المساطر الإدارية، ومنها ما هو ديني وتوجيهي يقتضي التأطير الديني والتربوي اللازم، ومنها ما هو هوياتي ينبغي التركيز فيه على توطيد علاقة مغاربة الخارج بوطنهم الأصل.

مغاربة العالم ومغربية الصحراء

أينما وُجد المغاربة فهم يفتخرون بوطنهم الأصل وهويتهم المغربية الجامعة، التي يتقاطع فيها ما هو إسلامي ومالكي وأشعري، وما هو أمازيغي وعربي وصحرواي وإفريقي، وغيرها من العناصر الهوياتية، بل ويقفون بالمرصاد في وجه كل من يسئ إلى أي من الثوابت الوطنية بما في ذلك الوحدة الترابية. وأكثر من ذلك، فإن الجالية المغربية في أوروبا تعتبر الشريحة الأولى التي تبادر للدفاع عن الإسلام والمسلمين، فكلما حل مكروه بأي دولة عربية وإسلامية أو منطقة يعيش فيها المسلمون، خرجوا بالآلاف في المظاهرات والاحتجاجات، حتى إن وسائل الإعلام الغربية وصناع القرار السياسي يتساءلون باستغراب عن الدوافع، التي تجعل المغاربة يتفاعلون مع أي إساءة تتعرض لها الثوابت والرموز الإسلامية.

نحن نرصد يوميا كيف يتشبث أبناؤنا الذين ولدوا في الغرب بكل ما هو مغربي من تقاليد وعادات ولباس ورموز. لم يعد يقتصر ارتداء اللباس المغربي التقليدي على المناسبات العائلية والدينية وفي المساجد، بل نرى أبناءنا يرتدون الألبسة والأقمصة الرياضية الحمراء والخضراء في كل مكان، وعليها راية المغرب وخريطته التي تمتد من طنجة إلى لكويرة. وعندما تُخيّر أي طفل مغربي في أي دولة أوروبية بين الانتماء إلى الدولة التي ولد وترعرع فيها وبين الوطن الأصل لأجداده وآبائه، فهو يختار بشكل عفوي المغرب.

هذا على المستوى الرمزي، أما على المستوى السياسي والدبلوماسي فيمكن أن يقدم المغاربة الكثير للوحدة الترابية المغربية ولغيرها من القضايا الوطنية، لاسيما عبر المؤسسات الحكومية والبرلمانية والأوروبية التي أصبح الكثيرون يشتغلون فيها. هناك مئات المغاربة الذين تمكنوا في العقدين الأخيرين من شغل مناصب عالية في البرلمانات والحكومات الأوروبية وفي المؤسسات الدولية المعروفة وفي المؤسسات الجامعية والأكاديمية ومراكز البحث، حتى أصبحت الكفاءات المغربية مضرب المثل في الإعلام الغربي والنقاشات السياسية.

ثم لا ننسى الدور الذي قد يؤديه المجتمع المدني “المغربي” في أوروبا والغرب، حيث يحضر المغاربة في مختلف الدول الأوروبية عبر آلاف الجمعيات التربوية والدينية والثقافية والرياضية. ومن شأنها أن تساهم في التعريف بمختلف القضايا الوطنية التاريخية والثقافية والسياسية والترابية سواء لأجيال الهجرة الأخيرة المتعطشين لمعرفة أي شيء عن هويتهم وتاريخهم وثقافتهم المغربية الأصلية، أو لغير المغاربة الذين لا يعرفون الكثير عن التجربة المغربية، وعادة ما يقدم لهم المغرب بشكل مغلوط.
ورغم هذه الإمكانات الهائلة التي يتوفر عليها المغرب في الخارج، يبدو أنها لم تُستثمر بعد بشكل إيجابي وعقلاني لخدمة قضايا الوطن ومنها الوحدة الترابية ومغربية الصحراء، ويرجع ذلك في اعتقادنا إلى جملة من الأسباب، يتحدد أهمها فيما يأتي:

عدم تنسيق الجهود بين مختلف المؤسسات المغربية الرسمية وغير الرسمية في الخارج رغم أنها جميعا تسعى إلى تحقيق الأهداف نفسها.
التشبث باستعمال الآليات التقليدية التي كانت تسود لدى أجيال الهجرة الأول والثانية، وعادة ما تقتصر على الاجتماعات والمناسبات الوطنية التي تنظمها السفارات والقنصليات، وتحضرها نفس الوجوه منذ ثلاثة عقود أو يزيد، ولا نرى فيها حيزا سواء لأجيال الهجرة الأخيرة أو للكفاءات المغربية الحقيقية.
عدم مراعاة الشروط الثقافية والاجتماعية والسياسية الجديدة التي تغيّر معها السياق الأوروبي والغربي بشكل جذري؛ فظهرت أحزاب سياسية وحركات إيديولوجية وتيارات فكرية جديدة، ولم نسمع بأن الدبلوماسية المغربية انفتحت على أو تفاعلت مع هذه المكونات الجديدة التي سوف تبصم وترسم مستقبل أوروبا والعالم. ومستقبل العلاقات المغربية الأوروبية/الغربية رهين بالتحول الفكري والإيديولوجي والسياسي القادم.

مغاربة العالم وعراقيل الاستثمار

إن مسألة الاستثمار لدى الجالية المغربية ليست جديدة. نعتقد أنه منذ الهجرات العمالية الأولى في ستينات القرن الماضي كان هاجس الاستثمار حاضرا لدى المهاجرين المغاربة الأوائل، الذين هاجروا أصلا من أجل توفير بعض المال، والعودة إلى الوطن لاستثماره في مشروعات صغيرة تضمن لهم الاستقرار المالي والاقتصادي والاجتماعي. وقد استمر ذلك إلى يومنا هذا. عندما نرجع إلى سبعينات وثمانينات القرن الماضي نجد أن المدن الكبيرة والمتوسطة التي كانت في الشمال والشرق معروفة هي الناظور، الحسيمة، تطوان، طنجة، مليلية، سبتة، بركان ووجدة، أما الباقي فكان مجرد مراكز صغيرة وبدائية لا تتوفر على مقومات التمدن. أما اليوم فيمكن الحديث عن عشرات المدن الجديدة الآهلة في الريف والشمال، التي ظهرت نتيجة استثمار المهاجرين بالدرجة الأولى، الذين بنوا المنازل وفتحوا المقاهي والدكاكين والمخابز، وربطوا قراهم ومدنهم بالشبكة الكهربائية والماء الصالح للشرب.
ولعل هذا الوعي بأهمية مغاربة الخارج في الدينامية الاقتصادية والتنموية يحضر بجلاء تام في الخطاب الملكي، الذي يدعو إلى خلق المناخ القانوني والاقتصادي المناسب، الذي من شأنه أن يحفزهم على الاستثمار البناء في الوطن. وقد آن الأوان لأن ننتقل من الاستثمار التقليدي في العقار والبناء والمحلات التجارية إلى الاستثمار الاستراتيجي، الذي من شأنه أن يواكب مستلزمات العولمة الاقتصادية، ويملك القدرة على المنافسة الداخلية والدولية، ويوفر فرص الشغل، ويحقق الاستقرار الاجتماعي.

وفيما يتعلق بالأسباب التي تعرقل التنمية والاستثمار، سبق للملك نفسه أن أشار في خطاب العرش السابق إلى بعضها، وعلى رأسها جشع بعض الفاعلين الذي لا يفكرون إلا في الأرباح الشخصية وخدمة مصالحهم الخاصة، “وهو ما يجب محاربته”، كما يشدد الملك بنفسه على ذلك. وهذا ما ينطبق أيضا على مغاربة العالم، الذين لا تتوفرلديهم القابلية للاستثمار في ظل الاحتكار الفاحش لمفاصل الاقتصاد الوطني من طرف فئة انتهازية محدودة. بالطبع، تنضاف إلى ذلك عراقيل أخرى معروفة لدى الجميع، ولا تتطلب أي توضيح، كالتعقيدات الإدارية والبيروقراطية، والرشوة، والزبونية، وغياب الشفافية، وغيرها.

وهناك عامل أخر يتجلى في غياب استراتيجية واضحة ومحكمة لدى الوزارات والمؤسسات المكلفة بمغاربة العالم موجهة إلى المستثمرين المحتملين من مغاربة الخارج. ونقصد بذلك اعتماد خطط عقلانية واستشرافية عبر مختلف حملات التوعية والتحفيزعلى الاستثمار في المغرب. ولا يتم ذلك عبر الإعلام فقط، بل تخصص أكشاك ومكاتب في كل السفارات والقنصليات والمؤسسات والمجالس والأبناك المغربية العاملة في الخارج. كما تنظم أنشطة وتظاهرات موضوعها الأساس هو استقطاب مستثمرين مغاربة وغير مغاربة، تماما كما تصنع شركات العقار والأبناك التي تنظم أسابيع كاملة لعرض وبيع منتوجها لمغاربة العالم.

ثم إنه لا يمكن أن نتجاهل غياب التنويع الاستثماري في الكثير من المناطق التي ينحدر منها المهاجرون المغاربة، لذلك فهم لا يستثمرون إلا في الأنماط التقليدية كالعقار والبناء والمقاهي والدكاكين والمخابز. وإن تعذر عليهم ذلك، فيغادرون مسقط رأسهم للاستثمار في المدن الكبرى التي توفر لهم بعض المقومات اللوجستيكية والبشرية والاقتصادية. وهناك من يختار وجهات أوروبية أخرى للاستثمار، ما يضيع على الوطن الإمكانات الهائلة التي قد يأتي بها استثمار مغاربة العالم.

ولعله لهذه الأسباب حثّ الخطاب الملكي على بناء “علاقة هيكلية” مع مغاربة الخارج تتأسس على التشخيص والتخطيط والاستشراف، لأنه رغم مرور أكثر من 70 سنة على موجات الهجرة العمالية المغربية إلى أوروبا الغربية تظل علاقاتهم بالوطن ذات طابع رمزي وعاطفي وعفوي. بل حتى إسهام مغاربة الخارج على أهميته القصوى في الدينامية التنموية والاقتصادية، سواء عبر التحويلات المالية الهائلة أو المشروعات التجارية التقليدية، يظل عشوائيا وغير مخطط يحتاج إلى تنظيم أكثر وهيكلة محكمة حتى تكون مخرجاته أفضل ونتائجه أنجع.

خلاصة القول، إن الخطاب الملكي يفتح نوافذ الرعاية والمحبة الملكية المتبادلة مع مغاربة الخارج، ما من شأنه أن يعزز ثقتهم أكثر بالوطن. وسوف ننتظر الخطوات القادمة التي ينبغي للوزارات والمؤسسات المكلفة بالجالية المغربية اتخاذها، ما قد يُترجم بشكل أو بآخر ما ورد من أفكار وتوصيات مهمة في هذا الخطاب على أرض الواقع، ومن ثم يحقق ولو القليل من تطلعات مغاربة الخارج.

*باحث وأكاديمي مغربي مقيم في بلجيكا

ايطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...