عامان على رحيل وطفاء حمادي : النقد ومسألة المواطن المسرحي .

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

الحسام محيي الدين

 

إلى واجهة المسرح اللبناني ، تتقدم وطفاء حمادي بإرادة تفضيلية مستحقة العناء تستشرف الأثَر القِيَمي المباشر لعلاقة المواطن بالفنون ، رؤى وممكنات ، وتعيد ، جادّةً وبميزان النقد ، ترتيب أولوية الثيمات المُلحَّة للعروض كيما تُضاف إلى ذاكرة الأفضل من نتاجات ذلك المسرح في سياقاته السياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة . وطفاء حمادي ( 1952 – 2021 ) أستاذة النّقد المسرحي في الجامعة اللبنانية وفي المعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت لسنوات ، والأكاديمية المعروفة محلياً وعربيا ، التي عملت على تأصيل الحالة المسرحية وتنشيط الحركة النّسوية في المسرح بالاضافة إلى التركيز على أهمية الانتماء الوطني في النتاجات الفنية ، مما بدا واضحا في مؤلفاتها ودراساتها التي منها : التّراث : أثره وتوظيفه في مسرح توفيق الحكيم ” (1996 ) ، المرأة والمسرح في لبنان ( 2002 ) ، سقوط المحرمات : ملامح نسوية عربية في النقد المسرحي ( 2008 ) .

أصدرتْ آخر مُنجزاتها النقدية الموسوم بعنوان : ” المُواطَنة وتجلياتها في الفنون البصرية والمشهدية : رؤية الشّباب اللبناني ” ( إلكترونياً عن دار التنوير 2020 ) قبل أنْ ترحلَ عنا منذ عامين ( شباط 2021 ) في سبيل إثبات أهميّة الوصول إلى مرحلة تأسيس مرجع نقديّ خاصّ بالمُواطَنة الصحيحة التي يُفسِّرها الفنّ بأجناسه المتعددة ( سينما ، مسرح ، تشكيل ) فعلاً وتفاعلاً وتحديداً المسرح الذي يعنينا في هذا المقام ، مما تتوسَّعُ في طرح إشكاليّاته وإثبات فرضيّاته كيما يُتاح الرّكون إليه في استكمال دورة مسرح أصيل مطلوب دائماً في عالمنا العربي . يُقدِّمُ هذا الكتاب خاتمةَ أجدى النتاجات العلميةّ التي تُأوِّلُ مشروع حمادي النقدي للمسرح حتى لحظة رحيلها ، ويبدأُ أولاً في إيضاح المفاهيم والمُكوِّنات التي تحكم ارتباط اللبناني الشّاب بوطنه ، وعَرْضِ التحديات الكبيرة التي يتواجه معها ، وتفسير كفاءة وفائدة هذا الأمر في تعزيز روح الانتماء الوطني .هي ليست المرة الأولى التي تركنُ فيها حمادي إلى مجاز بحثي / نقدي قلّما تصدّى له النّقد المسرحي العربي ألا وهو ربط مسائل الفنون بأنواعها – والمسرح في أوالياتها كرأس حربة – بمفهوم الدولة ومؤسساتها تحت العنوان الكبير للوطن ، تلازماً مع فتح آفاق التنظير والتطبيق في أعمال جيل ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية ومعالجته أسباب ونتائج تلك الحرب بكل مأسويتها . بين آفاق التنظير وإمكانات التطبيق للمسألة ، ترى حمادي إلى المسرح ركناً أساساً في ترتيب علاقة المواطن بوطنه ( الدولة والنظام ) ، وترجمةِ حياته الخاصة والعامة على الخشبة نصاً وعرضاً في ظلِّ تحديات العولمة والثورة الرقمية التي أثّرت في إعادة رسم دورة العادات والتقاليد التي تبني وتصقل كينونته الشخصية فكراً وممارسة . فعلى الرغم من تولُّدِ اللبناني أصلاً على أرض ثقافات مُنوعة من خلطة مؤثرات مَدِينية ثقافية / تاريخية ، عربية/ غربية ، موروثة / مُتدخِّلة ، إلّا أنّ خطابه المسرحي اليوم يقعُ تحت سُلطةٍ اعتباريةٍ جديدة جدّاً وهو يتأوّلُ تحوُّلات القِيَم الاجتماعية عن محاورها وأنساقها التقليدية كارتباطه بطائفته ومعضلة انتمائه الحقيقي إلى الفضاء الوطني الأوسع فضلاً عن تشوّشِ مفهومه الخاصّ لمسألة الحروب الداخلية المتفاوتة الأهمية في عدّة مناطق من الداخل وانتهاءً بحرب ” اسرائيل ” عليه غير مَرّة . لم تتجاوز الكاتبة بالطبع المراحلَ التاريخية للمسرح اللبناني منذ مارون النقاش وحتى الفترة الذهبية تحديداً ( 1960 – 1975 ) باتجاهاتها النظرية في الرؤى والأفكار عن المدارس العالمية التي حمَلَها روّادها إلى لبنان من العالم الغربي ومنهم : نضال الأشقر وروجيه عساف ( محترف بيروت للمسرح ) منير أبو دبس وأنطوان ملتقى ( مدرسة المسرح الحديث ) وشوشو ( المسرح الوطني ) ومسرح الأخوين رحباني ، ثمّ مسارح الشانسونييه مع أندريه جدع ووسيم طبارة وإيفيت سرسق ووسيم طبارة ، إلى كوميديا الوقوف ( Stand up Comedy) ثم جورج خباز ومسرحه ، وكلُّها قدْ عُرِضَ ولامسَ مشاكل الجمهور ، لكنها رأتْ أنّ تلك التجارب لم تغُصْ عمودياً على أزمات المجتمع اللّبناني كما يجب ، إنما قاربتها بحذرٍ مُلتبِس لا يعبرعنها بعمق ووضوح . بهذا المستوى انتقلت حمادي من حيّز التّنظير إلى التطبيق ، فأوردتْ في البداية نموذجَين يُترجمان علاقة المواطن بالمسرح ، لكلٍّ من هشام زين الدين وكريم دكروب ، اللَّذَين روّجا لأهمية فِعلِ التربية بالمسرح واستشكلا ارتباط الأخير بمفهوم الوطن ، وآمَنَا بأنّ للمسرح دوراً محورياً بالغاً في تجسيد حضور الرّجُل الصّالح على الخشبة بشخص صانعِ الدراما ، أو ما يمكن تعريفه بالمُواطِن المسرحيّ المِثاليّ وهو يمارسُ دوره المُناسِب في مواجهة النظام السّياسي الذي تُسيطرعليه منظومة الفساد بعناوينها الكثيرة كالمحسوبية واستغلال الوظيفة والإهمال وصولاً إلى الطائفية كمشكلةٍ عويصةٍ جداً هي أوّل وأصلبُ عائقٍ أمام تحقيق المُواطَنة الفاعِلَة . تنظر المؤلِّفَة إلى الأهمية القصوى لعلاقة التربية بالمسرح كقضية مثالية محلية وعربية تُترجمُ المُواطَنةَ كنتيجةٍ مباشرة للتنشئة الصحيحة ، فتعرضُ للنّموذج الأوّل ببُعدِهِ الأخلاقيّ الذي قارب فيه زين الدين الحرب الأهلية اللّبنانية في مسرحية ” أجمل لون ” التي كتَبَها بِلُغةٍ مُبسّطة للتلاميذ مع ما فيها من أغانٍ جميلة سهلةٍ وبسيطة تهدفُ إلى توعيتهم و خَلْقِ روح التعاون والاعتراف بالآخر واحترام ملكيته، عطفاً على مبادىء التّعاون ، والحرية والديمقراطية ، التخطيط ، التفكيرالجندري، الدعوة إلى المساواة ، الوحدة التي تصنع القوة ، التعريف بالألوان ، الاعتماد على النفس ، والاعتراف بالآخر ، مؤكداً أنّ التربية المسرحية أساس في صقل وتهذيب شخصية الطالب لا بوصفه مشروع فنّان بالضرورة ، وإنما لكونه شخصاً لا بدَّ له من الاستعداد من أجل اكتساب الخبرات والمعارف المختلفة لاستكمال شخصيته وصَقْلِها . هو إذن عرضٌ واحد ذو لُغةٍ حواريةٍ فنية تتّصلُ بتحقيق شعورٍ وحدويّ وطنيّ بين مجموعة أبطاله الأطفال ومن أعمار متقاربة اتّحدوا أخيراً تحت الخيمة المُلوّنة الواحدة في هدفٍ سامٍ حتماً يؤكِّدُ جمالية التنوُّع اللّبناني ويحفظُ وجوده إذا ما اجتمعَ في مشروعٍ متجانس لخدمة الوطن . أما النّموذج الثاني فهو من مسرح الدُّمى وتحديداً مسرحية ” شو صار بكفرمنخار ” تأليف وإخراج كريم دكروب ، الذي تماثلَ مع زين الدين في التعاطي المباشر مع الحرب اللبنانية ، فعالجَ واجبات المواطن وهو يواجه مشكلة انتشار النفايات في مدينة ” كفر منخار ” وكيف هربتْ ” مناخير ” أو أنوف الناس من أصحابها نتيجة لتلك المشكلة ثمَّ كيف فاوضوها لتعود إليهم . يمكنُ اعتبار ما قدّمهُ دكروب مسرحاً تربوياً أيضاً بأسلوب فكاهيّ ، وبأفكار حمَلتْ معاني التنشئة المُجتمعية على النظافة في الشارع وداخل المنزل والأماكن العامّة ، وضرورة التفكير بحلٍّ يُخلِّصُ المدينة من الزُّبالة ومن ثورة المناخير ومطالبتها بتنظيف المدينة من النفايات للعودة إلى أصحابها في عملٍ توعوي رائد للأطفال يحفّزهُم بنجاح وموضوعية على التزام النظافة الخاصّة والعامّة وبشكل دائم بما يحقِّقُ تقدماً كبيراً في تسويق مواطَنةٍ ناجحة . لقد تبنّتْ حمادي ما مسرحَهُ زين الدين ودكروب من مبادىء ، وكيف وُفِّقا في هدفهما وأسهَما إلى حدٍّ كبير ” بزرع القِيَم وتفتيح الوعي على القضايا الوطنية والاجتماعية والإنسانية والسياسية ، لتكريس مادة المسرح المدرسيّ ذي الهدف التربوي ” كما تقول. وفي محطة ترتيب الصورة الكاملة لعلاقة رجل المسرح بوطنه تعرُجُ الكاتبة في فضاء الفنّ الايمائي في حوارها مع فائق حميصي رائد المسرح الايمائي في لبنان والعالم العربيّ باعتباره مِمّن عاشوا الحرب في بدايتها ونهايتها ، مع ما يعني ذلك مِنْ أسبقيةٍ نقدية بمعناها الرّياديّ وهي تستكشفُ حركة الايماء المتنقلة على الخشبة اللبنانية بما تحمله من موضوعات اجتماعية في الحبّ والوطن والحرية والتمرّد والمستقبل وطبيعة الحياة والموت يؤكدُ حميصي أنها تهدفُ جميعها إلى بلورة ثقافة متكاملة ضمن منهجٍ مدرسيٍّ يقوّي شخصية الطّالب في إنضاجِ دورته الحياتية التعليمية الأولى على طريق الدّخول إلى معترك الحياة الفعلي ، عملاً وإنتاجاً وتأثيراً ، كيما يُوفَّق إلى رؤية مُواطِنِيّة واضحة وصحيّة . على الضّفة نفسها ينتقلُ الكِتاب إلى استعراض وضعية جيل ما بعد الحرب وكيفية مقاربته المسرحية الشّابّة لمسألة المُواطَنة وما إذا نجح حديثاً في تقديم رؤاه الوطنية والأخلاقية تحت سقفها ، فابتدرت المؤلِّفة الدخول من هذا الباب باعتبارٍ واقعيّ موضوعيّ هو أنّ هذا المسرح عالج قضايا وطنية / اجتماعية برؤى فكرية / ثقافية هي عصارة المدارس المسرحية ومنطلقاتها المنوّعة كمسرح العبث أو الرمز أو الواقعي الاجتماعي وأوردتْ بنَفَسٍ أكاديمي موصوف نماذج تحقيقية تداولت ثيماتٍ ثلاث مُلحَّة راهنية التأثير في هذا المضمار هي التالية :

أ‌- المرأة اللبنانية : واقعُها الخاصّ والعام ، شخصيتُها الوطنية / الاجتماعية حيث توفّرتْ حمادي في متن الكِتاب على عيّناتٍ تَفِي هذه المسألة حقّها من البحث أوّلها مسرحية ” صندوق الموسيقى ” إعداد وإخراج مايا زبيب التي تعرضُ فيها قضيةَ امرأةٍ تحبُّ مادّة الحساب جدّاً ، حُرِمَتْ من التعليم الذي يفتح لها سوق العمل ، وترفضُ أنْ تكون مجرّد خيّاطة ماهرة . نموذجٌ مسرحيّ ثانٍ هو ” البيت ” لأرزة خضر تطفو فكرته على سطح مُعضلات الإرث وحِصّة المرأة فيه بتصوُّرٍ عصريٍّ خاصّ لمبدأ المساواة وعدالة القِسمة بين أفراد العائلة الواحدة مما لا يُتاح بالطبع في كثيرٍ من القوانين المحلية وحتى العربية . أمَّا مسرحية ” شهرزاد في بعبدا ” لزينة دكّاش فهي ترى إلى منظور نسويّ خاصّ يقارب مسألة العنف ضد المرأة منذ طفولتها ، كوجهٍ من وجوه المواطَنة المبتورة التي تعطي دائماً نتائج عكسية تجعل مصيرها السِّجن تحت سلطة المجتمع . هذه النصوص الثّلاثة ساعدت جداً كما تؤكِّدُ حمادي في الاطّلاع على قسمٍ كبير من المشاكل النسوية العالقة بين المرأة كمُواطِن ومحيطها الاجتماعي مما مسرَحَتْهُ الطّاقات الشّابة ولا يزال على حاله في قضايا التعليم والطلاق والزواج والارث والحضانة وغيرها على الرغم من إقرار قوانين جديدة وتأليف لجان لحماية المرأة من العنف وكل أشكال التمييز ضدها .

ب‌- الحرب اللبنانية : نشأةً وتحوّلات ، وتأثيرها بعمق في مفهوم الانتماء الوطني للجيل الجديد . بدأتْ حمادي بمسرحية راقصة هي ” ذاك الجزء من الجنة ” لفرقة ” مقامات ” كوريغرافيا وإخراج عمر راجح وهي تعالجُ بالجسد وانهمار الرّوح لمشكلةٍ تاريخيةٍ نازفة من انكسارات ومرارات الحرب ، وتعرضُ لنماذج من خمس نساءٍ حقيقيّات ، تتناسلُ المآسي فيهنّ ولا تنقطعُ مع تقدُّم الوقت . ضحايا يعِشْنَ الآن صراعاً مع الذّات بعدما خُضْنَهُ مع المجتمع أثناء تلك الحرب وعنفها وجبروتها .هي مُعاناة حاضرة ودائمة الحفر في أفكار الجيل الشابّ الذي ورثها مُكرَهاً بشكلٍ أو بآخر مع تبدّلاتها القاتلة في المبادىء المتضادة بين جبهة وجبهة وفريق وآخر. أمّا نصّ “هللو ” ( مرحبا ) لطارق باشا ، فاشتغلَ في تسجيل مؤثِّرات الحرب – ولو انتهت منذُ زمن – في مقهًى على الطريق تتداخلُ رغباتُ شخوصِهِ بين الذّاكرة والواقع وهم يحاولُون الابقاء على أجواء تلك الحرب من خلال تقاسُمِ إرثها السّلطوي / المالي ليستفيدوا منها وليصبحوا مع الوقت أدواتٍ جديدة لإعادة إنتاجها وفاقَ ما يرونه ممارسة وطنية صحية وطبيعية ، إنما ممزوجة بمشاعر الخوف من كلّ شيء على كلِّ شيء ، أو التعاطي مع الشّيء الذي يحبونه ويخافونه في آنٍ معاً ، بلمسةٍ عبثية ، كحُبّ بيروت المثالية مثلاً والخوف من توحُّشها الماديّ . كذلك نصّ ” ماشي أون لاين ” لخلود ناصر ومريم بوسالمي الذي هو حديثُ شابٍّ وفتاة يتحاوران عبر الانترنت حواراً ذهنياً صريحاً إلى حدٍّ ما في مساوىء النِّظام الدّولي القاسي المزدوج النظرة في قضايا وطنية معاصرة كفلسطين ، وفي مسألة الاغتراب ودوافعها والهجرة عن الوطن ، بموازاة الشّعور بالغُربة في الوطن لمن بقِيَ فيه ، مع محاكاة الذّاكرة دائماً واستحضار تفاصيل المعاناة التي انبسطتْ ظلالها على واقع الجيل المسرحي الشّاب .

ج‌- الطائفية : لا مُواطَنة مع الطائفية في مُخرَجات المسرح الشّاب . ففي مسرحية ” شاش باش” تأليف جماعيّ لكلّ من إيلي يوسف وفؤاد يمين وماريليز عاد ، يُصوِّرُ لنا صانعوها مِحنةَ العلاقة مع الزعيم / المسؤول في زمن ما بعد الحرب ، وهو يمارسُ بوقاحة وظيفةَ التجارة بالمواطن مستغلّاً عقله وكرامته وآلامه وآماله بنفَسٍ مذهبيّ ، في صيغة درامية يختلطُ فيها العبثُ بالألم كلّما ظهرتْ قساوةُ الزعيم وشخصيته الحقيقية المستفِزَّة . أمّا مسرحية ” أرق الجميلة النائمة ” لعبد الرحيم العوجي فهي فانتازيا حوارية بين شخصَين الأوّل قنّاص والثاني فنّان مسرحي تترجِمُ مواقفُهُما المُتناقِضَةُ الشّعورَ العدائيّ لطائفةٍ بمواجهة أُخرى ، والمنطقَ السّائد باستغلال الطّائفة للاستقواء بها ، في موازاة الجميلة النائمة بينهما والتي يكون مجرّد حضورها على الخشبة قيمةً إنسانيةً رمزيةً سامية ومحاولةً يائسة للجمع ولَمِّ الشّمل في مواجهة المشهد القاسي العام الذي يكرّسُ الانتماء للطائفة ويُضعِفُ الحسّ الوطني .

في ماهية الخطاب النقدي لهذا الكتاب ، تحاول حمادي تفسيرالاشكاليات التي تعترضُ صيرورة المُواطَنة كمفهومٍ سليم في علاقة المواطن والمسرح ، انطلاقاً من الربرتوار المسرحي الطليعي الذي انتقته بعناية الخبير في العروض الشّبابية أعلاه ، وهي تفتح البحث على المستوَيَين الفنيّ والفكريّ فيها بما يتآلف مع الواقع النفسي / الثقافي / الاجتماعي لهؤلاء الشباب ، ممّا يتكورُ على خصوصيتهم المسرحية التي كان من أهدافها الابداعية إدراج التنشيط المسرحي غير المؤدلج ولا المؤطر ، إنما الحركي التواصل مع من يمكن الوصول إليهم من الجمهور الواسع والمتنوع ، وتكريس التفاعل معه ضمن توجه عام لنشر الثقافة في الشرائح الاجتماعية وإشراكها في بلورة الرسالة الهادفة التي يرسلُها كلُّ عملٍ ما أمكنها ذلك . تؤكِّدُ الكاتبة أنّ ما صنّفَتْهُ في كتابها – وبعناية – من عروضاتٍ ابتكرَ مُنجزاً غيرياً يبني على تحديات واقع الشّباب المسرحيّ محلياً واعتبرتهُ داخلاً في مسرح ما بعد الحداثة تحت تأثير أنساقٍ ثقافيةٍ جديدة فرضتْ مُعظمَها ظاهرةُ العولمة بذراعها الطُّولى أعني تكنولوجيا التواصل ، وأنّهُ يطمحُ إلى ضرورة التحوُّل العَقَدِيّ الرَّحب في مفهوم العقلية الوطنية مِمّا وجدَ لهُ جمهوراً واسعاً على الرّغم من سوداوية المضامين المُمَسرحَة لهذا المُنجَز في غالبيتها بما هي أنثروبولوجيا فاقعة عن قضايا المُهمّشِين والفقراء والمرأة والطفولة المُشردة والموت والطائفية والديمقراطية القَلِقَة وهجرة الأدمغة وغيرها من مساوىء الأحوال التي توَّجَتها الحرب اللبنانية بفرض طروحات وجودية أهمها على الاطلاق مسألة الهوية التي هي نواة الانتساب الفعليّ للوطن بأبعادها التاريخية / الجغرافية / الثقافية في الداخل ومن حولنا . مع كلِّ ذلك لم يستسلم هؤلاء الشباب – الـما بعد حداثويين – إلى نظرية الهروب إلى الأمام ولم ينقطعوا عن تاريخهم القريب السابق ، فكانوا عمليّين جداً ، إذْ مَسرَحوا ما اعتبروه وطنية أفضل ويجِب إشهارها على الخشبة أي محاولة التخلص من تلك الحرب القاسية ولمرة أخيرة مؤدّين قِسطهم للعُلى ، وواجباً وطنياً إلزامياً لا بدّ منه في أُوالِيّات مسيرتهم المهنية ووفاقَ رؤاهم الدرامية المُستحدثة التي تُجايِلُ رغباتهم العميقة في إنجاح اللحظة المسرحية من جهة ، والانتقام لجراحهم التي ورثوها عمّن قبلهم من جهة ثانية . هي محاولةٌ لم تَفُزْ ، أقلّهُ حتى اليوم ، بخاتمةٍ أو حلّ لارتدادات الحرب الأهلية العميقة الاعتبارات في النفوس وإنّما ظلّتْ في مجازِ فكرةِ التّكرار الذي شكل مع الوقت نوعاً من الاستقرار على وضعٍ جديد لا يزال مثار قلق وتساؤلات المصير . بهذا المعنى لا تتأخّرُ حمادي في إيضاح أنّ الناشط المسرحيّ الشّاب لا يزال يعيش ” أزمة المواطَنة وإشكالية العلاقة مع الوطن بسبب السلطة الحديدية التي يفرضها النظام الطّائفي في لبنان ” وأنّ منظور ما بعد الحداثة لم يمكنه من تحقيق كينونته كمواطنٍ مسرحيّ حقّ ، نموذجيّ المفهوم وكما يجب ، شكلاً ومضموناً ، وهو يتفاعل مع جمهوره وجاهياً ، وإنْ ثابرَ على التّثاقف مع مدارس مسرحية متعددة النّظرات والرّؤى . بنفس زاوية الرؤية ، فإنه ليس من السهل إيصال فكرة النصوص التي بسطتها الكاتبة على امتداد صفحات مُنجزها النقديّ بين أيدينا ، فذلك أمر دونه جهدٌ كبير يتجاوزُ إِعمال البؤرة الذهنية العادية للمتفرّج إلى تبنّي صِيَغ تواصلية تمنحُ الأخير خصوصيةً في التلقّي ، وتتعالقُ الحدثَ والأداء والحوار والتداخل المكاني بين المؤدّين والجمهور وجاهياً على الخشبة . إنها نصوص أشدّ إثارةً من الحرب نفسها ، تنبني على مُحرِّكات الشخصيّة المسرحيّة في نوعيتها وخطابها وتحوّلاتها الملموسة على الخشبة وهي تُعيد إنتاج الوضعية المجردة للانسان اللّبناني معنوياً وعضوياً ممّا يدور عليه الفعل الدراميّ في كلّ نصّ على حِدَة ، وتتفاوتُ ، أي النصوص ، في التّوظيف الصّحيح لمفهوم المواطَنَة وتجلياتها المسرحية الصحيحة أو ما أسميناه المُواطن المسرحي المثاليّ بدءًا برغبة الكاتب وحتّى وِقفَةِ المُمثّل على الخشبة ” بالأداء الرهيف في بياناته النفسية والجسدية ” كما يقول جواد الأسدي . من هنا لامَسَتْ هذه العروض أُفُقَ المدرسة الواقعية وهي تعكسُ المَعِيش وتقاربه ، لكنها لم تتّحد معها قياساً على أوضاع صانعي المسرح الشّبان الذين عاشوا المُتوارَث لا العضويّ اليومي من مواقف الحرب اللبنانية ، وبخلفيات سوسيولوجية / ثقافية مُختلفة ، ما جعلهم يستعينون بفنيات الاخراج والسينوغرافيا لتبرير موضوعية ما يقدمونه للنظّارة حتى الإقناع ، بين الخشبة والصالة ، ودائماً في اتّجاه القراءة البريشتية التي تُمسرِحُ فكرةً محدّدة تحت حركة التاريخ والتأثير المتبادل بين الانسان ومجتمعه . بهذا يمكن اعتبار ما قدمه الجيل الشّاب مسرحاً تحريضياً بالمعنى التفاعلي / التأثيري الذي يُثير التساؤلات ويطرح الاشكاليات في سبيل محاولة إيجاد الأجوبة عنها من المُشاهد نفسه وأنْ يأخذ هذا الأخير الموقف المناسب مما يجري من حوله . إنّ ما طرحته د. وطفاء حمادي هو تسويق نموذجيّ للفنّ الذي به يمكن إنتاج مواطنٍ مسرحيّ تنصهرُ فيه ثقافةُ صانعِ المسرح غير التقليديّ بإدراك المتلقي وثقافته ، وهو أمرٌ نادرُ البحث والتآويل في مسرحنا اللبناني تحديداً ويحتاجُ من دون شكّ إلى متابعة واستكمال لما له من أهمية في ردم الفجوة العميقة بين المسرح والمواطِن .

إيطاليا تلغراف

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...