تكنولوجيا الصورة وتسليع الجسد بغرض استهلاك الجنس في الزمن الرقمي

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

*د.خالد حاجي

 

 

في سنة 1932 أصدر ألدوس هكسلي كتابه الشهير “عالم جديد شجاع” (Brave New World)، وهو عبارة عن رواية حاول من خلالها رسم ملامح عالم مستقبلي يخلو من الفضائل، ويبتعد كل البعد عن المدينة الفاضلة التي طالما بشّر بها الفلاسفة منذ أفلاطون. وأذكر كيف كنا قبل 30 سنة، ونحن طلبة ندرس ونحلل محتويات الكتاب، نشعر بأن في كلام هكسلي مبالغة تُدْخِله في دائرة الخيال العلمي الذي لا صلة له بالواقع، إلا أنني اليوم، وأنا -رفقة طلبتي- أعيد قراءة عالم جديد شجاع أشعر بأن هكسلي كان يبصر بعين ثاقبة ما كان منحصرا عن أبصارنا آنذاك، بل أشعر بأن الواقع المتعين أمامنا اليوم هو -من بعض الوجوه- أكثر غرابة مما كنا نعده قبل 30 سنة خيالا.

من بين أبرز محاور رواية هكسلي ذات الصلة بواقعنا وبموضوع حديثنا في هذا السياق المحور الخاص بالعلاقة بين الجنسين؛ فقد استطاع الكاتب أن يتنبأ ببعض التطورات التي لحقتها بفعل تأثير الوسائط التكنولوجية في عالمنا اليوم.

نقف في الرواية عند ذهنيتن، أوموقفين متباينين من هذه العلاقة: موقف جون المتوحش الذي ظل على سَجِيَّته ينشد الأشعار، تعبيرا عن شغفه بـ”لِنينَة” وتمجيدا لأنوثتها، مُنزِّها إياها عن النقص كما يفعل العاشقون. وموقف لِنينَة التي سارعت إلى عرض جسدها أمام جون المتوحش، طامعة في إشباع رغبة عابرة. فبينما يظل جون المتوحش حبيس ثقافة شكسبيرية تبجل الحب وتستدعي الشعر لغة لوصف لحظات البوح والاعتراف به وما يلازم هذه اللحظات من مشاعر يتغير معها نبض الدم في عروق العاشقين؛ تظل لِنينَة أسيرة نظام يقوم على جملة من المُسَلَّمات الموروثة من مرحلة التنويم المغناطيسي الذي يتعرض له الأطفال في مراكز التنشئة على السلوك المقبول في العالم الجديد الشجاع، ومنها المُسَلَّمة التي تقول إن كل شخص ملك لكل شخص آخر؛ وبالتالي فجسد الإنسان مشاع، يجب ألا يكون لشخص واحد.

لم يستطع جون المتوحش تحمل صدمة الاحتكاك بمنظومة أخلاقية لا تقيم للحب وزنا فجعل يضرب لِنينة وينعتها بأقذع النعوت، قبل أن يضع حدا لحياته في نهاية الرواية، بعد أن استبد به الإحباط واليأس من الطمع في الظفر بقلب امرأة في عالم مغلق تحكمه التكنولوجيا.

بهذا يكون ألدوس هكسلي قد نبه قبل ما يقرب من قرن من الزمن إلى العلاقة بين سطوة التطور التكنولوجي الرهيب من جهة، وبين الظواهر المؤشرة على ما أصبح يصطلح عليه بنهاية الحب (The End of Love) كما جاء في عنوان الدراسة القيمة التي أجرتها الباحثة إيفا إيلوز (Eva Illouz) من جهة أخرى. ولعله لا يفوت المتأمل الوقوف عند كثير من أوجه الشبه بين أحوال الشخصيات في عالم ألدوس هكسلي الخيالي، وبين أحوال القوم في فضاءات التواصل الاجتماعي. فالقاسم المشترك بين سكان العالمين هو الخضوع لسلطة ثقافة تكنولوجية تخرج العلاقة بين الجنسين من رحابة التساكن تحت سقف المودة والرحمة، لتختزلها في نزوة جنسية عابرة.

هل التوجه نحو إفراغ العلاقة بين الجنسين من كل محتوى عاطفي قبل اختزالها في النزوة الجنسية العابرة هو توجه حقيقي ملحوظ، أم أنه توهم ومبالغة؟

هناك من الشواهد ما يكفي للدلالة على وجود هذا التوجه وجودا حقيقيا، ويكفي دلالة على ذلك بعض الألفاظ التي أصبحت كثيرة الذيوع بين المتحاورين في السياق الأميركي مثلا. فأنت لا يفوتك أن تلتقط لفظة (Ghosting) وأنت تشاهد فيلما أميركيا، أو تصغي باهتمام -كما فعلت الباحثة إيفا إيلوز- إلى محادثة الناس من حولها في أميركا؛ وتنحدر هذه اللفظة من “شبح”، وقد صُرف مدلول الفعل المنحوت منها إلى معنى خاص، مفاده الاختفاء مثل الشبح، خصوصا بعد قضاء الوطر الجنسي من شخص آخر.

والأفظع من هذا الأمر وأكثر منه دلالة على تحقق خيال الكاتب هكسلي في الواقع هو ما تشهده بعض مواقع التواصل الاجتماعي من ضروب شتى من السلوك المشين والمتمثل في تبادل صور أعضاء من أجساد طالبي التعارف (Sexting)، عوض تبادل صور الوجوه مثلا. ويمثل هذا السلوك المتفشي بين رواد بعض المنصات الإلكترونية قمة في السفاهة التي ينحصر معها اهتمام الإنسان في معرفة خصائص الآخر الجسدية لمعرفة مدى مواءمتها لميولات هذا الإنسان الجنسية.

هذه الضروب من السلوك تشير إلى أننا إزاء ثقافة همّها “تسليع” الجنس وتسويقه كمادة للاستهلاك، بعيدا عنما يعلق به من أحاسيس ومشاعر في سياقات ثقافية قديمة. حين نبحث عن الأصل في هذا التوجه الجديد نحو اختزال العلاقة بين الجنسين في لحظة قضاء الحاجة الجنسية، كما في عالم هكسلي، نجده يرتد إلى منظومة اقتصادية تتوسل بثقافة تُغَلِّب فنون الصورة في التواصل، وإلى تكنولوجيا تُبَلِّغ هذه الثقافة المنتهى في التحكم والسيطرة على مخيلة الإنسان.

نفهم من خلال قراءة كتاب جون-كلود جيبو (Jean-Claude Guillebaud) عن استبداد الشهوة أو المتعة الجنسية (La Tyranie du plaisir) أن الأصل في فساد المنظومة الجنسية اليوم هو أيديولوجيا تحررية عملت على الربط بين الحرية وتعرية الجسد. لا جدال في أن مفهوم التحرر في الثقافة الغربية المعاصرة لم يرتبط بشيء قدر ارتباطه بالحق الديمقراطي في عرض الجسد، خاصة جسد المرأة، أمام الأنظار، قطعا مع ثقافة تقليدية تُؤَثِّم عرض هذا الجسد ورؤيته على السواء.

لكن إذا صح أن في القطع مع المنظومة التقليدية المكبلة لمتعة الجسد ما قد يحرر الإنسان، فصحيح كذلك أن المنظومة الجنسية الجديدة تظل بعيدة عن تحقيق التوازن بين مطلب الفرد في التحرر ومطلب الجماعة في الحفاظ على نظام عام تنضبط معه شهوة هذا الفرد. هذا ما يذهب إليه فوكو في كتابه عن تاريخ الجنس، حيث يقول إننا لم ننعتق بعد من النزعة التبشيرية الراسخة في تاريخ الغرب، هذه النزعة التي لا تعدو أن تنتقد بشدة المنظومة السابقة، وأن تدين النفاق، وتتغنى بالحق في الولوج إلى اللحظة الآنية والواقع، وجعل الناس يحلمون بمدينة فاضلة أخرى. بمعنى آخر، نلمس في كلام فوكو كما في كلام جيبو أن للمنظومة التحررية السائدة وجوها تَسْمُج بها، على الرغم مما يلازمها من مقولات توهم بتبليغ الإنسان مرحلة البطولة الجنسية، حيث يبلغ أرقى درجات التمتع بلذاته الجسدية.

ما وقع حقيقة هو أن الدعوة إلى الحق في تعرية الجسد كانت المدخل إلى تشييئه قبل استعماله لتسويق الجنس. وما كان لهذا التشييء وهذا التسويق أن يتم إلا بفعل تحالف سلطتين: سلطة الفن وسلطة السوق أو رأس المال. فبفعل جملة من المفاهيم الملتبسة، ذات الصلة بالحرية الفنية والحس الفني، تحول الجسد العاري إلى صورة فنية يُطلب من الناظر إليها أن يتغاضى عن إيحاءاتها الجنسية ليقف عند جمالها الفني.

هذا على خلاف مع الواقع الطبيعي حيث تقترن تعرية الجسد بأنواع من الغواية والإغراء الجنسيين. فبالاعتماد على مفاهيم فنية ملتبسة تَهدِم العلاقة القائمة بين الدال والمدلول مكّن الرأسمالية من إخراج الجسد من طور الإيحاء الجنسي الموجه من الفرد إلى الفرد، والانتقال به إلى طور الجسد المعروض أمام الأنظار، لا بوصفه محركا لشهوة جنسية يكون موضوعها هو، بل بوصفه نموذجا لأجساد أخرى، تحاول أن تتشبه به.

إن اعتماد مفاهيم ملتبسة تخلط بين الإيحاء الجنسي والحس الفني مَكَّن من تعرية الجسد ثم تشييّئه، حتى صار الجسد المعروض نموذجا تُحْمَل عليه أشكال من الأثواب والألوان تُكسِبه قيمة جنسية وفنية ظرفية، هذه القيمة التي أصبحت مُوجِّهة للذوق، تُملي -على المرأة خصوصا- أحدث الطرائق التي تُكْسب الجسد جاذبية جنسية-فنية، كما تُملي على الناظرين ما يُشتهى وما لا يُشتهى جنسيا وفنيا. فبعد أن كانت وظيفة اللباس هي ستر مفاتن الجسد، صارت وظيفةً فنيةً تُعنى بتسطير هذه المفاتن وإبرازها. وبهذا صارت القيمة الفنية، ممثلة في قطعة قماش تحمل علامة تجارية، هي التي تتحكم في الصور التي تستقر في لا وعي الناظر فتحدد لديه معنى القيمة الجنسية.

عند التأمل نجد أن فنون الإغراء الجنسي ليست حكرا على الثقافة المعاصرة، بل إنها رافقت كل الثقافات على امتداد العصور، منذ أن وجد الإنسان. إلا أن هذه الفنون لم ترتبط قط مثل ارتباطها اليوم بمنطق التسليع والتسويق. لقد تحول الجنس في الثقافة المعاصرة، خصوصا في زمن الثقافة الرقمية، إلى شهوة بصرية في المقام الأول، تقوم على أساس استهلاك صورة الجسد المُؤَثَّث من طرف شركات كبرى، شركات همّها الأول هو التسليع والتسويق. ومع تسليع الجنس، بواسطة الربط بين الجسد بوصفه المحرك الأساسي للشهوة الجنسية، وبين ما يُضاف إليه من محاسن فنية تُقتنى، سهل إخضاعه لمنطق التسويق، فصار الإقبال عليه أشبه بالإقبال على المواد المستهلكة ذات الصلاحية المحدودة في الزمن.

إن تدفق النماذج المعروضة يُثبِّث في مخيلة الناظر ولا وعيه أن وظيفة الجسد في العملية الجنسية هي أشبه بوظيفة آلة وحيدة الاستعمال، يتم التخلص منها فور انقضاء الحاجة. والأخطر هو أن هذا التدفق يرسي دعائم ثقافة جديدة يتحول معها الإقبال على الجنس إلى رياضة يحكمها قانون المنافسة ومقاييس الآداء والفعالية. وهذا ما يلازمه بروز ظواهر جديدة مقلقة من قبيل الشغف المرضي بالأداء الجنسي والقلق الناتج عن مقارنة قدرات الذات الجنسية مع ما تُبرزه هذه الثقافة كنموذج للأداء الجنسي المطلوب. هذه الأمور مجتمعة تُورِّث شعورا خاطئا بأن الجنس متعلق بالجسد فحسب، ومع هذا الشعور تختفي الأبعاد الروحية الملازمة للعلاقة بين الجنسين.

بعد أن كان الإغراء الجنسي يتم وجها لوجه في فضاء وزمن معينين، أصبح هذا الإغراء يتم في فضاء افتراضي، لا بين إنسان وإنسان، ولكن بين صورة وصورة أخرى مقابلة لها. لقد ساهمت التكنولوجيا في تقزيم الإنسان واختزاله في مجرد صورة مصممة، وقد نتج عن هذا أن صار التواصل تواصلا بين صورتين جسديتين، الأمر الذي تضيق معه مساحة التعارف الروحي. فبعد أن كانت الثقافات التقليدية تجعل من التلاقي بين الجنسين شأنا مجتمعيا، ذلك أنه كان المدخل إلى إنجاب الأبناء، أي إلى البناء؛ صارت الثقافة الرقمية تحصر هذا التلاقي في دائرة الشأن الفردي، مجردة إياه من كل أبعاده الروحية المتعالية الخفية. إن الثقافة الرقمية المهيمنة تعد بتجريد الإنسان من كل أبعاده الروحية الخفية، كما تعد باختزاله في بعده المرئي. ولعل الدليل القاطع على هذا التوجه هو سعي الإنسان الرقمي اليوم إلى إثبات ذاته عبر الإكثار من عرض صوره، وكأن هذا الإنسان لم يعد يشعر بذاته إلا هيئة معروضة أمام الناظرين، كلما قلَّ حضور صوره في العالم الرقمي، زاد شعوره بعدم وجوده.

ليس من شيء يعدل حاجة المجتمعات التقليدية المنغلقة على ذاتها إلى إعادة النظر في البنى المتحكمة في إملاء قيم الجنس، إلا الخوف من استحواذ شركات التكنولوجيا على التواصل بين الجنسين واختزال العلاقة بينهما في قيم الجسد اختزالا ينمحي معه التعارف الروحي. لقد أصبحت الصورة في عصر الثقافة الرقمية تهدد بتقويض قيم المجتمع كلها، الصالح منها والفاسد، ولهذا وجب التفكير في سبل الحد من سطوة التكنولوجيا ولجمها عن التمادي في تفكيك العلاقات الإنسانية خدمة لمصلحة شركات التكنولوجيا الكبرى. وعليه فلا مناص من تعميق التفكير في طبيعة العلاقة بين الحب والجنس، بين الأمس واليوم، استشرافا لمجتمع ينضبط بما يحقق التوازن بين القيم الروحية والقيم المادية على السواء.

*كاتب وباحث مغربي


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...