عرض موجز لكتاب الحق الباهر في سيرة المجاهد عبد الرحمن الزاهر

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

وضاح عبد الباري طاهر

 

 

 

هذا كتاب صادر عن دار تريم للدراسات والنشر، تأليف الأستاذة الباحثة شفاء مصطفى الزاهر، عن سيرة جدها المجاهد العلامة عبد الرحمن الزاهر. يقع الكتاب في 180 صفحة بالقطع المتوسط.

اعتمدت الباحثة في سيرته على الوثائق المحلية لدول الأرخبيل الهندي وعلى بعض المصادر الأوروبية.

والسيدة الكريمة الأستاذة شفاء حاصلة على دبلوم هندسة مدنية من جامعة عدن، أمَّا أبوها فهو السيد مصطفى الزاهر درس في العراق، كما أنَّ والدتها إحدى خريجات الدفعة الأولى لمدرسة «الأخوة والمعاونة» التي أنشأها السادة آل الكاف -رحمهم الله تعالى- وكان لهذه المدرسة دور كبير في نشر التعليم في حضرموت، وتسهيل ابتعاث الطلبة لبعض الدول العربية.

وآل الزاهر يرجعون في نسبهم إلى السادة العلويين آل شهاب الدين. وقد أنجبت هذه الأسرة الطيبة الكثيرَ من أئمة العلم والأدب والشعر والتصوف والولاية.

صدر الكتاب بمقدمة قيمة للأخ الدكتور أحمد باحارثة أتى فيها على كلام للمؤرخ الأستاذ محمد عبد القادر بامطرف حيث يقول: “إنَّ حضرموت “على ما عُرِفَ عن أهلها من خنوع أمام القوة الغاشمة، ومداراة مؤسفة لمصادر تلك القوة، لم تعدم رجالاً من السادة العلويين كانوا قادةً سياسيين على جانب كبير من الشجاعة والإخلاص؛ حاولوا بأساليبهم الخاصة القيام في وجه الباطل لِصدِّه، لكنهم كانوا يُصدمون في محاولاتهم الإصلاحية فيتراجعون، ثم يطويهم النسيان، وتدبُّ روح الانتصار للحق والعدالة فيهم؛ فيعودون من جديد، وكأنهم أصحاب رسالات يجب أن تبلغ وتنتشر وتثبت أو يموتون دونها”.

ثم يقول الأستاذ باحارثة: “فكان السيد الأمير المجاهد عبد الرحمن الزاهر (1833- 1896) واحدًا من هؤلاء الحضارمة الذين علا شأنهم بوصفهِ قائدًا سياسيًّا تحلى بالشجاعة والإخلاص في نصرة الحق في زمنه، ثُمَّ صار ممن طواهم النسيان لنأيهم عن الأوطان، وتلاشوا في ركام الأزمنة دون ذكرٍ أو وفاء حتى انبعثت السيدة شفاء، ففتشت في المصادر ونفضت عنها الغبار”. (ص9-10).

والدكتور باحارثة في شكواه على حق؛ فإنَّ الأمير عبد الرحمن الزاهر على ما بلغه من الشهرة والدوي الكبير في الاستانة وفي الصحف الأوربية أيام قيادته للجهاد، ومقارعته للاستعمار الهولندي، وما تميز به من العلم والذكاء والنبوغ السياسي، لم يلقَ حظه من العناية والاهتمام نظير ما لقيه إخوانه في المغرب العربي: الأمير عبد القادر الجزائري، والأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي مع كونهم جميعًا رموزًا عربية إسلامية كافحت الاستعمار، وتصدت لطغيانه وجبروته.

وهي شكوى قديمة تظلم منها كل من أراد أن يتصدى ويكتب عن اليمن وأعلامه الكبار. فقد حفلت اليمن على مر عصورها بأعلام عظماء ملؤوا الدنيا علمًا وأدبًا وجهادًا إلا أنَّ حظ أبنائها من الذكر دون العراق، ومصر، والشام، وبلاد المغرب، وقد أكد هذا المؤرخ اليمني مُسلَّم اللحجي (ت: 550هـ) حين قال: “إنَّ قلة الرغبة في أهل اليمن في إحياء ما يكون في بلادهم، وفي أهلها من الأخبار والآثار، ولهم الفضائل والمحاسن والعجائب ما قد عرفت. ومعلوم أنه قد كان في اليمن من المحاسن الحسنة في أخبار الدنيا في الجاهلية، والإسلام، وأخبار الدين في الإسلام وسائر مكارم الأخلاق ونوادر العجائب التي قد دوَّن أهل العراق، والحجاز، ومصر، والشام، وخراسان ما هو دونها، وأحيوا ما في طبقتها من أخبار ملوكهم وقوادهم وشعرائهم وكُتابهم وخطبائهم وفقهائهم وعُبَّادهم وزهَادهم ووزرائهم وسُوقتهم وعوامهم وغير ذلك، ولهذا حيوا وماتوا”.

ويتحدث الأستاذ الطنطاوي عن حضرموت وأبنائها فيقول: “والعجب أنَّ حضرموت -هذه البقعة الصغيرة الفقيرة- قد غزت بأبنائها الشرق كله، فما في الملايا، ولا في أندنوسيا بلد ليس فيه ناس منهم. وهم تجار بارعون، وأمناء صادقون، ومغامرون شجعان، ولكن عيبنا وعيبهم معشر العرب في كل مكان هو الانقسام”. (ذكريات الشيخ علي الطنطاوي: 6/ 113).

ويقول: “وقد أبرقنا بوصولنا إلى وجيه العرب في سنغافورة؛ وهو السيد إبراهيم السقاف، فلمَّا نزلنا وجدنا وفدًا من العرب لاستقبالنا، وكان بينهم واحد وعشرون مندوبًا عربيًّا عن إحدى وعشرين جمعية عربية”. (المصدر نفسه، ص 112).

وفي مقدمة الكتاب تظهر الأستاذة شفاء هدفها من تأليفه؛ وهو التعريف بسيرة الحبيب عبد الرحمن الزاهر، وجهاده ومعاركه التي خاضها ضد الهولنديين، وتسليط الضوء على أدواره الكبيرة التي لعبها سواء على مستوى السياسة المحلية أو الخارجية؛ والتي شكلت جزءًا مهمًا من تاريخ آتشيه.

كما أنها أتت على استسلامه المشروط، والمفاوضات التي جرت بينه وبين الهولنديين. وتتميز هذه السيرة التي وضعتها الأستاذة شفاء بأنها الأولى من نوعها كُتبت باللغة العربية.

فمن هو السيد العلامة المجاهد عبد الرحمن الزاهر؟

هو عبد الرحمن بن عيدروس بن عبد الرحمن بن مشهور بن أبي بكر الزاهر. ولد أبوه بمدينة تريم، ثم هاجر للهند، فولد ابنه السيد عبد الرحمن هناك. أمَّا لقب الزاهر فنسبةً للجد الخامس محمد بن حسين بن محمد بن علي بن محمد بن شهاب الدين.

تلقى الحبيب عبد الرحمن تعليمه في أفضل المعاهد الإسلامية؛ فعندما بلغ سن الخامسة -حوالي عام 1837- أرسله والده إلى مصر ليلتحق بالأزهر؛ لتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، وتلقي العلم الشريف، وهناك التقى بشيخ رواق اليمنيين العلامة محسن بن ناصر أبو حربة، والأستاذ الإمبابي، ثم واصل بعد ذلك تعليمه في مكة.

وفي عام 1842م، عاد إلى مليبار، ثم قصد كلكتا، فدرس في معاهدها على يد خيرة علماء الهند.

ولا شك أنَّ العلويين الحضرميين كانوا في مقدمة من نشر الإسلام في الأرخبيل الهندي، وكانت هجراتهم إليها قديمة ابتدأت من الهند، ثم إلى أندونوسيا وماليزيا وسنغافورة وبورناي وغيرها من الجزر.

يتحدث الدكتور نجيب صليبي في كتابه «دراسات في تاريخ المورو ودينهم» باللغة الإنجليزية عن دعاة الإسلام في جزر الفلبين؛ فيذكر أنهم من ذرية السيد علوي بن عبد الله بن المهاجر أحمد بن عيسى. (انظر: لإمام المهاجر، محمد ضياء شهاب، وعبد الله بن نوح، ص 180).

لكن الدول الاستعمارية هالها انتشار الإسلام في هذه الجزائر، ورأت فيه خطرًا يهدد أطماعها، ويحول دون استيلائها على هذه البلدان ونهب خيراتها؛ فما برحت ترسل الإرساليات التبشيرية للحد من انتشار الإسلام.

ولمَّا قام الهولنديون بالاحتلال لجزر الهند الشرقية عمدوا إلى سياسة «فرق تسد»؛ وذلك بالتمييز بين الإندونوسيين والحضارم اليمنيين من خلال تسميتهم الحضارمة المسلمين بـ«الأجانب الشرقيين» في محاولةٍ منها للتفريق بينهم وبين السكان الأصليين؛ بغية إقصائهم وأبنائهم حتى لا يندمجوا مع الشعب الإندنوسي. (انظر: كفاح أبناء العرب ضد الاستعمار الهولندي في إندونوسيا، لحامد القادري، ترجمة زكي سليمان، ص7).

وتحكي الأستاذة شفاء تحت عنوان: «مقترحات سنوك السرية لمنع هجرة العرب وإقصاء الإندونوسيين عن الإسلام والعرب» حيث يقول:

“من السهل على الحكومة الهولندية معالجة أمر العرب وأبنائهم الذين هم في نظر هولندا محرضي الأئمة وعلماء الدين والشعب الإندونيسي عامة. فالعرب من حضرموت يشكلوا خطرًا على هولندا فقط إذا ما استقر بهم المقام في إندونوسيا. لذا أعاقت هجرتهم إلى بلادنا هذه بشتى الوسائل”. (ص154).

وتعلق الأستاذة شفاء قائلة: (يقصد ببلادنا: إندونيسيا!).

وهذا الوضع الشاذ الذي رسخه المستعمر الهولندي بمشورة المستشرق سنوك وضع إشكالات كثيرة بشأن وضع العرب الحضارمة القانوني في هذه الجزر.

لقد وقف السيد الزاهر مدافعًا عن قضية استقلال آتشيه في وجه الأطماع الاستعمارية الهولندية، وقام بتحركات دبلوماسية واسعة ما بين القسطنطينية وأوروبا والجزيرة العربية لمنع الهولنديين من احتلال جزيرة سومطرة ومن ضمنها آتشيه.

كما أنه قاد المعارك ضدهم في الفترة من (1876- 1878م)، وانتصر عليهم في كثير من المعارك، وأقض مضاجعهم؛ الأمر الذي جعله هدفاً للقتل أو الاعتقال.

جاء في كتاب «آتشيه» للكاتب الهولندي سنتخراف: “لم يوجد زعيم كهذا الزعيم الفذ لدى الآتشيين الحبيب عبد الرحمن الزاهر. ونحمد الله على أنه كان زعيمًا واحدًا فقط؛ فقد كانت حكومة هولندا تخشاه كثيرًا، وتبذل جهدها لأسره”.

إنَّ الدور الذي لعبه الزاهر كان حاسمًا في تعبئة أثرياء آتشيه في بينانغ بما في ذلك بعض أفراد الجالية العربية لدعم الحرب في آتشيه. من خلال وضع الخطط وتنفيذها والتزود بالأسلحة وتعبئة النبلاء في مناطق مميزة من آتشيه. فعل ذلك على مدار أربع سنوات عبر شبكته المكونة من نبلاء من بينانغ وآتشيه؛ ونظرًا لشخصيته القوية، والتزامه بالقضية استطاع الزاهر استقطاب بعض القادة الى صفوف السياسيين والمجاهدين.

ولأنَّ ميزان القوى كانت لصالح هولندا؛ فقد تمكن الهولنديون من الاستيلاء على مقر الحبيب في مونتاسيك، ومع سقوط مونتاسيك، استطاع الهولندين من الوصول إلى بعض الأماكن الدفاعية المهمة، الأمر الذي أدى لاستسلام مشرف للسيد عبد الرحمن، ونفي على إثره إلى مدينة جدة.

وقد ترجمه العلامة المؤرخ القاياتي في كتابه «نفحة البشام»، فقال: “إنَّ مِنْ جملة من اجتمع بنا في بيروت حضرة السيد الكامل والشريف الفاضل، العالم الأزهري الأمير عبد الرحمن باشا الزاهر من سادات اليمن الحضارم أهل المجد والمكارم، من ذؤابة عبد المطلب بن هاشم. كان أمير بلاد الآتشي، وحارب دولة هولندا مدةً من الزمان، ثم تغلبوا على تلك البلاد، واستولوا عليها بعد قتالٍ شديد، وأمدٍ مديد، لكن الله يفعل ما يريد لاما ترجو العبيد، وطلبوا منه -كما أخبرنا بنفسه- أن يبقى حاكمًا على البلاد مِنْ طرفهم؛ فأبى إلا الهجرة إلى حرم الله ورسوله، فخصصوا له معاشًا كافيًا ومرتبًا وافيًا. (ص146-147).

وفي الختام، فهذه سيرة مُشرقة لعلم من أعلام الجهاد والعلم من حضرموت اليمن في جزر الهند الشرقية، نرجو أن تكون حلقة تتبعها حلقات تأتي على إثرها.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...