لماذا تخاف إسرائيل من فتوى “العدل الدولية”؟

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

حسن نافعة

 

 

جاءت ردّة الفعل الإسرائيلية على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة إحالة موضوع احتلالها الأراضي الفلسطينية إلى محكمة العدل الدولية غاضبا وعنيفا ومرتبكا. لم تنتظر الحكومة الإسرائيلية صدور قرار نهائي حول هذا الموضوع كي تبدأ في التحرّك، وإنما شعرت بالقلق مما يجري منذ اللحظة الأولى لمناقشة مشروع هذا القرار في اللجنة الرابعة للجمعية العامة. وعندما فشلت في عرقلته داخل هذه اللجنة، سعت إلى الحيلولة دون حصول القرار على الأغلبية اللازمة لإصداره في الجلسة العامة للجمعية، مستعينة في ذلك بحليفتها الأميركية التي مارست أقصى قدر ممكن من الضغوط على الدول التي صوّتت لصالح مشروع القرار في اللجنة الرابعة، كي تغير موقفها عند التصويت في الجلسة العامة. صحيحٌ أنها نجحت، بالفعل، في تقليص عدد الدول التي صوتت لصالح القرار في الجلسة العامة إلى 87 دولة، بدلا من 98 دولة كانت قد وافقت على المشروع عند التصويت عليه في اللجنة الرابعة، لكنها فشلت في منع تبنيه بصفة نهائية. وهكذا لم يكن أمام الأمين العام للأمم المتحدة، غوتيريس، من خيار سوى إخطار محكمة العدل الدولية بهذا القرار بالفعل، ومطالبتها رسميا بالبدء في اتخاذ الإجراءات اللازمة لإصدار رأي استشاري، (فتوى قانونية) يتضمن إجابة محددة عن سؤالين تمت صياغتهما بالدقة الواجبة في مثل هذه الأحوال، على النحو التالي:

الأول: ما هي الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلالها طويل الأمد للأراضي الفلسطينية منذ 1967 واستيطانها وضمها لها، بما في ذلك التدابير التي اتخذتها لتغيير البنية الديمغرافية لمدينة القدس الشريف وطابعها ووضعها، وعن إصدارها تشريعات وتدابير تمييزية في هذا الشأن؟

الثاني: كيف تؤثر سياسات إسرائيل وممارساتها الناجمة عن هذه الانتهاكات على الوضع القانوني للاحتلال، وما هي الآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة لجميع الدول، وكذلك بالنسبة للأمم المتحدة؟ “(راجع مقال الكاتب في “العربي الجديد” يوم 7 يناير/كانون الثاني، “فتاوى العدل الدولية بشأن السلوك الإسرائيلي”).

يدشّن قرار طلب الرأي الاستشاري حول مشروعية الاحتلال الإسرائيلي الأراضي الفلسطينية مرحلة جديدة من مراحل الصراع مع إسرائيل

لم تستسلم إسرائيل للهزيمة الدبلوماسية التي منيت بها في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وراحت تصبّ غضبها على السلطة الفلسطينية، ففي أول اجتماع له غداة تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة بقيادة نتنياهو، اتّخذ المجلس الوزاري المصغّر للشؤون السياسيّة والأمنيّة مجموعة قرارات قصد بها عقاب السلطة الفلسطينية, شملت: الاستيلاء على 139 مليون شيكل (37,3 مليون دولار) من الأموال التي يتم تحصيلها رسوما جمركيّة، وتحويلها لصالح ما تسمّيه إسرائيل “عائلات ضحايا الهجمات الإرهابية الفلسطينيّة”. احتجاز جزء آخر من أموال السلطة الفلسطينيّة، يوازي ما دفعته الآخيرة عام 2022 لصالح أسر الشهداء الفلسطينيين، والذين تسميهم إسرائيل “الإرهابيون وعائلاتهم”. تجميد تراخيص البناء التي تمنح للفلسطينيّين المقيمين في المنطقة ج، وهي منطقة تشكل حوالي 60% من إجمالي مساحة الضفة الغربية.

والواقع أن ردود الفعل الغاضبة لم تقتصر على الحكومة الإسرائيلية، وإنما شملت قطاعات واسعة من النخبة الإسرائيلية، على اختلاف توجهاتها ومواقفها السياسية والأيديولوجية. صحيح أن منظمة الأمم المتحدة نالت القسط الأكبر من الهجوم والانتقادات الغاضبة، حيث وجهت لها اتهامات بممارسة الكراهية والتمييز ضد إسرائيل، خصوصا للأجهزة والفروع التي “تسيطر عليها أغلبية أتوماتيكية”، حسب الوصف الدارج والمسيء، غير أن بعض الكتابات الإسرائيلية لم تنجرف وراء هذا النوع من المهاترات، وراحت، بدلا من ذلك، تركز تحليلاتها على استجلاء طبيعة الأضرار التي يمكن أن تصيب إسرائيل عقب صدور الرأي الاستشاري المطلوب من محكمة العدل الدولية. ففي مقال بعنوان “الجمعية العامة للأمم المتحدة تحيل إسرائيل إلى محكمة لاهاي”، نشره معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS) يوم 15 يناير/ كانون الثاني الحالي، اعترف كاتباه، بنينا باروخ وأوري بييري، بأن الرأي الاستشاري المتوقع صدوره من هذه المحكمة سيكون، على الأرجح، قاسيا، وسيدين إسرائيل وسياساتها بشكل واضح، إذ يتوقع أن يؤكّد، بما لا يدع مجالا لأي لبس، أن مجمل السياسات التي تمارسها إسرائيل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، خصوصا ما يتعلق منها ببناء المستوطنات ومصادرة الأراضي وهدم البيوت وإصدار قوانين تمييزية ضد الفلسطينيين، لا تتمتع بأي قدر من المشروعية، لأنها تنتهك القانون الدولي، ولا تتماشى مع الالتزامات الواقعة على عاتق إسرائيل بموجب ميثاق الأمم المتحدة والاتفاقيات الدولية التي وقّعت وصدّقت عليها. والأرجح أنه لن يكتفي بذلك، وإنما قد يذهب إلى حد مطالبة الأمم المتحدة والدول الأعضاء باتخاذ إجراءاتٍ محدّدة لإجبار إسرائيل على وقف هذه الانتهاكات، بما في ذلك بعض الإجراءات العقابية إذا اقتضى الأمر. صحيح أن المقال يؤكّد على أن الإجراءات التي ستقترح المحكمة على الأمم المتحدة أو على الدول الأعضاء اتخاذها ضد إسرائيل مجرّد توصيات ليس لها صفة الإلزام، وعلى أن احتمال اتخاذ مجلس الأمن إجراءات عقابية ضد إسرائيل، استنادا إلى ما ورد في هذا الرأي الاستشاري من انتهاكات إسرائيلية، يبدو ضئيلا أو معدوما، بسبب استعداد الولايات المتحدة الدائم لاستخدام الفيتو لحماية حليفتها إسرائيل في مجلس الأمن، غير أنه يعترف، في الوقت نفسه، بأن قدرة إسرائيل على احتواء كل الآثار المترتبة على الرأي الاستشاري الجديد، مثلما فعلت من قبل مع رأي استشاري أصدرته المحكمة نفسها عام 2004 عن الجدار العازل، تبدو محدودة، خصوصا أنه قد يعطي دفعة قوية لتفعيل القرار الذي سبق أن اتخذته المحكمة الجنائية الدولية في مارس/ آذار 2021 بفتح تحقيق حول الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 13 يونيو/ حزيران عام 2014، وسيعيد، في الوقت نفسه، ضخّ دماء جديدة في الحملة التي يشنها المجتمع المدني الدولي، والمعروفة باسم BDS، والتي تطالب بمقاطعة إسرائيل وفرض عقوبات عليها.

بداية قوية لمسار طويل، سوف ينتهي حتماً بتصحيح ولو جانباً محدوداً من الأخطاء التاريخية التي ارتُكبت في حق الشعب الفلسطيني

يدشّن قرار طلب الرأي الاستشاري حول مشروعية الاحتلال الإسرائيلي الأراضي الفلسطينية مرحلة جديدة من مراحل الصراع مع إسرائيل. يذكّرني بالدور الذي لعبته الجمعية العامة للأمم المتحدة، من خلال فتاوى محكمة العدل الدولية، في حصار جنوب أفريقيا وإجبارها، في النهاية، على منح “إقليم جنوب غرب أفريقيا” الذي كانت منتدبة عليه، وتصرّ، في الوقت نفسه، على ضمه إليها، استقلاله الكامل بعد تغيير اسمه إلى “ناميبيا” التي أصبحت فيما بعد عضوا كامل العضوية في الأمم المتحدة، فحين رفضت حكومة جنوب أفريقيا نداءات الجمعية العامة المتكرّرة إلى جنوب أفريقيا بوضع هذا الإقليم تحت مظلة “نظام الوصاية”، لجأت الجمعية العامة إلى طلب الفتوى من محكمة العدل الدولية. وعلى الرغم من أن هذه المحكمة أفتت بأن جنوب أفريقيا ليست ملزمة بوضع الإقليم تحت نظام الوصاية، ولكنها ملزمة قانونا بتطبيق نظام الانتداب تحت إشراف الأمم المتحدة التي حلت محل عصبة الأمم، إلا أن حكومة جنوب أفريقيا رفضت هذه الفتوى، بل وتمادت في غيها إلى الدرجة التي دفعتها لرفض الاعتراف بأن إقليم جنوب غرب أفريقيا تنطبق عليه الأحكام الواردة في “الإعلان الخاص بالأقاليم التي لا تتمتع بالحكم الذاتي”، المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، ما يلزمها بتقديم بياناتٍ عن تطور الأوضاع الإقصادية والاجتماعية في هذا الإقليم الخاضع لسيطرتها.

وأمام هذا العناد، ورغم أن حكومة جنوب أفريقيا لم تجرؤ على ضم إقليم جنوب غرب أفريقيا رسميا إليها، اتخذت الجمعية العامة في 27 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1966 قرارا تاريخيا بإلغاء انتداب حكومة حنوب أفريقيا على الإقليم، واعتبرت أن أي وجودٍ لها في هذا الإقليم يعدّ باطلا وغير شرعي، بل وغيّرت اسم الإقليم إلى “ناميبيا”، وأعلنت وضعه تحت إدارتها المباشرة، ثم راحت تحاصر جنوب أفريقيا من كل الاتجاهات، بما في ذلك الاعتراف بحركة تحرير “سوابو” ممثلا شرعيا وحيدا لشعب الإقليم، إلى أن تمكّنت من حمل مجلس الأمن على فرض عقوبات عليها وإجبارها، في النهاية، على الخضوع لإرادة المجتمع الدولي. وهكذا، استطاعت الأمم المتحدة، في نهاية المطاف، تمكين شعب ناميبيا من ممارسة حقه في تقرير مصيره، ومن إعلان دولته المستقلة على كامل أرضه.

والواقع أن المقارنة بين وضع “فلسطين” ووضع إقليم “جنوب غرب أفريقيا” من الناحية القانونية البحتة، عند إنشاء منظمة الأمم المتحدة عام 1945، لا بد وأن يحسم حتما لصالح فلسطين. فالأولى كانت، في ذلك الوقت، خاضعة للانتداب فئة أ بينما كانت الثانية خاضعةً للانتداب فئة ج. ومع ذلك، اختلف مصيرا شعبيهما، حيث تعرّض الشعب الفلسطيني لأكبر ظلم تاريخي عرفه شعب خضع للاستعمار، ومن ثم ربما يكون الأوان قد آن لتصحيح بعض ما وقع من ظلم. لا أدّعي هنا، بالطبع، أن الجمعية العامة للأمم المتحدة، خصوصا بعد قرارها التاريخي إحالة الاحتلال الإسرائيلي إلى محكمة العدل الدولية، طلبا لرأي استشاري في مدى مشروعيته، سيكون بمقدورها إنصاف الشعب الفلسطيني بالطريقة نفسها التي استطاعت بها إنصاف شعب ناميبيا من قبل. ولكن من المؤكّد أن قرارها بإحالة الاحتلال إلى المحكمة يشكل بداية قوية لمسار طويل، سوف ينتهي حتما بتصحيح ولو جانبا محدودا من الأخطاء التاريخية التي ارتُكبت في حق الشعب الفلسطيني.

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...