الانتزاع من الدليل…خاطئ في الاستدلال: حين يُساق النص خارج سياقه العام الكامل فيحرّف وتُختزل دلالته لخدمة الموقف
* الدكتور عَبْدُ اللَّه شَنْفَار
من البديهيات والأبجديّات التي تعلمتها في صغري، وأنا أحفظ القرآن في المَسِيد على يد فقهاء معتدلين لم يميلوا يومًا إلى الغلو أو التطرف؛ قاعدة راسخة في أصول الفهم والاستدلال تقول: «الانتزاع من الدليل… خاطئ.»
والمقصود بها أن أخذ فكرة أو استنتاج من دليلٍ معيّن دون مراعاة سياقه الكامل أو شروطه المنهجيّة، ثم إسقاطه تعسفًا على واقعةٍ لا تمتّ إليه بصلة، هو خاطىء في التفكير والاستدلال.
فالنصّ، أيًّا كان مصدره، لا يُفهم بمعزلٍ عن سياقه العام الكامل، ومناطه الخاص، وأسباب نزوله، وضوابط التأويل الأصولي التي تحدّد دلالته وحدود تطبيقه.
* أولًا: بين الاستشهاد المشروع والاستدلال المبتور
يكثر في زمننا من يستدلّ بآية قرآنية أو حديث نبوي لتبرير موقفٍ سياسي أو رأيٍ فكريّ أو نزعةٍ أيديولوجية لا تمتّ إلى النصّ بصلة.
وهنا يقال: «هذا انتزاع من الدليل، وهو خاطئ.» لأن أيّ انحرافٍ أو اقتطاعٍ من النص يوهم أن الدليل يشهد لشيءٍ لم يشهد له أصلًا، فيتحوّل النص من منارة هداية إلى أداة جدلٍ وتوظيفٍ سياسي.
* ثانيًا: تطبيق واقعي… حين تُستعمل الآية في غير موضعها
عنوانه، الآية الكريمة: ﴿قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ.﴾؛ هذه الآية وردت في سياق حديث الله تبارك وتعالى عن بني إسرائيل حين طلبوا من نبيهم موسى عليه السلام أن يبدّل لهم المنَّ والسلوى بما تُخرجه الأرض من بقلها وقثائها…
أي أن الآية تتحدث عن نكران النعمة الإلهيّة واستبدال الأفضل بالأدنى في سياقٍ دينيّ تربويّ خاص.
لكن حين يُساق هذا النصّ في خطابٍ سياسيّ معاصر ليقال إن القضية الفلسطينيّة: “الذي هو خير”، واستبدالها بقضية الصحراء المغربية أو التطبيع: “الذي هو أدنى”، فإن ذلك يُعدّ انتزاعًا من الدليل الأصلي، وإسقاطًا غير منضبطٍ على واقعٍ مختلفٍ تمامًا.
فهذا ليس من باب الاستشهاد البلاغي المشروع، بل من باب الاستدلال الأصولي الباطل، لأنه يجعل النصّ حجّة على ما لا يدلّ عليه، ويُحمّله ما لم يقصده الشرع ولا اللغة ولا السياق.
* ثالثًا: الفرق بين البلاغة والتأويل
الاستشهاد البلاغي مشروعٌ ما دام يحترم المعنى الأصلي للنص ويستخدمه لتقريب الفكرة لا لتقويضها، بينما الاستدلال الأصولي يتطلّب مطابقة تامة بين النص والواقع المستدلّ عليه.
الخلط بينهما يجعل الخطاب الديني أو السياسي عرضة للتأويل الاعتباطي، ويشوّه أدوات الفهم الرصين التي بناها علم الأصول عبر قرونٍ من الدرس والتقعيد.
* رابعًا: الانتزاع من المقاصد… انزلاق في الخطاب: حين يُختزل العلم في الإنفعال
من المؤسف حقاً أن بعض مشايخ العصر قد انزلقت ألسنتهم إلى ألفاظٍ لا تليق بمقاماتهم ولا بالمجالس التي يُفترض أن تُصان حرمتها، وتُؤطر انفعالات الناس لا أن تذيبها في نيران الخطاب الشعبوي. فحين يصير الشتم بدل التبليغ، والانفعال بدل الحكمة، والتجريح اللفظي بدل التأطير الراشد، نصير أمام تحريف لوظيفة المجلس العلمي من منبر هداية إلى منبر غضب بلا ضوابط.
أما كان أولى بأمثال هؤلاء أن يستلهموا من قوله تعالى: “فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ”؟
هذا الخطاب الإلهي، الموجَّه إلى موسى وهارون عليهما السلام وهما يُكلَّفان بمحاورة أعتى طغاة الأرض، فرعون، لم يترك لهما خيار الانفعال، بل ألزمها بـ”اللين” في القول، رجاء التذكير أو إثارة الخشية.
فأين هؤلاء من موسى؟ وأين من يخاطبونه من فرعون؟
ثم من الذي خوّلهم أن يُحوّلوا الفقه إلى سلاحٍ لفظيّ، يوزّع النعوت القذرة من مقامٍ كان يفترض فيه الوقار والعقل والمقام الجامع؟
هكذا يخرج الخطاب عن مقاصده، ويضيع العلم بين سطور الحقد والانفعالات البدائية، فتغدو المجالس العلمية فضاءات صاخبة لا صوامت راشدة.
* خلاصة: احترام النص… احترام للعقل
إن احترام النصّ الديني لا يعني تقديس ألفاظه فقط، بل إدراك معناه في سياقه ومقصده.
ومن ينتزع الدليل من موضعه يسيء إلى النصّ كما يسيء إلى الفكر، ويحوّل برهان الهداية إلى أداةٍ لتبرير المواقف أو تزيين الأهواء.
ولذلك قال علماؤنا الأوائل قولًا بليغًا يصلح لكل زمان:
«من أراد أن يحتجّ بالنص، فليكن النص هو الذي يحتجّ له، لا عليه.
* نبذة موجزة حول الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّه؛
مفكّر وباحث مغربي متخصّص في العلوم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وناشط في الرصد والتحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي.
له عدة إسهامات فكريّة ومقالات تحليليّة ترصد التحوّلات المجتمعيّة وتقدّم قراءات نقديّة للتحديات الراهنة في المغرب والعالم العربي والإسلامي، من أبرز مؤلفاته: الإدارة المغربية ومتطلبات التنمية (2000). الفاعلون المحليّون والسياسات العموميّة المحليّة (2015)، والفاعلون في السياسات العموميّة الترابيّة (2020).





