* الدُّكتُور عَبْدُ اللَّهِ شَنْفَار
– اللفيف العدلي بين المشروعيّة التاريخيّة ومدى صلاحيته للعصر الحالي.
قبل التطرق لمفهوم اللفيف العدلي وأهميته في مجالات التوثيق والإثبات بالمغرب؛ نشير إلى أن مؤسسة لعْدول هي من حظيت بشرف توثيق وتحرير عقد البيعة لملك المغرب.
لكن في ظل توالي سنوات الجفاف وشح المياه وانعدام فرص الشغل والهجرة بحثًا عن وسائل العيش المستدامة؛ بالكاد تجد (12) شخصًا بالغًا في البادية المغربيّة بالمناطق الطَّارِدة بامتياز لتكوين اللفيف العدلي المطلوب للشهادة!!
* حالات واقعيّة توضح إشكالية العدد 12 في البادية المغربية:
معاناة مواطن في البادية لإثبات ملكية عقار:
في إحدى القرى النائية بجنوب المغرب، اضطر أحد الفلاحين إلى إثبات ملكيته لأرض ورثها عن والده منذ عقود. لم يكن لديه وثائق رسمية بسبب عدم توثيق البيع في الماضي، وكان الحل الوحيد هو اللجوء إلى شهادة اللفيف العدلي. واجه مشكلة كبيرة في إيجاد 12 شاهدًا، خاصة مع تزايد موجات الهجرة من القرى إلى المدن، ووفاة كبار السن الذين كانوا على دراية بتاريخ الأرض. بعد شهور من البحث، تمكن من جمع 12 شاهدًا بصعوبة، لكن بعضهم لم يكن متأكدًا تمامًا من التفاصيل، مما أدى إلى تأخير الفصل في القضية.
* إثبات النسب في ظل الهجرة والوفيات:
في منطقة قروية أخرى، حاولت امرأة إثبات نسب ابنها لزوجها المتوفى الذي لم يسجل زواجه رسميًا. لجأت إلى شهادة اللفيف العدلي، لكنها لم تجد 12 شاهدًا من الذين عرفوا زواجها بسبب هجرة العديد من جيرانها السابقين ووفاة آخرين. أدى هذا الوضع إلى تعقيد مسارها القانوني وإطالة أمد القضية، رغم توفر وسائل حديثة مثل اختبار الحمض النووي (DNA) الذي يمكن أن يحسم المسألة بشكل أكثر دقة.
* مقارنة مع أنظمة إثبات مختلفة في دول أخرى:
– فرنسا وألمانيا: التوثيق المدني والإلكتروني
تعتمد الدول الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا على نظام السجلات المدنية والإلكترونية، حيث يتم تسجيل جميع الولادات، الوفيات، والزواج في قواعد بيانات مركزية. إثبات النسب أو الملكية يعتمد على هذه السجلات، مما يلغي الحاجة إلى شهادات جماعية كاللفيف العدلي.
– المملكة المتحدة: الشهادات الفردية والموثقة
في بريطانيا، يتم الاعتماد على وثائق رسمية، وفي حال غيابها يمكن استخدام شهادات فردية موثقة أمام السلطات القضائية، دون الحاجة إلى جمع عدد كبير من الشهود.
المملكة العربية السعودية والإمارات: التوثيق الإلكتروني والشهادة الفردية
– في دول الخليج، تم تطوير أنظمة توثيق إلكترونية متكاملة، مما يقلل الحاجة إلى الشهادات الجماعية. في السعودية، يمكن الاعتماد على شهادة شخصين موثقين لدى المحكمة، مع إمكانية التحقق الرقمي من خلال منصات حكومية.
وبالتالي؛ تعتمد العديد من الدول على وسائل إثبات قانونية متطورة، مثل السجلات الرقمية والشهادات الفردية الموثقة، مما يجعل شرط 12 شاهدًا في اللفيف العدلي يبدو متجاوزًا في بعض الحالات. قد يكون من المفيد الاستفادة من هذه التجارب لتحديث طرق الإثبات في المغرب، بما يضمن تحقيق العدالة دون تعقيدات غير ضرورية.
في العمل الفاسي: العدل يكفي في سماع البينة؛ من اللفيف فتراها هينة. يقول محمد الشوكاني، الملقب ببدر الدين الشوكاني أحد أبرز علماء أهل السنة والجماعة وفقهائها، ومن كبار علماء اليمن: «اثنان فما فوق يشكلون جماعة من الناس. وهذه الجماعة، يستحيل تواطؤهم على الكذب..»
وحتى القانون المغربي المنظم للجمعيات ينص على أن شخصين فقط؛ فما فوق؛ يمكنهم تأسيس جمعية؛ والجمعية هي اتفاق لتحقيق تعاون مستمر بين شخصين؛ أو عدة أشخاص لاستخدام معلوماتهم أو نشاطهم لغاية غير توزيع الأرباح فيما بينهم. وتجرى عليها فيما يرجع لصحتها القواعد القانونيّة العامة المطبقة على العقود والالتزامات.
وبالتالي ما الفائدة في أن يشترط في المادة: 17 من القانون المنظم لمهنة العدول 12 شاهداً في اللفيف العدلي لتلقي الشهادة الاسترعائية؛ عوض الشهادة العلمية والتلقي الفردي؛ حيث الأصل هو العدول؛ وليس الموثق!؟
لتعديل القانون المغربي بشأن اللفيف العدلي حتى يعكس التحولات القانونيّة والتكنولوجيّة، يمكن اقتراح إصلاحات تشريعيّة وإجرائية تأخذ بعين الاعتبار متطلبات العصر، مع الحفاظ على الأصالة الفقهيّة والمقاصد العدليّة.
فيما يلي تصور للتعديل:
– مراجعة المادة 17 من القانون المنظم لمهنة العدول: (بتقليص عدد الشهود وتعزيز وسائل الإثبات).
* النص الحالي: تنص المادة 17 من القانون المنظم لمهنة العدول على ضرورة 12 شاهدًا في الشهادة اللفيفية، مما يشكل عائقًا عمليًا في بعض الحالات، خاصة في المناطق القروية.
* التعديل المقترح: تقليص العدد إلى 4 شهداء أو 6 شهداء بدلًا من 12، مع إلزاميّة توفر وسائل إثبات مساندة، مثل: شهادات إدارية رسمية (شهادة الولادة، شهادة السكنى، السجل العقاري…). وثائق تاريخية (عقود عرفية، شهادات البيع غير الموثقة…) وسائل إثبات علمية حديثة (التحليل الجيني DNA في قضايا النسب).
* تبنّي نظام الشهادة التراتبية:
1. إذا توفر دليل كتابي أو إلكتروني موثوق، يكفي شاهدان فقط.
2. إذا لم تتوفر وثائق رسميّة، يُطلب 4 إلى 6 شهداء حسب نوع القضية المطروحة.
3. إذا تعذر الإثبات بالوسائل السابقة، يُمكن اللجوء إلى العدد التقليدي (12) كاستثناء.
– اعتماد التوثيق الإلكتروني والرقمنة:
1. وذلك بإدماج التكنولوجيا في النظام العدلي لتقليل الاعتماد على الشهادات الجماعية.
2. إنشاء قاعدة بيانات رقمية وطنية للشهادات اللفيفية، تمكن العدول والجهات المختصة من التحقق من شهادات الشهود ومنع تكرارها في أكثر من قضية.
3. اعتماد التوقيع الإلكتروني والتسجيل الرقمي للشهود عند الإدلاء بشهاداتهم، لتفادي التلاعب والتزوير.
4. دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في التحقق من تطابق الشهادات مع المعطيات الرسمية، عبر منصات إلكترونية متصلة بسجلات الأحوال المدنية والعقارية.
5. إلزام العدول بإدخال كل الشهادات اللفيفية في نظام إلكتروني مركزي، يتيح إمكانية التدقيق الفوري.
– تعزيز الرقابة القانونية والقضائية على الشهادات اللفيفية:
1. (تقوية دور القضاء والنيابة العامة في التحقق من صحة الشهادات).
2. إشراك النيابة العامة والجهات القضائية في التحقق من صحة الشهادات اللفيفية في القضايا الحساسة (إثبات النسب، الملكية العقارية، الإرث…).
3. إلزام الشهود بالحضور أمام محكمة التوثيق في بعض الحالات بدلًا من الإدلاء بالشهادة أمام العدول فقط، خاصة في القضايا المعقدة.
4. فرض تحقيق ميداني من طرف العدول أو السلطات المختصة قبل قبول اللفيف العدلي كدليل إثبات في القضايا ذات الطابع المالي أو العقاري الكبير.
– تعديل قانون المسطرة المدنية لتحديد حالات اللجوء إلى اللفيف العدلي: (منع التوظيف العشوائي لللفيف وجعله وسيلة إثبات استثنائية بدلًا من قاعدة عامة):
* حصر اللجوء إلى الشهادة اللفيفية في حالات الضرورة، مثل:
* قضايا النسب التي لا يمكن إثباتها بوثائق رسمية.
* إثبات الملكية في المناطق التي لا تزال تعتمد على العرف التقليدي.
* الحالات التي يتعذر فيها توفير وسائل الإثبات الحديثة لأسباب موضوعية.
* إجبار القضاة على البحث عن وسائل إثبات أخرى قبل قبول اللفيف العدلي كدليل رئيسي، عبر توجيه أوامر بالتحقيق الميداني أو فحص الوثائق الإدارية المتاحة.
– تبني مدونة توثيق جديدة تجمع بين الفقه المالكي والتقنيات الحديثة: (إصلاح شامل يواكب التحولات القانونية والتكنولوجية)
* تحديث التشريعات المرتبطة بالتوثيق العدلي لإدماج وسائل الإثبات الرقمية ضمن النظام العدلي المغربي.
* إدخال إصلاحات تواكب تطورات العدالة الرقمية، مثل:
– اعتماد المحررات الإلكترونية كوسائل إثبات رئيسية.
– تسهيل إجراءات التحقق من صحة العقود القديمة عبر منصات حكومية إلكترونية.
– رقمنة وثائق الزواج والملكية والنسب، بحيث يتم الرجوع إليها بسهولة دون الحاجة إلى شهادات يدوية.
– إطلاق نظام “التوثيق الذكي”، الذي يسمح بإثبات الحقوق إلكترونيًا، ويحدّ من الحاجة إلى شهادات ورقية أو سماعية.
* إعادة النظر في تكوين العدول ومنحهم صلاحيات موسعة في التحقق الميداني (تحديث دور العدول ليشمل التحقيق والتوثيق الرقمي بدلًا من التلقي السلبي للشهادات):
– فرض تكوين إلزامي للعدول في مجالات التوثيق الإلكتروني والقانون الرقمي، ليتمكنوا من التعامل مع المستجدات التكنولوجية.
– منح العدول صلاحيات التحقق الميداني، بحيث يمكنهم زيارة العقارات أو مراجعة الوثائق الإدارية قبل توثيق اللفيف العدلي.
– إنشاء وحدات رقابة مختصة في وزارة العدل لمتابعة مدى صحة الشهادات اللفيفية المسجلة إلكترونيًا.
* تعديل القانون الجنائي لتشديد العقوبات على التلاعب في الشهادات اللفيفية (ردع حالات التزوير والاحتيال المرتبطة باللفيف العدلي):
– إقرار عقوبات صارمة تصل إلى السجن والغرامات المالية لكل من يدلي بشهادة زور في اللفيف العدلي.
– تشديد المراقبة على العدول لمنع أي تواطؤ محتمل في تزوير الشهادات.
– إحداث شرطة قضائية متخصصة في التحقق من صحة الشهادات اللفيفية، خصوصًا في قضايا العقارات والإرث.
نحو عدالة توثيقية أكثر تطورًا وانسجامًا مع العصر:
فبدلًا من إلغاء اللفيف العدلي، يمكن تحديثه ليصبح أداة مكملة للأدلة الحديثة، عبر:
1. تقليص عدد الشهود مع اعتماد وسائل إثبات مساندة.
2. إدماج التوثيق الإلكتروني والذكاء الاصطناعي في مراجعة الشهادات.
3. تعزيز الرقابة القضائية والبحث الميداني لضمان صحة الشهادات.
4. تقييد اللجوء إلى اللفيف العدلي في حالات الضرورة فقط.
5. تشديد العقوبات على التزوير، لضمان مصداقية النظام العدلي.
بهذه الطريقة، يمكن للمغرب الحفاظ على أصالته الفقهية مع مواكبة التطورات القانونية والتكنولوجية، مما يضمن تحقيق العدالة بطريقة أكثر كفاءة ودقة.
القانون المنظم لشروط التسجيل في اللوائح الانتخابية العامة: “كما يجب أن يثبت الانتماء إلى الجماعة أو المقاطعة بجميع الوسائل المألوفة كالشهادة الإداريّة للولادة أو الشهادة اللفيفيّة أو غيرها من الوثائق الإداريّة.
يعد اللفيف العدلي أحد الآليات المعتمدة في الفقه المالكي لإثبات الحقوق التي يصعب التحقق منها بوسائل التوثيق التقليدية، مثل الزواج القديم، أو ملكية العقار غير الموثق، أو حتى مسائل النسب والإرث. يقوم هذا النظام على شهادة 12 شاهدًا يجمعون شهاداتهم لدى عدلين، ويعتبر وسيلة إثبات مكملة في القضايا التي تفتقر إلى أدلة رسمية.
لكن لماذا تم تحديد العدد بـ 12 شاهدًا وليس شاهدين أو أربعة فقط؟ وهل لا يزال هذا النظام مناسبًا للعصر الحديث، في ظل تطور وسائل الإثبات القانونية والتكنولوجية؟
* الأسس التاريخيّة والفقهية للعدد 12 في اللفيف العدلي:
1. الاحتياط والتوثيق القوي:
الشهادات في اللفيف العدلي غالبًا ما تكون سماعية، أي أن الشهود ينقلون ما سمعوه من آبائهم أو مجتمعهم، وليس بالضرورة ما رأوه مباشرة. لذلك، كان من الضروري الاعتماد على عدد كبير من الشهود لتقوية مصداقية الشهادة والحد من احتمال التواطؤ أو الخطأ.
2. التقاليد الفقهية في المذهب المالكي:
المذهب المالكي، الذي يعد المذهب الفقهي الغالب في المغرب ومناطق أخرى، وضع ضوابط خاصة للأدلة والشهادات. ومن بين هذه الضوابط، اشتراط عدد كبير من الشهود في اللفيف كبديل عن الأدلة المكتوبة أو الوثائق التي لم تكن متاحة في بعض السياقات التاريخية.
3. القياس على التواتر في الشهادات:
يرتكز الفقه الإسلامي على مبدأ التواتر، حيث إن الشهادة التي تتكرر من عدة أشخاص تصبح أقوى وأقرب إلى الحقيقة. والعدد 12 يقترب من هذا المفهوم، إذ يمنح القاضي درجة من اليقين حول صحة الواقعة المشهود بها.
4. التأثر بالتنظيم العدلي التقليدي:
اعتمد القضاء التقليدي في المغرب ودول أخرى على نظام العدول، حيث كان يتم توثيق الحقوق والمعاملات اعتمادًا على شهادات موثوقة. وكان العدد 12 معيارًا مقبولًا لضمان توازن بين الحذر والمرونة في توثيق الحقوق.
5. رمزية العدد 12 في الإسلام والتاريخ:
يبدو أن اختيار العدد 12 لم يكن عشوائيًا، بل قد يكون متأثرًا ببعض الرموز الدينية والتاريخية، مثل:
– النقباء الاثني عشر الذين اختارهم الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانيّة لتمثيل الأنصار.
– الآية الكريمة: (وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ؛ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا. قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ. كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.) سورة البقرة (60).
– الأسباط الاثني عشر أبناء يعقوب عليه السلام، الذين تفرعت منهم قبائل بني إسرائيل.
– الأشهر الاثني عشر التي يعتمد عليها التقويم الإسلامي، مما يعكس فكرة النظام والدقة والاستمرارية.
– الأئمة الاثنا عشر في الفكر الشيعي، الذين يمثلون تسلسلًا دينيًا مرجعيًا.
قد يكون لهذه الرمزية تأثير غير مباشر على تحديد 12 شاهدًا في اللفيف العدلي، باعتباره عددًا يرمز إلى التنظيم والتوثيق الجماعي.
* اللفيف العدلي في ميزان العصر الحديث: هل لا يزال صالحًا؟
مع تطور وسائل الإثبات القانونيّة والتكنولوجيّة، مثل السجلات المدنية، والعقود المكتوبة، والبصمات، والتسجيلات الصوتية والمرئية، والحمض النووي (DNA)، أصبح من الضروري إعادة النظر في مدى صلاحية اللفيف العدلي كوسيلة إثبات في العصر الحالي.
* هل العدد 12 لا يزال ضروريًا؟
إذا كان الهدف من العدد 12 هو تعزيز الثقة في الشهادة، فهل يمكن تعويض ذلك بوسائل أخرى أكثر دقة، مثل التحليل الجيني في قضايا النسب، أو السجلات الرقمية في إثبات الملكية؟
* هل يمكن تقليص العدد إلى 4 أو 6 شهود مع تعزيز التحقيق القضائي؟
– مدى قوة الشهادة السماعية مقارنة بالأدلة الحديثة:
في حين كانت الشهادة السماعية ضرورية في الماضي، فإنها اليوم قد تفقد قيمتها أمام وسائل الإثبات الحديثة التي تعتمد على الوثائق، والتكنولوجيا، والاختبارات العلمية.
هل يجوز الاعتماد على شهادة أشخاص لم يكونوا حاضرين وقت وقوع الحدث، بينما يمكن إثباته بسهولة عبر الأدلة الرقمية أو التوثيق الرسمي؟
– مخاطر استغلال اللفيف العدلي في التزوير:
بسبب اعتماده على شهادات غير مباشرة، يمكن أن يكون اللفيف العدلي عرضة للتلاعب أو التحايل.
– كيف يمكن ضبط هذا النظام لمنع الاستعمال السيئ له في قضايا الملكية أو النسب أو غيرها؟
– هل يمكن تحديث اللفيف العدلي بدلًا من إلغائه؟
بدلًا من التخلي عنه كليًا، هل يمكن تطويره ليشمل شهودًا أقل، مع اعتماد وسائل تحقق أخرى مثل الوثائق الرسميّة، أو مراجعة السجلات الرقميّة، أو التحقيق القضائي الموسع؟
* مخاطر التزوير والاحتيال في نظام اللفيف العدلي:
رغم القيمة التاريخية لللفيف العدلي في توثيق الحقوق، فإن اعتماده على شهادات سماعية يجعله عرضة للاستغلال في بعض الحالات، ومنها:
– افتعال شهود غير مؤهلين: قد يلجأ بعض الأشخاص إلى إحضار شهود لا معرفة لهم بالواقعة، بل يُستأجرون للإدلاء بشهادة زائفة مقابل تعويض مالي أو لخدمة مصالح معينة.
– شهادات مبنية على النقل غير المباشر: في بعض القضايا، يعتمد الشهود على ما سمعوه من آخرين، وليس على مشاهداتهم الشخصية، مما يزيد احتمالات الخطأ أو التحريف.
– استعماله للاستيلاء على ممتلكات الغير: هناك حالات تم فيها توظيف شهادة اللفيف لإثبات ملكية عقارات وهمية أو مغتصبة، خاصة في المناطق التي لا تزال فيها العقارات غير محفظة.
– إثبات أنساب غير صحيحة: قد يُستخدم اللفيف العدلي لإثبات نسب غير حقيقي، ما قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة على الإرث والحقوق المدنية.
– سبل الحد من ظاهرة التزوير في اللفيف العدلي
للتقليل من مخاطر التلاعب، يمكن التفكير في مجموعة من الحلول والتدابير القانونية والتقنية، منها:
1. التوثيق الإلكتروني للشهادات؛ من خلال إدراج الشهادات اللفيفية في قاعدة بيانات وطنية رقمية، مما يسمح بتتبع الشهادات السابقة والتأكد من عدم تناقضها.
2. اعتماد التوقيع الإلكتروني للشهود عند تقديم شهاداتهم أمام العدول، لضمان عدم تكرار الشهادة في أكثر من ملف بطريقة مشبوهة.
3. إلزام الشهود بالإدلاء بشهاداتهم أمام جهة رسمية؛ وذلك بدلاً من الاكتفاء بجمع الشهادات أمام العدول فقط، يمكن إلزام الشهود بالحضور أمام المحكمة أو السلطات المحلية لتأكيد شهاداتهم، مع التحقق من هوياتهم وخلفياتهم.
4. تعزيز التحقيق في صحة الشهادات؛ عبر إشراك النيابة العامة في عملية التحقق من الشهادات، خاصة في القضايا الحساسة مثل إثبات الملكية أو النسب.
5. منح العدول صلاحية البحث الميداني، بحيث لا يقتصر دورهم على تسجيل الشهادة، بل يمتد إلى التحقق من صحة ادعاءات الأطراف عبر آليات قانونية واضحة.
6. تقليص العدد المطلوب للشهود مع زيادة دقة الفحص، بدلاً من الإبقاء على شرط 12 شاهدًا، يمكن تقليص العدد إلى 4 أو 6 شهود، مقابل تعزيز إجراءات التأكد من صحة الشهادات عبر وثائق رسمية أو تحقيق قضائي.
وبالتالي، إن استمرار العمل باللفيف العدلي بصيغته التقليديّة قد يؤدي إلى مخاطر التلاعب والتزوير، مما يستدعي إصلاحه عبر إدخال أدوات تحقق حديثة، مثل التوثيق الإلكتروني، التحقق الميداني، وتقليص العدد المطلوب للشهود مقابل إجراءات تدقيق أكثر صرامة. الجمع بين الأصالة الفقهية والآليات القانونية الحديثة يمكن أن يضمن استمرار هذه الوسيلة بطريقة أكثر عدالة وأمانًا.
* بين الأصالة والتحديث:
يظل اللفيف العدلي أحد الآليات الفريدة في الفقه المالكي، وقد لعب دورًا مهمًا في توثيق الحقوق عبر التاريخ. ومع ذلك، فإن التحولات القانونيّة والتكنولوجيّة، تدفع إلى التساؤل حول مدى استمرارية هذا النظام بصيغته التقليديّة. هل يمكن دمجه مع وسائل الإثبات الحديثة لضمان العدالة؟ أم أنه آن الأوان لإعادة النظر في معاييره لضمان انسجامه مع متطلبات العصر؟ خاصّة وأنه في وبسبب الهجرة والوفاة، يتعذر جمع 12 شاهداً على بعض الأحداث والوقائع والوثائق أو الإشهاد على توثيق شهادة.
هذه الأسئلة تبقى مفتوحة للنقاش القانوني والفقهي، حيث ينبغي أن يكون الهدف الأسمى هو تحقيق العدالة بأدق الوسائل وأوثقها، دون الإضرار بحقوق الأفراد أو فتح المجال لسوء الاستعمال.
هذا؛ ونظرًا للتحولات القانونية والتكنولوجية التي يشهدها العصر الحديث، فإن مراجعة نظام اللفيف العدلي أصبحت ضرورة لتحقيق التوازن بين الأصالة الفقهية ومتطلبات العدالة الحديثة. ومن هنا، يمكن اقتراح بعض الحلول العملية التي تضمن استمرارية هذه الوسيلة مع الحد من إشكالاتها:
1. تقليص العدد المطلوب تدريجيًا مع تعزيز وسائل التحقق:
– من خلال مراجعة المادة 17 من القانون المنظم لمهنة العدول لتقليص عدد الشهود إلى 6 أو 4 شهود بدلًا من 12، خاصة في المناطق التي يصعب فيها العثور على هذا العدد.
– فرض تحقيق قضائي إضافي في بعض القضايا الحساسة، كإثبات النسب أو ملكية العقارات غير المحفظة، بدلًا من الاعتماد على العدد الكبير للشهود فقط.
– التدرج في تقليص العدد، بحيث يتم أولًا تخفيضه في القضايا التي تتوفر فيها وثائق داعمة (كعقود البيع القديمة أو السجلات العائلية)، ثم تعميمه على باقي القضايا بعد تقييم مدى نجاعة الإصلاح.
2. إدماج التكنولوجيا والتوثيق الرقمي:
– رقمنة الشهادات اللفيفية، بحيث يتم تسجيلها إلكترونيًا في قاعدة بيانات وطنية، مما يسمح بالتحقق من مصداقية الشهود ومراجعة شهاداتهم السابقة عند الضرورة.
– اعتماد التوقيع الإلكتروني للشهود لتفادي تكرار الشهادات المزورة في أكثر من قضية.
– إدخال التحليل الجيني (DNA) كوسيلة إثبات مساندة في قضايا النسب، بدلًا من الاعتماد فقط على الشهادات اللفيفية.
3. تعزيز دور العدول والسلطات في التحقق من الشهادات:
– إعطاء العدول صلاحيات أوسع في التحقق الميداني، عبر إجراء زيارات إلى مواقع العقارات أو الرجوع إلى السجلات المحلية قبل توثيق الشهادات.
– إشراك النيابة العامة في بعض القضايا المهمة لضمان عدم استغلال اللفيف العدلي في التزوير أو الاحتيال.
– فرض محاضر استماع رسمية للشهود أمام الجهات المختصة، بدلًا من الاكتفاء بإدلاء الشهادة أمام العدول فقط.
4. إصلاح تشريعي يواكب تطورات العصر:
– إدراج نصوص قانونية جديدة تحدد الحالات التي يمكن فيها اللجوء إلى اللفيف العدلي، بحيث لا يكون الحل الأول في كل القضايا، بل يتم اعتباره وسيلة مكملة للأدلة المكتوبة والرسمية.
– إصدار مدونة توثيق حديثة تأخذ بعين الاعتبار التطورات التكنولوجية والقانونية، وتعيد النظر في دور اللفيف العدلي بما يتماشى مع المبادئ الحديثة للعدالة.
* خلاصة:
بدلًا من الإبقاء على نظام اللفيف العدلي بصيغته التقليديّة أو إلغائه بالكامل، يمكن تحديثه عبر تقليص عدد الشهود، إدخال التكنولوجيا، وتعزيز التحقيقات الرسمية، مما يضمن تحقيق العدالة بطرق أكثر دقة وموثوقية. هذه الإصلاحات لا تمس بجوهر النظام الفقهي، لكنها تجعله أكثر انسجامًا مع الواقع القانوني والاجتماعي الحالي.





