منار محمد بشار قنوص
لقد حدث معي أمر غير عادي، سألتقط صورة أشاركها مع الآخرين للذكرى، زرت هذا المكان.. ذهبت في رحلة إلى البستان… لا بد من صورة أوثق فيها سعادتي هنا… وهذه مشاركة أخرى ليوم فرحتي.. التعليقات الإيجابية تحفزني لكي أشارك المزيد حتى أسمع مثل هذه الإطراءات… لقد زاد عدد المتابعين.. إنني ألاقي قبولا في المجتمع من حولي…
ويتكرر ذلك الموقف ويزيد عن حده.. هكذا بدأت حكاية كثيرين، وهكذا وقعت ضحايا فتنة القرن الحادي والعشرين تحت مظلة محبة الناس الزائفة في أغلب الأحيان، والممزوجة بالتملق والنفاق، لقد تحولت مواقع التواصل الاجتماعي اليوم إلى ساحة منافسة يتسابق فيها الغث والسمين ليتميز تميزًا من فراغ، وبات التميز الذي يبحثون عنه مقترنًا بالمادة لا غير، يعيشون بالأوهام، ويعشقون الأرقام، ويتخبطون من أجلها وكأن قيمتهم مستمدة من قيمتها، وكأنها هي معيار التفاضل بينهم حتى صار كلٌّ منهم لا يشبه نفسه، يعيش في برج من سراب في عالم ليس في العالم.
نعم لقد فقدت الحياة طعم الحياة، وصارت شكلًا دون معنى، صارت شكلا براقا يدعي الكمال والمثالية والسعادة، صارت شكلا يطمح إليه الناس من ضعاف النفوس، فيشكون سوء حالهم وقلة حيلتهم، يبررون لأنفسهم الفشل، وينتشر الحسد والضغينة والكثير من أمراض القلوب التي تؤدي في غايتها إلى تأخر في مجتمعاتنا التي تحتاج إلى أسمى النفوس وأعلى الهمم لتنهض وتزدهر وترتقي وليس المظاهر.
وقد فقدنا قيمة من أثمن قيمنا ألا وهي قيمة الستر، فمنهم من تفاقم معه الأمر أكثر، فقد ينشر ما هو غير لائق تحت مسمى “الحرية الشخصية” بسبب التقليد الأعمى واتباع الشهوات وتزيينها في العيون، وفيها ما يخرق أخص خصوصيات الفرد وما يهتك حرمة الأسرة، وصار البعض يجاهر ويتفاخر بسوء صنيعه بحجج واهية، بل والأفظع من ذلك مطالبتهم للآخرين بإقرار أفعالهم ودعمهم أيضًا، فهذه تخلع الحجاب وتدعي أنها نفس الروح ومن تقبلها بالحجاب سيتقبلها من دونه لأنها نفس الفتاة بل هي الآن أكثر صدقًا مع من يتابعها، وتلك تلفق لغيرها أشنع الاتهامات التي تخدش حياء المرء وتودي بسمعة الآخر مشوِّهةً صورته، وهذا يصور في كل يوم عائلته دون غيرة، وذاك يتظارف مع الفتيات بمكر شديد متباهيًا بحجة أنه (open mind) وكل شيء تلتقطه عدسة تلك الكاميرة يسير في طريق بذهاب دون عودة من بعد ضغطة (post) فمن يمحو ذاكرة الانترنت؟
أولئك أنفسهم إن نظرت إليهم من زاوية أخرى فإنك تجدهم ممن أصيب بالأمراض النفسية، فدعونا لا ننسى أنفسنا ولا نضيع أعمارنا فيما لا ينفع، وإنني لأرى أن التميز هذه الأيام بات في أن تستطيع أن تكون إنسانًا عاديًا، وأعظم إنجاز لك يتمحور في قدرتك الحفاظ على اتزانك وعقلك، وترفعك عن الدنايا، والرضا بما قسمه الله مع السعي نحو الأفضل دون إفراط أو تفريط، وأخطاؤك ستتعلم منها بهدوء وستُنسى فيما بعد، وليكن بحثك عن التميز في مكانه الصحيح، أما أمر التسجيل المفرط فدعه لأصحاب الأمر بين رقيب وعتيد، فهما يتمان عملهما على أكمل وجه، ولا يقصران في عملهما لحظة، فلْيأخذ كلٌّ دوره.
هل جربت لذة التفرد في شيء ما؟ هل حافظت على تلك السعادة في داخلك ككنز ثمين؟ هل تستطيع أن تتذكر تلك اللحظة الجميلة دون شائبة تشوبها ولا عين تحسدها؟ إن من قمة الذكاء أن تحافظ على مستوى العادية في حياتك في أنظار الآخرين، فذلك فيه من الراحة الكثير، راحة لا يعرفها إلا من جربها، فمن ذاق عرف، ودع ذلك التميز يلمع نجمًا في سمائهم عندما يشتد الظلام من حولهم، فما أسعد أن تكون عاديًا!