سر أزمة الاقتصاد المصري الحادّة

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

 

سامح راشد

 

 

 

يعاني الاقتصاد المصري من اختلالاتٍ هيكليةٍ ومشكلات متفاقمة ناجمة عن سياسات خاطئة وسوء تقدير للأولويات والحلول الفعالة. ويعيش المصريون معاناة يومية في مواجهة متطلبات المعيشة بمختلف أشكالها. والوجه الظاهر لتلك المشكلات هو الأزمة المالية الحادّة التي تكاد تتحوّل إلى مرض مزمن، فمنذ ما يقرب من ثماني سنوات متواصلة تواجه مصر أزماتٍ متلاحقة، بل مستمرّة، في ضخّ السيولة اللازمة لتنشيط الاقتصاد.

ما يعلمه المصريون جيداً، وتعمى عنه عيون الحكومات المصرية المتعاقبة وعقولها، أن سر الأزمة الحقيقية ليس في نقص المبالغ المالية المطلوبة أو حتى غيابها، وإنما في عدم توجيهها إلى مصارفها السليمة والضرورية لإنعاش الاقتصاد، فقد تدفقت عشرات المليارات من الدولارات على الخزانة المصرية في تلك الأعوام الثمانية. وتنوعت أشكالها ومصادرها بين مساعدات وودائع من الحلفاء الخليجيين، وقروض من صندوق النقد الدولي، وعوائد الاكتتاب فيما عرف بقناة السويس الجديدة. وهذا كله جديد أضيف إلى مصادر الدخل القومي الأساسية الثابتة، والتي تراجعت منها عائدات السياحة، فيما استمرت على حالها تحويلات العاملين في الخارج ورسوم المرور في قناة السويس.
ما حدث أن تلك المليارات ذهبت إلى مشروعات ليست صناعية ولا زراعية. بعضها في نطاق التعمير وبناء المدن الجديدة، وبعضها الآخر في مجال الطرق والمواصلات. وهي مجالاتٌ مهمة لا ريب، لكنها بالتأكيد ليست الأهم. خصوصاً في وقت مصر أشد ما تكون احتياجاً إلى “الإنتاج” لتوفير قدرٍ، ولو نسبياً، من الاكتفاء الذاتي، ثم التصدير، وتحصيل عوائد دولارية تخفّف وطأة الأزمة النقدية الحادّة.
وثمّة عوامل تجعل تداعيات ذلك الاختلال في معالجة الأولويات أقرب إلى الكارثية من مجرّد أخطاء يمكن تداركها، فالمشروعات الخاصة بالبنية التحتية أو الإنشاءات العقارية، والتي استهلكت مداخيل الدولة بالعملتين، الأجنبية والمحلية، لا يمكن، في النهاية، اعتبارها مشغلاً لعجلة الاقتصاد أو إضافة إيجابية إلى دولاب التشغيل المحلي.

هذا بخلاف أنها تتبع بشكل كامل “الهيئة الهندسية” التابعة للقوات المسلحة. أي أنها مُعفاة من الرسوم والضرائب وأية استحقاقات مالية تطبق على الأعمال والشركات المدنية. وبعد أن كان تنافس المدنيين للمؤسسة صعباً في السنوات الماضية، بسبب هذا التمييز، لم يعد التنافس ممكناً من الأساس، لأن كل الأعمال أصبحت توكل بالأمر المباشر إلى “الهيئة الهندسية”، فتحوّل التنافس إلى احتكار مطلق. أي أن النذر اليسير من مساحة الحركة والنشاط الاقتصادي للمدنيين ضنّت به السلطة.
في المحصلة، لم يكن للاقتصاد المصري المدني عموماً، والإنتاجي خصوصاً، أي نصيب ذي قيمة من المليارات التي تلقتها مصر من هنا وهناك. ولأن السلطة كانت، طوال الأعوام الثمانية الماضية، تنفق على الشعب، وعلى مشروعاتها غير المنتجة وعلى مشترياتها وأنشطتها ومؤتمراتها وبذخها، من القروض والتدفقات المالية الخارجية، فإن دخول العالم في أزمة طاقة وغذاء كان إيذاناً بانكشاف الغطاء عن اختلالات الاقتصاد المصري، وتعرّضه لأزمة حادّة، بفعل اضطراره إلى الخروج من حالة “الجري في المكان”، وكسر الدائرة الضيقة المغلقة التي كانت تدور في فلكها حركة الاقتصاد المصري بصعوبة شديدة. وبدلاً من مواجهة المصاعب والتحدّيات الكثيرة خارج هذه الدائرة المغلقة باستحداث مصادر دخل جديدة وتأسيس أنشطة إنتاجية وإيجاد فرص عمل أو إعادة تأهيل ملايين العاطلين، كان الخيار الحكومي الوحيد والثابت زيادة الحصيلة المالية من جيوب الشعب، في شكل زيادات ضخمة وغير منطقية ولا مبرّرة في الرسوم والضرائب والتراخيص وأسعار الخدمات العامة والخاصة. وبعد ذلك كله، يخرج وزير المالية ليقول إن على الشعب المشاركة في تحمل أعباء الوضع الاقتصادي مع الحكومة. وتجاهل الوزير أن الشعب لم يكن شريكاً للحكومة في أخطائها الكارثية حتى يشاركها تحمّل النتائج.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...