استهداف الجبهة الداخليّة في ظل اضطراب النظام الدولي: قراءة في الأبعاد السياسيّة والفكريّة
* د. عبدالله شنفار
– أولاً: في تقديم المشهد:
يشهد النظام الدولي في العقدين الأخيرين تحولات بنيويّة عميقة أفرزت أنماطًا جديدة من الصراع، لم تعد تعتمد على القوة العسكريّة الصلبة فحسب، بل انتقلت إلى مستوى أكثر تعقيدًا يتمثل في الحروب الهجينة واستهداف الجبهات الداخليّة للدول.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل ظاهرة استهداف التلاحم الوطني وتشتيت الوعي الجمعي، مع التركيز على السياق العام المغربي كنموذجٍ لدولة تواجه محاولات مستمرة للمساس بوحدتها وأمنها واستقرارها ووجودها واستمرارها وفي تنميتها وعمرانها؛ عبر أدوات ناعمة وتدخلات غير مباشرة.
كما تتناول الدراسة الأبعاد الفكريّة والأخلاقيّة المرتبطة باختلال منظومة القيّم في النظام الدولي المعاصر.
أضحى العالم يعيش في مرحلة من اضطراب المعايير وتبدّل القيم السياسية، حيث تشابكت المصالح الدولية وتداخلت التحالفات، فغابت الحدود التقليدية بين الصديق والخصم، وبين الشرعية والمصلحة.
وفي ظل هذا المناخ، تحوّل التركيز الاستراتيجي من المواجهة العسكرية المباشرة إلى استهداف الداخل الوطني للدول المستقرة، من خلال تقويض الثقة في المؤسسات، وإثارة الأزمات الاجتماعيّة، وبثّ الشكّ في رمزيّة الوحدة الوطنيّة.
يأتي هذا التحوّل في إطار صراع النفوذ الجيوسياسي العالمي، حيث تعتمد بعض القوى الإقليميّة والدوليّة على أدوات غير تقليديّة: إعلاميّة، رقميّة، نفسيّه، واستخباراتيّة؛ تهدف إلى زعزعة أمن واستقرار الدول المنافسة من دون اللجوء إلى القوة الصلبة أو الاحتلال العسكري.
– ثانيًا: الجبهة الداخليّة كهدف استراتيجي في الحروب الحديثة
لقد باتت الجبهة الداخليّة تمثل العنصر الحاسم في معادلة الأمن الوطني. فالدول لا تُهزم بالضرورة في ساحات المعارك، بل في لحظة انهيار الثقة بين الدولة ومجتمعها.
هذا، وتستغل القوى الخارجيّة هذه الحقيقة من خلال بناء سرديّات مضلِّلة، وتغذيّة الانقسام الاجتماعي، وتحريك وتحريض الشارع وتوجيهه نحو قضايا ثانويّة تُبعده عن الانشغال بالرهانات المصيريّة كالتنمية والسيادة والأمن القومي.
في السياق المغربي، تتقاطع الدلائل على وجود محاولات موجهة لتفكيك التماسك الداخلي عبر استغلال المنصات الرقميّة والإعلاميّة لإثارة الشكوك حول مؤسسات الدولة، وإشاعة مشاعر الإحباط الجماعي.
هذا، وتشير مؤشرات متعددة إلى أن بعض هذه التحركات تُدار عبر قنوات استخباراتية أجنبية تستهدف مصالح المغرب الاستراتيجية ووحدته الترابيّة.
– ثالثًا: المشهد الدولي بين العقلانية والانتهازية
يُظهر تحليل السلوك الدولي المعاصر أن النظام العالمي الراهن يقوم على تعدد المستويات الأخلاقية والبراغماتية. فهناك فئة من الفاعلين الدوليين ما زالت تؤمن بالشرعيّة الدولية وبمساندة قضايا الحق، تمثلها قوى حكيمة وعاقلة.
وفي المقابل، توجد فئة أخرى انتهازية تُسخّر الخطاب الحقوقي لتحقيق مصالح ضيقة، وفئة ثالثة معادية للحق تسعى إلى تفكيك الدول ذات التماسك الداخلي حفاظًا على مصالحها الجيوسياسية.
أما الفئة الرابعة، فهي اللامبالية التي تمثل شريحة من المجتمعات أو الفاعلين الدوليين غير المعنيين بمصير النظام الدولي أو بتوازناته، ما يجعلها عنصرًا سلبيًا يفاقم هشاشة المشهد العالمي.
هذا التباين يعكس ما يمكن تسميته بـ أزمة القيم في العلاقات الدولية، حيث أضحى الحق يُقاس بالمصلحة، والشرعية تُحدد بمنطق القوة، في ظل غياب مرجعيات أخلاقية جامعة تضبط سلوك الدول والفاعلين غير الحكوميين.
– رابعًا: الوعي الاستراتيجي كأداة للتحصين الوطني
إن مواجهة هذا النمط من الاختراقات لا يمكن أن تتم بالأساليب التقليدية، بل تقتضي بناء وعي استراتيجي جماعي يدرك طبيعة التهديدات وأدواتها الجديدة.
يُعدّ الوعي المجتمعي حصنًا دفاعيًا متقدمًا، يحول دون تمكين الأجندات الخارجية من التغلغل في البنية الاجتماعية والسياسية للدولة.
وعليه، فإن الرهان الحقيقي يجب أن ينصبّ على:
1. تعزيز الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع.
2. دعم المناعة الفكرية للمواطن ضد حملات التضليل.
3. ترسيخ الانتماء الوطني كقيمة عليا تتجاوز الخلافات الظرفية.
– خامسًا: البعد القيمي والأخلاقي في الصراع
تُبرز الآية الكريمة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.﴾
أن التفريط في العهد والحق لأجل مصالح دنيوية مؤقتة يمثل سقوطًا أخلاقيًا يوازي في خطورته الانحراف السياسي أو الاستراتيجي.
ومن هذا المنظور، فإن معركة الوعي ليست صراعًا سياسيًا فحسب، بل معركة قيمية وأخلاقية تحدد مصير المجتمعات وقدرتها على الصمود أمام الإغواء والانقسام.
– سادسًا: استنتاجات عامة:
يتضح من التحليل أن استهداف الجبهة الداخلية يُعدّ أحد أخطر مظاهر الصراع المعاصر، إذ يتم من خلاله تقويض استقرار الدول من الداخل دون الحاجة إلى تدخل عسكري مباشر.
وفي الحالة المغربية، تتجلى خطورة هذا التحدي في توظيف قوى أجنبية للأدوات الرقمية والتحريضية من أجل إضعاف اللحمة الوطنية وتشويش الوعي الجمعي.
ومن ثمّ، فإن التحصين الاستراتيجي يمرّ عبر تعبئة فكرية وقيمية شاملة تُعيد الاعتبار للوعي الوطني، وتؤسس لثقافة أمن فكري واجتماعي قادرة على حماية الدولة والمجتمع من الاختراقات الخارجيّة.
* نبذة موجزة حول الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّه؛
مفكّر وباحث مغربي متخصّص في العلوم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وناشط في الرصد والتحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي.
له عدة إسهامات فكريّة ومقالات تحليليّة ترصد التحوّلات المجتمعيّة وتقدّم قراءات نقديّة للتحديات الراهنة في المغرب والعالم العربي والإسلامي، من أبرز مؤلفاته: الإدارة المغربية ومتطلبات التنمية (2000). الفاعلون المحليّون والسياسات العموميّة المحليّة (2015)، والفاعلون في السياسات العموميّة الترابيّة (2020).





