علوية صبح: الظّاهرة اللبنانية تحت المجهر

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

*بروين حبيب

 

 

لم أتوقع أن تكون رواية الكاتبة اللبنانية علوية صبح الجديدة بهذا الاختلاف عن كل أعمالها السابقة، والتي عنونتها بـ»افرح يا قلبي» الصادرة عن دار الآداب في بيروت. «شهرزاد الرواية العربية» كما كان يسميها الناقد جابر عصفور، رحمه الله، اتكّأت هذه المرة على لغة مختلفة لإنقاذ الحب من الموت المحتم الذي يتربص ببيروت عاصمة الفن وهدير المطابع والمكتبات والفرح.

تقودنا في هذه التجربة السردية الجديدة لتخطي عتبة عائلة لبنانية، واكتشاف خباياها وهي، دون أدنى شك، رمز للبلد الذي دمّرته كل أنواع الحروب، بدءا بالحرب الأهلية، إلى الحروب الخفية بين الطوائف والفيالق السياسية، إلى حرب الفساد التي كسرت خاصرة لبنان العظيم وحوّلته إلى بلد كسيح يئن ويحاول النهوض بمبدعيه، رغم إصرار مسؤوليه على المضي به إلى مقبرته.

تختار صبح عائلة تتكون من جدٍّ عاشق وجدّة معشوقة، لكن زمنهما بدأ يتراجع ويذهب للنهاية، أمام تقدم أبناء مختلفين، لم يرثوا من أبيهم نبل الأخلاق ورقة المشاعر، وهنا يبرز غسّان أكثر الأحفاد تعلقا بجدّه، ووارث العود وحب الموسيقى منه. هي في الحقيقة تريد أن تحكي لنا حكاية وطن، لكنها عن قصدٍ أو غير قصد، حكت لنا حكاية الوطن البديل، الذي ذكره إدوارد سعيد وأحبّت صبح أن تذكّرنا به قبل تخطي العتبة الأولى للنص: «الإنسان الذي لم يعد له وطن، يتّخذ من الكتابة وطنا يقيمُ فيه» وهو ما يتفق مع مقولتها العميقة: «الحب ليس أقلّ من عزف الموسيقى درسا للعالم، كلاهما وطن طائر»! هو إذن هذا الوطن، الذي قادته الأيديولوجيات والطوائف إلى تقاطعات مفجعة، ومفارق جعلت ستة رجال يخرجون من رحم واحد ليسلكوا مصائر مختلفة، منها المصير الأسوأ على الإطلاق حين يقتل الأخ أخاه، وحين يلتهم الندم الأخ القاتل فيتحول لآلة مبرمجة للموت، نتحدث هنا عن عفيف وجمال (المقتول) ثم يأتي محمود الذي ورث قسوة والده، وعنجهيته وتناقضاته، ثم سليم الذي سكنه ضعف والدته، حتى لم يعد يعرف نفسه هل هو رجل أم امرأة؟ أمّا طارق فقد سلك طريق الخلاص مثل غسان، واختار التخصص في التصوير في باريس، لكن القدر يقوده إلى العراق المشتعل لتغطية حروبه، يبقى غسّان الهارب إلى نيويورك بآلة العود التي ورثها عن جدّه يعيد شريط العائلة لفهم كل ما حدث، حتى أصبح المنفى خلوة مناسبة للتفكير بهدوء في مآسي عائلته التي تسللت إليهم عبر الفجوات المنسية.

تخبرنا صبح منذ البداية أنّ: «لكل شيء بداية ونهاية، وما بينهما هو السرّ» لكن لو أن سرًّا واحدا تضمنته الرواية، لكان كشفه بسيطا، فكل سرّ يكشف عن سر، لنجد أنفسنا أمام عالم كامل من الأسرار، بعضها جزء أساسي في عملية بناء الحكاية المتشعبة، وبعضها الآخر لعب دورا في تشكيل شخصيات الرواية وتنوعها، على مدى 350 صفحة تنكشف تعقيدات الظّاهرة اللبنانية، بعيوبها المرعبة، ووجهها الآخر الذي نرفض أن نراه، تماما كما نرى أعجوبة الحياة التي تنبثق من بين شقوق الصخر الحزين، الذي هوت عليه الكوارث والمصائب العديد من المرّات، حتى قلنا إن انبعاث الحياة منه مستحيلة. ندرك مدى سريالية «الظاهرة اللبنانية حين يعيش أبطال الرواية التباسات غريبة، حين يعتقد الواحد منهم أنه يعيش كابوسا مزعجا وسيختفي لا محالة حين يستيقظ، أو أنه مجرّد شخصية في فيلم أمريكي سيخرج منه حين ينتهي المشهد.

مثل غسان الذي لا ينقذه المنفى من فجائع الماضي، فيبقى متعثرا فيه، رغم إدراكه أن من «يركض إلى ماضيه لن يستطيع الإحساس بحياته الجديدة وحاضره». يهوي إلى عتمة القاع الذي تركه خلفه في الوطن الذي التهمته الأحقاد والحرب، فيتشبّث بذاكرته التي حصّنها جده بمقاطع من أغاني الزمن الجميل، فيتذكر نور، حبه الأول، ويتذكّر صوت أم كلثوم وهي تغني «افرح يا قلبي» فينظر إلى تفاصيل منفاه النيويوركي مستغربا، هل يمكن للحب أن يكون بالمذاق القديم نفسه؟ هل يمكن للإيقاعات التي سكنته على مدى سنوات أن تصنع منه إنسانا جديدا؟
تضع صبح بطلها الرئيسي أمام مرآة فاحصة تكشف له تغيرات الاغتراب، وانغماسه في إيقاع حياتي جديد، حتى آلته الوديعة الحبيبة التي رافقته في سفره، ابتعد عنها لعلّ عواصف ذاكرته تهدأ، لكن كيف لها أن تهدأ، وقد تحوّلت إلى جزء لا يتجزأ من تكوينه. البطل الذي يبدأ صباحاته بأغاني فيروز، ويحنُّ لرائحة أمه وحركتها في البيت، ويلاحقه الشرق حتى وهو في قلب نيويورك، سيبقى عالقا في عروبته وثقافته الأم، وذكرياته مهما جرّب الابتعاد عن كل ذلك. سيبقى لبنانيا قحّاً عاشقاً ونقياً مثل جدّه، وهذا صنف إلى انقراض إن ضاعت ذاكرته الجميلة وسط ضجيج المنافي الغربية. تخبرنا صبح أنه من الصعب على غسان نسيان الماضي فـ»دار العزّ» تلبسه. تسكنه الأصوات المنبعثة من الراديو، كما الأصوات المنبعثة من الحي الذي يقطنه، ويحن لدفء يغمره مثل الدفء الذي تركه هناك.

ينسى فظاعة المذابح على الهوية، وانقطاع الخيط الذي يربطه بعائلته، ويبحث عن الحب كما يبحث جائع عن قطعة خبز، ثم تفاجئه أستاذة مادة الصوفية في قسم الفلسفة (كيرستن) لتمنحه الدفء الذي ينقصه، تندفع نحوه وتلتهمه دفعة واحدة، بعد أسبوعين من معرفتها به، يفكّر بينه وبين نفسه، أن غزوته فاشلة وليست مثل غزوة مصطفى سعيد في رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» تتقاطع صورة هذه المرأة الأمريكية الجامحة وصورة جيسيكا حبيبة سعيد صديقه السابقة بصورة أمه، فينفتح موضوع شائك وطويل عن العلاقات بين الرجال العرب والنساء، وهم يستخدمون الجنس مرة للهوى، ومرة للمتعة ومرات للانتقام. يحاول غسان أن يكون صادقا مع نفسه ومع هذه الأمريكية التي ملأت بيته بالحب، إلا أنه يخفق حين يضطر لزيارة لبنان لدفن والده، فيتزوج شابة في مقتبل العمر، تتقبل تماما أن تكون زوجة ثانية في حياته، أو بالأحرى زوجة موسمية لعطلة الصيف أو الشتاء. هل تريد الكاتبة أن تفهمنا أننا مجتمع يكرر أخطاءه ويخاف من التغيير لهذا لا ينجح في بناء أوطان حقيقية؟ ربما، لكنّها تصرّ على مواجهتنا بكل بشاعاتنا، دون أن تنسى تنبيهنا بأنّ عوالم النفس البشرية تتغير وفق الجغرافيا والثقافات، ومدى صدق الإنسان أمام نفسه، لكنها لا تبعدنا عن الظاهرة اللبنانية التي نخرتها الطوائف، الأمر الذي جعلها تعتمد استدلالات قرآنية وأخرى إنجيلية كثيرة انتصارا للتعايش واحترام الآخر.

قد لا نصدّق بعض ما جاء في الرواية لأننا نرى لبنان بعين العاشق للفن، والثقافة والإبداع، إلاّ أن الكاتبة مزجت بين كل تناقضاته، لتقول لنا بكل بساطة إن لبنان «خلطة» عجيبة في الخريطة العربية، وإنه لم يعد سويسرا الشرق، لكنه نموذج جديد يحمل الأمراض العربية كلها، ويفتح ساحته مجددا لصراعات لم تتم معالجتها منذ أيام الحرب الأهلية.

المحزن في الرواية تلك النهايات غير المتوقعة، وكأن الكاتبة أقفلت باب الأمل تماما لمنع ميلاد جيل جديد في إمكانه إعادة أفراح لبنان لينطبق عليه العنوان «افرح يا قلبي» وكل تلك النماذج الغنائية التي أعطت للنص رونقه، وخفّفت بها حدّة الكآبة التي غمرته. لماذا اختار غسان زوجته الأمريكية التي في عمر أمه؟ هل سقطت الطائرة التي عادت به لمنفاه الاختياري؟ ما مصير ابنته آية؟ لماذا اختارت زوجته الشابة الجانب المظلم من الحياة؟ ولماذا ماتت بسبب رصاصة طائشة؟ لماذا فشل طارق في زواجه؟ وفي مشروعه الإعلامي المبني على عشقه للكاميرا؟ وما حجم الرمزية في هذه الرواية التي تبدأ بإيقاع وتنتهي بإيقاع مختلف تماما. غير ذلك هي رواية أجابت على كثير من الأسئلة، لكنّها في الوقت نفسه فتحت فوهة بركانية كبيرة لموضوعات جد حساسة، قد تثير نقاشات جادة ومهمة.

*شاعرة وإعلامية من البحرين

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...