محمد شكري ومحمد برّادة … الفرس واللاجم

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

عبد الحكيم حيدر

 

في أدب المراسلات وشيجةٌ غامضةٌ ومساحة من التسامح لا يمرّرها إلا أهل الموهبة، تذوب فيها الخلافات تحت أسنان الأقلام فوق الورق، ولا تنكسر الذوات لمنفعةٍ أو لمرضٍ أو لحاجة؛ المراسلات نفسها هي سماحة، وفتْح بوابة القلب كي تقول كل ذات: هذا أنا بكل عيوبي.

يقول محمد برّادة في بداية تعرّفه إلى محمد شكري: أول مرّة تعرّفت فيها إلى محمد شكري، حين التقيتُه خلال عطلة صيف 1972 بشارع باستور بطنجة … كان يمسك برسن كلبٍ كبيرٍ ويمشي وسط زحمة الناس، كنت قد قرأت له نصوصا بمجلة الآداب، وسمعت أخبارا مليئة بالمبالغات عن حياته الخاصة، تواعدنا على اللقاء في المساء، ولفت نظري، خلال محادثتنا التي امتدّت إلى ساعة متأخرة من تلك الليلة، أن شكري أبعد ما يكون عن الصورة التي يرسمها له المعجَبون. كان رزينا في حواره، عقلانيا في حججه، جريئا في طروحاته ونقده ما يقرأ، لم يكن مشدودا إلى “أسطورة” ماضيه، بل كان مفتّح العينين على حاضره.

هذا ما قاله محمد برّادة عن شكري، واصفا إياه على غير ما اشتُهر عنه في جلساته ومشاكساته وعراكاته، كما وصفها شكري نفسُه في المراسلات نفسها بعد هذا اللقاء الأول مع برّادة، فهل نميل إلى رجاحة العقل والسلوك والتأمل الفيّاض كما وجدها برّادة في أول لقاءـ أم نصدّق ما باح به شكري نفسه في المراسلات للشخص نفسه صاحب اللقاء الأول والوصف المناقض كل ما شاع عن شكري من محبّيه، أم أن اللقاء الأول لم يمكّن برّادة من تكوين صورة كاملة عن محمد شكري، فأراد بفائض المحبّة أن يجمّلها أو يكذّب محبيه في مبالغاتهم؟، تلك هي معضلة المحبّة والصداقة. واضحٌ أن تلك الفترة التي صاحبت اللقاء الأول كانت بداية المرض النفسي لشكري الذي جعله نزيلا في ما بعد في المستشفى النفسي، ودائما المريض النفسي، وخصوصا إذا كان موهوبا موهبة كبيرة كشكري، يجيد لعب الأدوار، وخصوصا إذا كان في حضرة ناقد كبير له حضوره المعروف في الشرق والغرب، وله دماثة خلقٍ معروف بها في جلساته، إلا أن محبّة الصحبة تداري كل خدوش الصورة، والتي لم تستطع تلك الذات أن تداريها في المراسلات وما كتمه برّادة، أو ما أخفاه عن النشر بالطبع كان أكثر.

إذن، لا تفصح المراسلات بقدر ما هي تداوي، وواضحٌ من خلال سنوات المراسلة أن برّادة لعب دورا مهما في حياة ذلك “الفرس الجامح” أدبيا، وتنبيها لمواطن الزلل حتى في بنية بعض القصص التي أشار إليها برّادة ببعض التغييرات، إلا أن ذات الكاتب، وخصوصا حالة شكري، كان لا يعلق لا من قريب ولا من بعيد إلى تلك الإشارات التي بيّنها له برّادة، وكأن شكري كان هو ذلك “الفرس”، الذي لا يحتاج إلى معلّم أو دكتور جامعي أو لاجم. وعلّ ذلك راجعٌ إلى إدراك برّادة بحسّه النقدي الرفيع لموهبة شكري الجنونية، والتي كان شكري يحاول، وهو في حلقته الرابعة وفتوته، أن يبدّدها في الشراب والمعارك الجانبية مع المجانين والمرضى في الحانات والمستشفيات. وفي تلك المرحلة تقريبا توقف شكري، بعدما ذاع صيته مع بول بولز وجان جينيه وآخرين، عن الكتابة إلا قليلا، حوالي تسع سنوات، كما أشار شكري نفسه في الخطابات، وهي الفترة التي بدأت بمرضه النفسي، وانتهت تماما بالتخلص من روتين الوظيفة بمعاش مبكّر في بدايات 1982. وهنا تخلّص من مصائب عدة: الصراعات الليلية والمرض وعذاب الوظيفة والحاجة للمال، إلا أن الشهرة كانت قد هطلت بكاملها عليه، فأصبح أكثر حزنا، وخصوصا في سنواته الأخيرة. شكري حالة عربية متفرّدة، يحكي بطلاقة، وإنْ كان برّادة نصحه بأن يحكي كتابةً، كي يوفّر على نفسه ضياع موهبته وتبديدها في المجالس، غير أن هذا الحكّاء كان كتلةً من الموهبة النادرة، وخصوصا في “المراسلات”، حينما يترك لنفسه العنان لنحت تلك الجمل المتفرّدة، مثل: “لم أكتب شيئا ذا أهمية، مكروهٌ من يحبّ المجد في هذه المدينة، لقد قرّرنا، أنا والمهدي، أن نموت في نفس الأسبوع دون أن نموت معا، كيف ذلك؟ كل ما أعرفه أنه يتنبأ للآخرين أكثر مما يتنبّأ لنفسه”. وهو يقصد المترجم الكبير والشاعر المهدي أخريف. ويكمل عن المهدي أيضا: “سمعته يقول: لا بد للمرء من أن يحمل بعضا من شبابه إلى قبره”. ويكمل شكري: “أعتقد أنه سيموت عجوزا أكثر مني ومنك، إياك من المهدي إذا زاغت عيناه في الشراب، ومسّد شعيْرات صلعته”.

المدهش حقّا أن المهدي أخريف أمدّ الله في عمره هو من مواليد 1953، فأي عرّافةٍ كانت تبلغ محمد شكري كل تلك الأشياء الكونية؟


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...