لعنة حياة مثيرة: الحوارات تجسد مباهج الأدب وإحباطاته

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

*عاطف محمد عبد المجيد

 

في مقدمته لكتابه «لعنة حياة مثيرة.. حوارات حول الكتابة» الصادر عن دار الربيع العربي، يرى جابر طاحون، أن أهمية الحوار تأتي من محاولة البحث عن إجابة، قائلا، إن السؤال سَفر والإجابة وصول. وإذا كان التلصص، على حد قول المترجم، ليس بفضيلة، فإن التلصص على حياة كاتب أو فنان مفضل، عن طريق حوار أُجري معه، ربما يكون فضيلة كبرى.

نحن نقرأ، يقول طاحون، لأننا نعيش في وحدة، والقراءة صحبة، وفيما تبدد القراءة وحدتنا، نكتشف أننا قد تربطنا علاقة بكتاب وبمؤلفه، ويصير هذا المؤلف صاحبا لنا، نحب أن نعرف أخباره ونسمع منه روتينه اليومي، أو سرّا يمكنه من الكتابة، وما الذي دفعه إليها، ونسمع منه رغباته وإحباطاته. عن أورهان باموق ينقل طاحون قوله، إن الحوارات تجسد له مباهج الأدب وإحباطاته، أكثر من أي شيء آخر، ومن الحوارات، كما يذكر طاحون، نعرف كيف تكونت البذرة الأولى لرواية، وكيف ذبلت نبتة قصيدة في عقل شاعر، وكيف يراعي الكاتب عمله، وكيف يُنمي الحبكة ويسير إلى جوار أبطاله.

ترجمة وافتتان

الذين ترجم طاحون حواراتهم هنا، قرأ أعمالا لهم وافتتن بها وظل يتابع ما يقولونه من أمثال بول إستر، سلمان رشدي، دون ديليلو، جورج سوندرز، وإيف بنفوا وغيرهم، ومن تتبعه لما يقوله هؤلاء في حواراتهم، عرف طاحون أن سلمان رشدي يصف نفسه، في حوار معه، بأنه شخص ملعون بالرغبة في حياة مثيرة، وقد تكون تلك اللعنة هي ما يجمع الكتّاب ويدفعهم للكتابة، كما يقول المترجم. أما كازو إيشيجورو الحاصل على نوبل، فربما يكون ملعونا بالبحث عن الجانب الطائش في كتاباته، وسفيتلا ألكسيفيتش الحاصلة على نوبل أيضا، فقد تكون ملعونة بالإنصات إلى حكايات غيرها، بعدما وجدت ألا جديد في الأدب الخيالي. كذلك يرى طاحون أن هاري ماثيوز، الذي لم يُترجم له أي عمل إلى العربية، ملعون بالتجريب واستخدام المنهج الرياضي في الكتابة بجانب التقنيات الموسيقية. ورغم أن ديريك والكوت، مثلما يذكر المترجم، ليس لديه أي صلة بالأشياء من حوله فقد كان ملعونا بالرغبة في استكشاف شيء جديد لم يصل إليه أحد قبله. كان طاحون إذا قرأ الحوارات، لم ينْجُ من قراءتها مرات أخرى، مرة برغبة التلصص، ومرة بغية التعلم، ومرة بغية الولع بهم أكثر وأكثر. غير أن الثابت في كل مرة كانت رغبته في مشاركة هذه الحوارات مع غيره، لذا قام بترجمتها ونشرها في كتاب، وسيسعده إذا أخبره أحد قرائه أن هذا الكتاب كان جيدا جدّا، وأنه بدد شيئا أو بعض شيء من وحدته.

الفوضى التامة

في «لعنة حياة مثيرة» ترجم جابر طاحون ثلاثة عشر حوارا مع كتاب كبار حصل بعضهم على جائزة نوبل، وبعضهم نال جوائز أدبية رفيعة المستوى، ومن خلال هذه الحوارات نعرف كيف يرى هؤلاء الكتابة، وما الذي تمثله لهم في حياتهم، وما هي طقوسهم التي يمارسونها أثناء الكتابة. كما نعرف آراءهم ووجهات نظرهم في عدة قضايا إبداعية، سواء على مستوى الإبداع أو على مستوى الترجمة. كذلك تسمح لنا هذه الحوارات بالاقتراب أكثر من هؤلاء، ومعرفة بعض التفاصيل الخاصة بحيواتهم التي يعيشونها ممتزجة مرة بالواقع المحيط بهم، ومرة منفصلة عنه متحولة إلى حياة العزلة.

حين نتلصص على حياة كازو إيشيجورو الذي يحسد الفوضى التامة، نرى أن هناك جانبا آخر من كتابته يحتاج إلى استكشافه وهو الجانب الفوضوي، المضطرب وغير المنضبط، إنه الجانب الطائش، وأيضا نعرف أن ألكسيفيتش كانت تعيش في قرية ممتلئة بالنساء المضطرات إلى العمل، بعد أن لم يبقَ في القرية رجال بسبب الحرب، وبعد الانتهاء من العمل كن يخرجن ويتسامرن، وكان الاستماع إليهن مثيرا للغاية ولافتا للانتباه. أما هاري ماثيوز الروائي والشاعر والمترجم الأمريكي الذي يرى أن الشيء الحقيقي هو الكتابة، يقول في حواره مع سوزانا هرنويل، إن قارئه المثالي يمكن أن يكون شخصا بعد انتهائه من قراءة إحدى رواياته، يقوم بإلقائها من النافذة من طابق علوي، وفيما هي تسقط يقوم هو بركوب المصعد ليستعيدها. كان ماثيوز يرى أن إيتالو كالفينو كان رجلاً رائعا ومتأتئا وخجولاً، وكان يصعب عليه أن يتحدث إلى مجموعة من الناس.

أما الشاعر والروائي روبرتو بولانيو الذي دعا الشعراء إلى التخلي عن كل شيء من أجل الأدب، فيقول عندما أكتب فإن الشيء الوحيد الذي يهمني هو الكتابة، كما يقول إن كل الأدب بطريقة ما سياسي، يعني أنه انعكاس للسياسة، وهو أيضا برنامج سياسي، كما يرى أن الكتابة شيء أكثر من ممتع، وهي نشاط له نصيبه من اللحظات المسلية، وأن القراءة دائما ما تكون أكثر أهمية من الكتابة.

رجل جمهور

وحين نتلصص، عبر لعنة حياة مثيرة، على حياة الشاعر تشارلز سيميك الذي ترتبط الكتابة عنده بوجوده في المنزل وفي غرفته وبالقرب من سريره، نعرف أن أبيه كان يلاحق شعره المبكر، وحين كبر كانت أمه هي من تقوم بذلك. كان سيميك يرى أنهم كانوا يعذبونه في المدرسة هو وأقرانه في باريس بجعلهم يحفظون قصائد رامبو وفيرلين وبودلير، ما جعله يكره هذا. أما الروائي سلمان رشدي أحد الكتاب الأكثر شعبية وإثارة للجدل في القرن العشرين، فيقول إن السبب الذي جعله يصبح كاتبا هو الكتابة عن الآخرين، ويرى أنه إن لم يكن قد أصبح كاتبا لود أن يصبح ممثلاً، لكنه فشل في هذا. وفي ما يخص الشعر، كما يراه الشاعر الفرنسي إيف بنفوا، فله مكانة أقل في المجتمع الفكري، وهو يمس الناس الذين يعرفون كيف يكونون حساسين تجاه ما يتحرك في داخلهم، وهناك العديد من الناس على هذه الشاكلة، موزعين في كل أنحاء البلاد.

أما دون ديليلو أحد أهم وأعظم أصوات الرواية الأمريكية لفترة تجاوز العقدين، فيرفض إجراء المقابلات لأنه لا يرى نفسه رجل جمهور، ولا يعتقد أن الفكاهة تهدف إلى مواجهة الخوف، إنها تقريبا جزء منه، كما يعتقد أن الخيال ينقذ التاريخ من ارتباكه. أما جورج سوندرز فيقول في حواره مع زادي سميث، إنه يعتقد أن هناك موجة رفض لوسائل التواصل الاجتماعي مقبلة، وأنه سيكون هناك رد فعل كبير ضدها. وما يثير حيرة سوندرز هو الطريقة التي صعدت بها التكنولوجيا لمساعدتنا على أن نصبح ماديين أكثر. وبعيدا عن كلمات المجاملة المجانية، والثناء الذي لا محل له من الإعراب، لا بد من تقدير جهد المترجم جابر طاحون المترجم الذي بذله في ترجمته لهذه الحوارات، سامحا لقارئها أن يعرف الكثير عن هؤلاء الكتاب الكبار، متوغلا في عالمهم الخاص، أو في ما يتعلق بتجربتهم في مجال الكتابة.
وها أنا أقول له: إن كتابك هذا قد بدد أشياء، لا شيئا واحدا، من وحدتي.

*كاتب مصري


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...