من الخوف إلى الحرية: عن فرويد والسيرة الذاتية العربية

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

*محمد تركي الربيعو

 

 

قبل سنوات من الآن، وضعت أمنية الشاكري الأكاديمية الأمريكية/المصرية، كتابا مهما بعنوان «فرويد العربي» ولأن الشاكري مهمومة بمنهج ما بعد الكولونيالية، كان السؤال الأساسي الذي حاولت الإجابة عنه، هل علم النفس علم أوروبي؟ أم شهد نقاشات واسعة في بدايات القرن العشرين؟ ولذلك ستندفع إلى دراسة حيوات بعض الأطباء المصريين مثل يوسف مراد (1902-1966) وسيتوقف مشروعها عند الستينيات. ولحسن الحظ ستشهد الفترة التي تلي ولادة علماء مصريين في علم النفس (مصطفى صفوان) كما سنتعرف من خلال السير الذاتية على تجارب بعضهم سيرة الطبيبة نوال السعداوي واستكمالا لهذه التجارب نعثر مؤخرا على تجربة فريدة أخرى، وهي تجربة الأكاديمية والمستشارة النفسية عفاف محفوظ، التي تركت لنا سيرة غنية ومجهولة بعنوان «من الخوف إلى الحرية» تحرير خالد منصور، داركتب خان.

حاولت عفاف، التي رحلت عن دنيانا قبل عدة أيام، رواية سيرتها منذ الطفولة، بعيون علم النفس، إذ تظهر ظلال فرويد في كل زاوية من السيرة تقريبا، تارة عندما تتحدث عن الجنس والمكبوت، وتارة أخرى وهي تحاول تشخيص واقع المجتمع المصري بُعيد الستينيات. كان فرويد قد لاحظ أنّ لكل إنسان جزء غير معلن في تكوين شخصيته، وأن هذا الجزء يتشكّل من خلال الغرائز المكبوتة والتصورات والتجارب اليومية، ويبقى مدفونا في اللاوعي. كما وجد أن الجنس يعد مفتاحا مهما لتفسير الأفعال والسلوكيات. ولعل الملاحظة الأخيرة، هي التي سيعثر عليها القارئ في سيرة بطلتنا عفاف. إذ يظهر الجنس في أكثر من مكان، ويبقى مرافقا لزمن طويل في سيرتها.

ستظهر أول صور الجنس من خلال القصص التي سمعتها عن غراميات جدها مع خادمته، وفي مشهد آخر سترى والدها وجارتهم في حالة غير سوية. كما بقي الجنس يشكّل هاجسا لدى العائلة، فقرّر والدها إدخالها في مدرسة راهبات لأنهن متشددات في تربية البنات. وتعود المشاهد الجنسية لتلقي ظلالها على حياة الفتاة عندما تتعرّض للتحرش في سن العاشرة من قبل فتاة أخرى. وأيضا نتعرف على قصة إحدى قريباتها التي وجدها زوجها الدبلوماسي برفقة الملك في منزلهم. وللوهلة الأولى، يخيّل للقارئ أنّ هذه المشاهد ربما هي ما علقت في ذاكرة الراوية عن طفولتها، لكن تكرارها سيكشف أنّ محفوظ اختارت أن تكون سيرتها، ليست مدخلا لقراءة ماضيها فحسب، بل أيضا لإعادة قراءة المجتمع المصري بعيون فرويدية.

في مرحلة الشباب، ستنتقل عفاف للدراسة في الإسكندرية، وخلال سنوات الجامعة أخذت تبدي ميولا تجاه الدين، ولاحقا ارتداء الحجاب، على الرغم من معارضة عائلتها. وهنا تؤكد أنّ هذا النزوع نحو التدين ربما جاء أيضا كتعبير لا واعٍ عن حالة الشعور بالأقلوية التي أحسّت بها في مدرسة الراهبات، وتضيف «كنت مقموعة للغاية وألجأ إلى آليات لا واعية من أجل أن استمر في العيش، دون مواجهة أي مخاطر أو عقاب من جانب أسرتي أو المجتمع» ويبدو في تفسيرها وكأنّ الدين هو انعكاس لخوف وكبت طفولي، لكن هذا التحليل النفسي لن يقف على تخوم الطفولة، بل نراه ينتقل إلى بيتها الزوجي بعد ارتباطها بالشاب (أحمد القشيري، دبلوماسي مصري). فقد بدا لها مرتبطا أكثر من اللزوم بوالدته، ولذلك أخذت تفسر سبب ضعفه الجنسي من هذا الباب، إذ ظل يعاني من عقدة وقمع أبوي أثّرا، كما تقول، على خصوبته الجنسية.

التعرف على جاك لاكان

في الستينيات ستنتقل للعيش مع زوجها في باريس، وهنا ستُفتح أمامها أبواب التعرف على علم النفس. كانت عفاف قد حلمت بإكمال دراستها في العلوم الجنائية، لكن زوجها أقنعها بالالتحاق بمدرسة العلوم السياسية، لكنها بدت أيضا غير مهتمة كثيرا بدراسة عالم جمال عبد الناصر، الذي اختارته عنوانا لأطروحتها، وبدلا من ذلك كان مصطفى صفوان يقودها إلى دروس عالم النفس الفرنسي جاك لاكان، الذي ظهر شيقا في أفكاره. مع ذلك يبدو أنها ظلت تميل لأفكار فرويد، كما تقول، كون الأخير حاول تبسيط أفكاره، في حين لم يكن لاكان مهتما بنشر أفكاره.

مع غرامها بأفكار فرويد، أخذت عفاف تحاول فهم المجتمع المصري في السبعينيات والثمانينيات من خلال نظاراته. وفي هذا المشهد سيظهر لها بواب العمارة وقد باتت مهمته مراقبة سكانها، كما سيبدو أن المجتمع المصري يعاني من كبت جنسي، وأن التحرش الذي أخذ ينتشر في حياة هذا البلد، ليس سوى امتداد لحالة الكذب والنفاق التي يمارسها الذكور والإناث في هذا المجتمع. فهم يتأرجحون كلهم كما تقول دون توقف بين قمع ذاتي واجتماعي ضاغط في الحياة العامة، وانتهاكات صارمة في الحياة الخاصة. وهكذا ينتشر زنا المحارم وما يسمى بجرائم الشرف في الأوساط الاجتماعية نفسها. وهنا تعتقد أن هذا الكبت الشديد يؤدي إلى حالات هستيرية ويزيد من وقائع التحرش الجنسي.

الاسكندرية في الخمسينيات

أبطال مصريون بعيون نفسية

كما تحوي السيرة تفاصيل عديدة عن حيوات مثقفين وصحافيين مصريين التقت بهم المؤلفة خلال العمل. وقد حاولت أيضا أن تنقل لنا قراءتها النفسية لهذه الشخصيات، وإن لم يخل الأمر أحيانا من بعض النميمة. أول الأشخاص الذين ستكتب عنهم هو محمد حسنين هيكل، الذي بدا لها كما تقول يسعى إلى جعل صحيفة «الأهرام» المصرية مشابهة لصحيفة «نيويورك تايمز» لكنه في الحقيقة لم يكن يسعى في داخله إلا لأن يكون المستشار الأول للرئيس وصانع السياسات الأهم في الخفاء. ستروي لنا أيضا عن صورة نوال السعداوي، التي كانت تطالب بالرئاسة أينما حلت في اجتماعات مؤسساتية، وكأنها كان تنتقم بذلك من تاريخ القهر الذي ألمّ بالنساء، لكنها كانت في المقابل، كما تقول، عصبية المزاج، ولذلك لم تتوان عن شتمها في إحدى المرات. مع ذلك تؤكد أنّ كتب ومقالات نوال المبكرة ستظل تمثّل تحولا دراميا في الكتابة عن قضايا بعينها تخصّ النساء في مصر. ولا تنسى في هذا الشأن وضع عالم الاجتماع المصري سعد الدين إبراهيم على سريرها النفسي، ومن خلال تقييمها سيبدو لها كاذبا جبانا في مرات عديدة، ولديه عقدة نقص من الآخر الغربي (وربما لذلك تزوج من أمريكية).

في الثمانينيات سترتبط عفاف برجل أمريكي، وقد بدا لها هذا الرجل أكثر انفتاحا وتقديرا لها ولثقافتها، ولذلك تذكر أن حياتها الجنسية معه كانت أكثر تشويقا ومتعة، وكأنّها تحاول القول إنّ زوجها الثاني لم يكن يعاني من صور مكبوتة، ولذلك نجحت حياتهم الجنسية. كانت مصر في هذه الفترة تنتقل إلى عالم من اللامبالاة، كما تقول، ولذلك ستنتقل للعيش مع زوجها في أمريكا، وهنا سيتاح لها إكمال تخصّصها في علم النفس وفتح عيادة طبية. مع ذلك تؤكد أنّ ظلال نخيل المنيا (منطقة في الصعيد) ظلت ترافق خيالها طوال هذه السنوات.

ما الذي يفعله الزمن بالذكريات؟

ربما يعد هذا السؤال إشكاليا، وقد يوحي بأنّ السير مهما حاولت تذكر الأحداث، فإنّ النسيان غالبا ما ينتصر في النهاية، معلنا تسجيل ذاكرة جزئية. لكن محرر سيرة عفاف، خالد منصور، لن يقف عند هذا الجانب فحسب وهو يدون سيرة عفاف، بل سيبدو متنبها أيضا إلى أنّ السيرة التي نقرأها قد لا تمثّل الماضي بالضرورة كما هو، وإنما «كانت صور وأفكار وكلمات وأحاسيس من صنع عقلها اللاواعي، أو بعض من هذا وذاك». وهنا لا نعتقد أنّ منصور يقصد أنّ السيرة أو الذكريات هي نصوص بطولية أو وهمية، وإنما يبدو أنه يقترب من جوهر أدب السيرة. فالسيرة في الأساس هي نص لا يهدف إلى توثيق الماضي، بقدر ما يسعى إلى تخيله أحيانا وإعادة اكتشافه، ولذلك فالذكريات والسير هي نصوص جمالية، نحاول من خلالها تدوين الماضي وأحداثه من خلال ما اكتسبناه من معارف وأدوات. ويمكن القول إنّ سيرة عفاف محفوظ هي سيرة من هذا النوع، فهي لم تدون ذكرياتها كما حدثت، بل حاولت إعادة اكتشاف ماضيها وتاريخ مجتمعها من خلال ما أحبته (علم النفس) سواء اتفقنا مع تأويلاتها أم لا، ولذلك يكتسب نصها معنى آخر غير معنى توثيق الماضي، هذا إن لم تكن الفكرة الأخيرة سوى مجرد فكرة ساذجة.

*كاتب سوري

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...