المهدي رحالي
كنت أنهض في كل صباح يوم أربعاء على هم إيجاد الربعية في المكان الذي خزنتها فيه بالأمس، والربعية هنا هي عرف عريق بين فقيه المسيد ومرتفقيه، يقام في الغالب كل يوم أربعاء، حيث تتنوع اختياريا حسب كل عائلة مبلغ أو هدايا رمزية كمقابل على تلقين الفقيه لأبنائها القرآن وغيره من دروس العلوم الشرعية. فبعد وصولنا للمسيد، كنا نقصد الفقيه ونسلمه الربعية ثم يتجه كل منا ليحمل لوحته الخاصة، اللوحة التي تكون منحوتة من خشب الزيتون أو العرعارغالبا، أو أي خشب له خصوصيات فيزيائية تسمح بتنعيمه للكتابة، والتي غالبا تكون في مليكة المسيد الذي يحصل عليها غالبا بتقادم تداولها في فضائه، الذي تدخل إليه عبر تلامذته القدامى أو أحد المحسنين.
ليبدأ كل واحد بالقراءة والاستظهار جهرا ما كتبه أو كتبه له الفقيه في لوحته. حيث يكون جهر متفاوت المستويات من الدندنة ليصل أحيانا حتى الصراخ وذلك راجع للنضج والسفل الخاص بكل طالب، وهذا ما يجل القراءات تبدوا للمارة عشوائية وغير منضبطة لشروط التلاوة، وهي فعلا كذلك. لكنها في نفس الوقت جد مألوف صداها لمحيط المسجد ومرتفقيه. هذا الجهر الذي يتخلله أزيز صدور الطلبة والفقيه المخترق لجدران البناية. وهذه القراءات تكون في تلاث مراحل، مرحلة كتابة المسموع من الفقيه وإعادته قراءته كربط مع ما سيتم افتاءه، ثم مرحلة القراءة الترسيخية المتكررة، ثم مرحلة الاستظهار على الصديق ثم على الفقيه بعد إعلانه فترة الاستظهار.
ليأذن لك بعدها بغسل الجهة القديمة التي استظهرتها للتو، أي الجهة التي ستكمل فيها كتابة ما كتب في الجهة الجديدة، لتصبح الجديدة بدورها قديمة وهكذا تستمر رحلة اللوحة لينتهي بها المطاف إما متنازل عنها لطالب أخر أصبح يقدر على استيعاب ما يمكن ان تحمله تلك اللوحة في وجهها، أو تكون لوحة مباركة ختمت وتختم وستختم القرآن على ظهرها عشرات المرات.
ولغسل اللوحة بروتوكول خاص. فبعد اجتياز مرحلة الاستظهار يتوجه الطالب الذي يطلق عليه بالأمازيغية ” أمحضار” نحو مجمع صغير للمياه، الذي يكون عبارة عن حفرة اسمنتية صغيرة أو إناء صغيرّ، ويكون هذا المجمع مليء بالماء المشبع بالسمح والمنقوع فيه خرق لمسح ما هو مكتوب على اللوحة، ليتم بعد المسح تمرير حجر الصنصار بلطف وبخفة على وجه اللوحة المبللة، لتتجلى مع جفاف محلول الصنصار طبقة رقيقة فاتحة تميل للون الاسمنت الصناعي، غير أنها تكون فاتحة زيادة وبها شيء من الرمادية البيضاء.
ليأتي بعد جفافها مرحلة تسطير أسطر باللوحة قصد توجيه الكتابة وضبط حمولة اللوحة من المكتوب، حيث يشكل الطالب على طبقة السمح الجافة الأسطر بتوجيهه لقلم مصنوع من القصب بالجهة المستقيمة او شبه مستقيمة من لوحة أحد الأصدقاء. ليعقب ذلك التحلق حول الفقيه والبدء في تلقي الإفتاء والكتابة بالجهة المدببة من القلم نفسه بعد تبليل رأسه بالسمح. والسمح هو سائل بمثابة حبر يحصل عبر معالجة صوف الخروف في سلسلة مكونة من عدة خطوات تحوله لسائل محروق برائحة نفاذة يكرهها المرء في أول مرة يلقطها، لكنه سرعان ما يصبح لديه نوع من مشاعر الاحترام تجاهها مع تقديس روحاني كأن الروح تتبرك بها.
المسيد، المؤسسة التاريخية ومعقل الهوية الاسلامية
يمكن تعريف المسيد على أنه تلك الملحقة التابعة للمسجد دينيا وتنظيميا، حيث يكون عادة الإمام هو القائم على تدبير هذا المرفق الديني التربوي، بإعداده وتوجيهه لبرامج ومقررات تحفيظ القرآن وبعض الفقه والأحكام، وهنا قلت البرامج والمقررات كون المسجد قد يحتضن عدة فئات عمرية، وغالبا معيار قبول المرتفق هو قدرته على فهم واستيعاب التوجيهات التنظيمية أساسا والتعليمية والتربوية فضلا. حيث يعتبر المسيد مؤسسة إسلامية تاريخية متعدد الأشكال والتصورات حسب المذاهب والطوائف والعصور.
حيث أحدثت هذه المؤسسة بشكل حتمي تنزيلا للأمر الرباني لطلب العلم وتجسدا الإلهام الإنسي للسعي وراء التفقه في الفهم الروحي والدنيوي على ضوء مرجعيته وإيديولوجيته. ويعتبر المسيد فاعلا مهما في المجتمع على الصعيد الهوياتي كونه في علاقة جدلية ونمطية مع شخصية الفقيه، كون الفقيه يعتبر من الناظرين ذوي المصداقية والعلم في القضايا والإشكالات الحياتية ذات الطابع اليومي للساكنة، ففي خضم هذا البث المستمر نجد الفقيه يستحضر في وعضه وفتواه الملائمة بين الشرع والوضع وبين التأصيل والتوطين، ما يجعل روح الهوية الإسلامية تتلاقح مع عدة ثقافات وهويات وأعراف وتقاليد، بشكل لا يبدد وزن الفتوى وأيضا بشكل لا يلغي هذه المقومات المجتمعية.
المسيد، جامعة القرب
تعبر مؤسسة المسيد بامتياز عن ذلك التمركز الديني واللاتمركز الفقهي، حيث يلعب دور ذلك الملقن للنصوص وفي نفس الوقت المفسر لها، ويكون هذا عبر مراحل فالمسيد يبدأ بتلقين القرآن بالأساس ثم بعض الأشعار الدينية الروحية والصوفية التي يتردد ترديدها في المناسبات المختلفة، وعند ضبط الطالب لما سبق يكون مدى تقدمه في علوم الدين والشريعة مرهونا بمستوى مؤسسة المسيد، فإن كان بالمسيد فقهاء وأئمة موسوعيين ذوي منهج مضبوط وصدر متسع، فإنه يكمل دراسة أبجديات وأساسيات الفقه والشريعة بالمسيد نفسه بتحصيله لمختلف الأحاديث والأحكام، وأما إن كانت هذه الشروط لا تتوفر في ذلك المسيد فغالبا ما يُوجه الطالب لمدرسة تعليم الأصيل أو ينتقل لمسيد آخر، كي يعرج لمستوى أرفع وأكبر لإتمام ما بدأ أو ليفتح صفحات جديدة في تخصص وفقه مختلف.
وبالرجوع لمميزات المسيد التي تجعله نموذجا حقيقيا للاتمركز الفقهي، حيث نجد يلعب دور مهم في إيصال العلوم الدينية والشرعية بشكل أقرب وأسهل وأوفى، ولنأخذ لذلك نموذجا منطقة سوس بالمغرب، فنجد اغلب الوعظ بقاموس أمازيغي متكامل يتجاوز الترجمة الحرفية الميكانيكية الى معاجم لغوية وحزم من الأمثال وافية وكافية. يجلها قابلة للاستيعان بها حتى لدى الدهماء، أي عامة الناس.
المسيد، مقوم الفصاحة
فنظرا للأسلوب التحفيظ الفريد بالمسيد، الذي نجده يقوم على اعمال ثلاث حواس لدى الانسان، وهي حاسة اللمس التي تُعمل أثناء الكتابة في اللوح الخاص بالطالب، وحاسة السمع التي تُعمل أثناء الإملاء وأثناء تكرار قراءة المنقول والاستظهار، وحاسة البصر التي تُعمل أثناء القراءة. فعلميا لتثبيت المحفوظ يجب اعمال أكبر عدد من الحواس ثم جعل هذه الحواس تلتقي في استهلاك الشيء المراد حفظه، فبالاستمرار والالتزام في هذه العملية نجدها أساسا تسرع من حفظ النصوص المراد حفظها، وعلى المدى البعيد نجدها تقوي ملاكة الحفظ والحدس اللغوي لدى الطالب، ما يفتح له الأفاق الواسعة لفصاحة اللسان وبلاغته.
إضافة الى أن حفظ القرآن يكسب الطالب كما هائلا من المفردات والعبارات والصور البلاغية في عمر صغيرة، ويكون هذا عبر عملية الحفظ الذاتي وعبر متابعته لمدى حفظ صديقه وأيضا عند القراءة الجماعية للقران بوِرد الشروق والغروب، فعند المقارنة بين طالب المدرسة الحديثة نجد أن الكم المعرفي-اللغوي يكون أضخم وأوسع لصالح طالب المسيد.
المسيد، مكون الحس الاجتماعي
فمنذ نعومة الاظافر يكون المسيد من القبلات الأولى التي وجه لها الأطفال للاندماج في المجتمع، ففي المسيد يتكون وسط من الانضباط والتوجيه للسلوكيات والافعال، ففي هذه الأجواء التي من أهم معالمها عدم تشابه المقروءات وتباين التلاوات نجد ميلاد نوع من الأزيز يهز أرجاء المكان، الذي بدوره يخلق من النفحات ما يعزز الوحدة الروحية والتربوية التي ترسخ في طابع الطالب، فرغم تأرجح قراءة القرآن الجماعية بين الحظر والإباحة إلا أن من خلالها يظهر جليا مدى القدرة على الوصول وحدة القراءة ولوحدة الكلمة.
وفي المسيد نجد سيادة عدة ظواهر تآزرية تتبناها الساكنة المحيطة لضمان جودة بيئة الفئة المرتفقة وأيضا سؤال لقضاء الحاجة من الله، فنجد تردد تبرع الساكنة والمحسنين بأطباق من مختلف الأطعمة أو بمؤن مختلفة موجهة في الغالب لما له علاقة بإعداد جلسات وصواني الشاي، وهذا ما يرفع معنويات الطلبة كثيرا حيث يعتبرون بطريقة لا واعية هذه المساهمات بمثابة تزكية من المجتمع لما يفعلون.
وهذا ما تسبب في زرع عدة تصورات مخيال العامة، فنجدهم يربطون اختصاص مكونات القطب الديني غالبا بالولائم، في إقصاء غير حكيم البتة لخلفيات هذه الأنشطة، حيث يتم نسيان أن لهذه المجالس مهمة إحياء المناسبات الموسمية والعادية بالروحانيات من الأشعار والأذكار.
المسيد، مشتل الارتقاء الروحي
فبالرجوع لمفهوم أعلاه الذي يعرف المسيد، يمكن استنتاج أنه في الغالب يمكننا إيجاد المسيد ضمن بناية المسجد أو بالمقرب منها، أي أنه عنصر مهم من العناصر المشكلة للقطب الروحي والديني للقرية أو المجمع السكاني، بالتالي نجد هذا التقارب المكاني إضافة لنمطية الارتفاق البشري لمكونات هذه القطب، الذي يكون لدى الفرد خصوصا الطالب حافزا مهما للشروع في التأمل التدبري واكتشاف البعد الروحي خاصته، ما يعزز في نفس المرء عمق الايمان والقدرة على التذوق الجانب الروحي للأفعال اليومية.
المسيد، ضحية الاستعمار
فالمؤسسات الدينية هي أول من واجه الاستعمار الفرنسي وعلى رأسها المسيد، فيشهد التاريخ على الكم الهائل من الجهد لعزل المسيد والمسجد والزاوية والمدارس التي كانت بمثابة جدار عازل، وأيضا لمحاصرة العديد من الشخصيات الدينية بإخصائها عن أدوارها الجوهرية، فالاستعمار حاول جاهدا لاستبدال المسيد كونه معقل لتأطير الشباب والأطفال، بالمدرسة الحديثة كونها تعطي المستعمر مرونة وانسيابية أكبر في توجيه الرسائل للأجيال المترعرعة، وهذا ما نجح الاستعمار فيه بالفعل. وهذا ما جعل من المنتظر أن تكون عملية رد اعتبار لهاته المؤسسات بعد الاستقلال، وهذا ما حدث لكن بمستويات متواضعة جدا، بالدعاية لها أحيانا أو بالدعم المادي الرمزي أحيانا، لكن الواقع كان يفتقد للملائمة بين المدرسة الحديثة والمسيد، حيث تم ترك كل واحد منهما بشكل يجعل الفرد يدرك أنهما اختياران لا يمكن الجمع بينهما، ليس لتعارضهما بل لصعوبة التوفيق بينهما، لعدة عوامل كاحتكار الوعاء الزمني للطالب وعدم التنسيق الإداري والبيداغوجي بين المؤسستين، وهذا ما مهد الطريق ليصبح المسيد يواجه بشكل أعزل كابوس الإقصاء والتهميش.
فالمستعمر لم يحقق التقدم المؤسساتي بمستعمراته أبدا، بل ما تسبب به هو تلك الصدمة المؤسساتية التي جعلت مستعمراته تعي بمدى تهالك وتقليدية أجهزتها ومؤسساتها، وبالطبع الاستعمار لا يخرج إلا وقد ترك فكره وثقافته وتنظيماته، وهذا هو الفخ الذي وقعت فيه المستعمرات، فعوض المعناة قليلا ريثما يتم تنقيح وفرز ما يجب اتخاذه قاعدة من مخلفات الاستعمار، انطلقت هذه المستعمرات من النقطة التي توقف فيها الاستعمار وهذا ما تسبب لها بأن أصبحت تسير بشكل لا واعي في الأجندة الاستعمارية خصوصا على الصعيد الأيديولوجي والتربوي والثقافي والغذائي والاقتصادي.
ولهذا نجد مؤسسة المسيد لا تزال ذات شعبية سوى في المناطق التي لم تشملها سيرورة العولمة الحديثة، حيث لازال ينظر إليه كالحاضن الاولي لاكتساب الدفء المجتمعي للمجتمع الإسلامي، وأيضا للقيمة التي تعطى لحامل كتاب الله.