عن الدبلوماسية القطرية والملف الأفغاني

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

أمجد أحمد جبريل

 

على الرغم من استمرار الانشغال العالمي بتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، تواصل السياسة القطرية جهودها في إعادة تذكير الدول بضرورة عدم إهمال القضايا والأزمات الدولية الأخرى؛ إذ تنشط الدوحة في محاولاتها إعادة الملف الأفغاني إلى “الأجندة الدولية”، وتستمر، عبر دبلوماسيتها “الوقائية”، في التحذير من خطورة ترك أوضاع أفغانستان، تنزلق مجدّدًا نحو صراع داخلي، يعمّق “المأساة الأفغانية”، ويؤدّي، في المحصلة، إلى تحويلها إلى”بؤرة عدم استقرار”، بما يهدّد مصالح الدول المجاورة، ويعيد أفغانستان إلى “الحلقة المفرغة” نفسها من إضعاف البلاد وتفكيكها، على مدار العقود الخمسة الماضية، عبر هيمنة ثلاثية “الاضطراب الداخلي، واحتضان حركات راديكالية عنيفة/ عابرة للحدود، واستمرار الصراع الدولي حول أفغانستان مع تضارب سياسات القوى الإقليمية بشأنها”.

وفي إطار تحليل السياسة القطرية تجاه أفغانستان ومستقبل الصراع الدولي/ الإقليمي حولها، ثمّة أربع ملاحظات؛ أولاها تتعلق بسعي قطر إلى إقناع مختلف الأطراف بأهمية وقف تدهور الأوضاع الأفغانية، نظرًا إلى خطورة تداعياتها على الإقليم والعالم؛ إذ عمد وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن، إلى تذكير المجتمعين في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بهذه القضية، على الرغم من انتقاده الصريح سياسات حكومة حركة طالبان، سيما قرارها (24/12/2022) حظر عمل النساء في منظمات الإغاثة والتحاقهن بالجامعات والمدارس الثانوية.

ولعل هذا يوضح سياسة قطر القائمة على أهمية الاستمرار في الحوار مع مسؤولي حكومة “طالبان”، بغض النظر عن الاعتراضات على سياساتها، بدلًا من المقاربة الإقصائية التي تعكس ميل واشنطن (وأطراف غربية كثيرة) إلى عزل/ معاقبة “طالبان”؛ إذ تقدّر الدوحة أن حاجة الحركة إلى اعتراف المجتمع الدولي ودعمه، ستؤدي إلى “عقلنة” سياساتها، ولو في المدى البعيد، على النقيض من سياسة العقوبات التي قد تأتي بنتائج عكسية تمامًا.

ويكشف تحليل كلمة أمير قطر، تميم بن حمد، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (21/9/2021)، أن مقاربة بلاده لملف أفغانستان ارتكزت على ثلاثة أمور؛ أولها تعزيز مسار الدوحة لتحقيق تسوية شاملة في أفغانستان. وثانيها توصيف قضية أفغانستان بأنها “ليست مسألة انتصار ولا هزيمة، بل مسألة فشل فرض نظام سياسي من الخارج بعد 20 عامًا”. وثالثها الفصل بين الخلاف السياسي مع حركة طالبان واستمرار تقديم المساعدات للشعب الأفغاني.

تتعلق الملاحظة الثانية باستمرارية الوساطات التي تقوم بها قطر في عدة ملفات إقليمية ودولية؛ فقد تحوّلت هذه الوساطات، (إضافة إلى “دبلوماسية إدارة الأزمات”، وبذل الجهود الحميدة لتقريب مواقف أطراف الصراعات الإقليمية والدولية من بعضها)، إلى جزء من أدوات السياسة الخارجية القطرية؛ إذ تواصل الدوحة حراكها في الأزمات الإقليمية والدولية، خصوصًا التي تؤثّر في أمن منطقة الخليج العربي واستقرارها.

وغنيٌّ عن البيان أن الوساطة القطرية في الملف الأفغاني تحديدًا ليست وليد اللحظة؛ إذ تعود إلى يونيو/ حزيران 2013 على الأقل، حينما جرى افتتاح مكتب سياسي لحركة طالبان في الدوحة، كان إيذانًا بانطلاق “مفاوضات غير مباشرة”، قبل النجاح في إقناع واشنطن و”طالبان”، بالجلوس وجهًا لوجه على مائدة المفاوضات، التي أثمرت في النهاية “اتفاق الدوحة” (29 فبراير/ شباط 2020)، الذي كان من بنوده اكتمال انسحاب الجيش الأميركي من أفغانستان في 31/8/2021، مقابل تعهدات من “طالبان” بالدخول في مفاوضات سياسية مع حكومة أشرف غني، ومنع أي حركة مسلّحةٍ من استغلال الأراضي الأفغانية، لشنّ هجمات على الولايات المتحدة.

تمكّنت الدوحة من جعل نفسها “وسيطًا مقبولًا” في أفغانستان، يحظى بتقديرٍ أميركي وغربي وأممي واضح

واستطرادًا، تدرّجت سياسة قطر تجاه أفغانستان عبر خطواتٍ دقيقة، بدايةً من توفير منصّات التفاوض مع حركة طالبان، مرورًا ببذل المساعي الحميدة لطمأنة واشنطن ومختلف الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالشأن الأفغاني، وصولًا إلى تدشين الخطوط الجوية القطرية جسرًا جويًّا (صيف 2021)، بهدف تقديم المساعدة اللوجستية في عمليات إجلاء الرعايا الغربيين من كابول، فضلًا عن إجلاء الأفغان الراغبين في مغادرة بلادهم، وانتهاءً بتوفير أغلب التجهيزات اللازمة لإعادة تشغيل مطار كابول ومنشآته، في وقتٍ قياسيٍّ نسبيًّا، بهدف انتظام خطوط الرحلات الداخلية والدولية من أفغانستان وإليها، بالإضافة إلى استضافة لاجئين أفغان في قطر مؤقتًا، إلى حين ذهابهم إلى وجهتهم النهائية.

تتعلق الملاحظة الثالثة بتركيز قطر على استخدام أدوات القوة الناعمة، والتواصل الدؤوب مع الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع الأفغاني. وبهذا، تمكّنت الدوحة من جعل نفسها “وسيطًا مقبولًا”، يحظى بتقديرٍ أميركي وغربي وأممي واضح، وإشادات متتالية بدورها، ناهيك عن تمتّعها بدرجة عالية من القبول من الطرف الآسيوي المقابل، المعني باستقرار الساحة الأفغانية وعدم عودتها إلى الاضطراب، بسبب تداعياته على الأمن الإقليمي، سيما على طرق التجارة والاستثمارات، خصوصًا مشروع الصين “الحزام والطريق”، وهذا يؤكّد ديناميكية السياسة القطرية، وطموح نخبتها الحاكمة، وحسُن قراءتها وتوظيفها متغيّرات البيئتيْن الدولية والإقليمية، لتوسيع هامش حركة السياسة الخارجية لدولة قطر، التي تحولت إلى “نقطة عبورٍ إلزامية” بالنسبة إلى جميع البلدان المهتمة بالمسألة الأفغانية، حتى غدت مقصدًا لزيارة كبار المسؤولين الدوليين، ناهيك عن نقل دول عديدة بعثاتها الدبلوماسية من أفغانستان إلى الدوحة.

تتعلق الملاحظة الرابعة بتعقيدات الملف الأفغاني الداخلية والخارجية، في ظلّ تفاقم الأزمات المعيشية والاجتماعية في البلاد، ونتائج الفيضانات التي اجتاحت مناطق مختلفة منها في أغسطس/ آب الماضي، وعودة هجمات تنظيم داعش على المصالح الدولية، وجديدها أخيرا التفجير الذي وقع قرب وزارة الخارجية الأفغانية في كابول (11 يناير/ كانون الثاني الجاري)، ما يعطي مؤشّرًا على احتمال فشل حركة طالبان في إدارة المرحلة الانتقالية التي أعقبت “الانسحاب الأميركي والغربي” صيف 2021، سيما في ملفات الأمن، والاقتصاد، وضمان الحريات/ الحقوق، وتشكيل حكومة شاملة تستطيع تمثيل مجتمع متنوع في إثنياته وأعراقه وإدارته؛ إذ لم تتمكّن الحركة، لأسباب داخلية وخارجية، من التحوّل من “تنظيم قَبَلي مقاتل” إلى بنية “دولة حديثة”، وإدارة معضلات التحوُّل من فاعلٍ من غير الدول إلى المأسسة والحوكمة ورسم سياسات عامّة ملائمة.

لم تتمكّن حركة طالبان لأسباب داخلية وخارجية، من التحوّل من “تنظيم قَبَلي مقاتل” إلى بنية “دولة حديثة”

وعلى الرغم من الوهن الداخلي الواضح للحالة الأفغانية، ما يزيد “قابليّتها” للتوظيفات المختلفة، فلا يمكن تجاهل التأثير الحاسم للبيئة الخارجية على تعقيد المشهد الداخلي، خصوصًا استمرار الصراع الدولي على أفغانستان. ويبرز في هذا السياق الإصرار الأميركي على عزل حكومة طالبان ومعاقبتها بعدم الاعتراف السياسي بحكمها وحصارها من خلال العقوبات الاقتصادية، بحجج غياب الديمقراطية وعدم التزامها بحقوق الإنسان وحقوق النساء، ما يعكس مقاربةً ذرائعية تنكر تداعيات/ مسؤولية الاحتلال الأميركي، في توسيع الفجوات الاجتماعية والعرقية داخل المجتمع الأفغاني.

بيد أن الأخطر هو سيناريو الدفع بأفغانستان نحو الهاوية مجدّدًا، بغية منع الصين وروسيا وباكستان وإيران وتركيا من الاستفادة من “الانسحاب الأميركي”، والتركيز على تحويل أفغانستان إلى “مستنقع أو ثقب أسود”، لاستنزاف خصوم الولايات المتحدة، ما يزيد من تردّد/ إحجام القوى الإقليمية عن تشكيل “شبكة أمان” إقليمية تدعم استقرار أفغانستان، وتمنع انزلاقها إلى صراعات داخلية مجدّدًا.

يبقى القول إن طبيعة السياسة الأميركية تجاه روسيا والصين بعد الأزمة الأوكرانية، وتأجيج واشنطن سياسات الاستقطاب دوليًّا وإقليميًّا، ربما تؤدي إلى تزايد بؤر التوتر والأزمات الإقليمية والدولية، ما يعني في المحصلة النهائية، تعقيدًا أكبر في “المرحلة الانتقالية”، التي يمرُّ بها النظامان الدولي والإقليمي، وترجيح احتمال استمرار الأزمة الأفغانية وتزايد تشعباتها السياسية والاجتماعية والأمنية.


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...