الاستلاب الثقافي وتغييب الوعي عند الأجيال المعاصرة: قراءة في جدليّة الذات والآخر القريب والبعيد
* الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّه
– حين يصبح الجهل نظامًا للمعنى:
هل يمكن للوعي أن يتحول إلى أداة لهدم نفسه؟ هل يسع الفرد، في زمن الانكشاف المعلوماتي، أن يعيد إنتاج الجهل في صيغة الاختيار الحر؟ وما الذي يجعل جيلاً يتنصل من الفلسفة، ويتبرأ من التاريخ، ويختار الذوبان في الآخر بوصفه خلاصًا لا سؤالًا؟
هذه الورقة البحثيّة ليست تنديدًا بأزمة، بل تفكيك لمنطقها. إنها لا تطرح “مشكلة الأجيال”، بل تُسائل بنية الجهل المركب حين يتلبّس هيئة ثقافيّة تبدو مألوفة لكنها تفتقر إلى العمق.
ذلك أن الاستلاب، في صورته المعاصرة، لم يعد مجرد انقياد قسري، بل تحوّل إلى فعل داخلي، يقوم به الفرد طوعًا بوصفه شكلاً من أشكال الانتماء العصري.
– في الاستلاب كمنظومة رمزيّة: من الاغتراب إلى المحو الذاتي
ليس الاستلاب مجرد غياب للوعي، بل اشتغال معقّد على تفريغه من الداخل. فمنذ أن تحوّل الآخر إلى معيار مطلق للنجاح والمعرفة والذوق، لم يعد الاستلاب يُقاس بحدّة التبعية، بل بعمق الصمت عنها. فحين تستبطن الذات صورة الآخر دون مساءلة، تُختزل إلى كائن استهلاكي بلا مرجعية.
الذات المستلبة لا تُقصى من الخارج، بل تُعيد إنتاج إقصائها من داخلها. وهذه هي خطورة الاستلاب: أنه لا يُفرض، بل يُستدرج بلغة “الحرية”، و”الاختيار”، و”الانفتاح”، بينما يفتك بالعقل من داخله، ويعطل آليات النقد الذاتي دون أن يعلن عن نفسه.
– تحولات الجهل: من القطيعة المعرفيّة إلى التواطؤ الرمزي
كيف نقرأ انعدام الحس التاريخي، والنفور من الفكر الفلسفي، والتقديس غير الواعي للطبيعة كجغرافيا بديلة عن الجغرافيا الرمزية؟
لا يتعلق الأمر بجهل عابر، بل بإعادة هيكلة للوعي وفق آليات تُقصي ما لا يُستهلك، وتُعلي من شأن المرئي العابر على حساب المعنى المتجذر. في هذا المشهد، يغدو علم الاجتماع ترفًا، والفلسفة عبئًا، والتاريخ سردية مريبة.
وهكذا يُعاد تشكيل الإدراك على قاعدة “اللا-سؤال”، حيث لا يُطلب من العقل أن يعمل، بل أن يتكيف.
– هشاشة الهوية في زمن التماثل: الذات بين التكرار والانصهار
الذات المعاصرة تعيش ما يمكن تسميته بـ”التماثل القسري”، حيث يُنظر إلى المختلف بوصفه خطرًا، وإلى التعدد كتشويش. وهكذا تتراجع القدرة على التمييز بين “الذات” و”الغير”، بين ما يُنتج وما يُستهلك، بين ما يُفكَّر فيه وما يُعاد ترديده.
هنا لا نكون أمام اغتراب عن الذات فقط، بل أمام تفكيك للبُنية الرمزية التي تُمكّن الذات من إدراك حدودها وممكناتها. فالانبهار بالآخر لا يُغني عن مساءلته، بل يعمّق فقدان القدرة على بناء موقف نقدي منه، فيصبح الآخر مرآة مغلقة لا تُظهر إلا غياب الذات.
– القطيعة مع أدوات التفكير: حين تُستبعد الفلسفة من مشروع الإنسان
غياب الفلسفة ليس مجرد نقص معرفي، بل علامة على تحوّل خطير في علاقة الجيل المعاصر بالتفكير نفسه. فحين تُختزل المعرفة إلى “أجوبة جاهزة”، و”محتوى سريع”، تفقد الفلسفة شرط وجودها، لأنها لا تُنتج في الفراغ، بل في سياق يسمح للأسئلة بأن تتكاثر لا أن تُقمع.
هل يمكن لمجتمع أن يربي على الحرية وهو يُقصي الفلسفة من تعليمه؟ وهل يُمكن بناء وعي تاريخي من دون مساءلة السرديات الرسميّة؟
تلك أسئلة لا تطلب إجابة مباشرة، بل إثارة القلق الفكري الضروري لأي يقظة فكرية حقيقية.
– نحو استعادة العقل لا كأداة بل كأفق:
التحرر من الاستلاب لا يكون برفض الآخر، بل بإعادة تعريف العلاقة معه. وهذا لا يتم عبر خطاب الهوية المغلقة، بل بخلق قدرة على التمييز، على النقد، على الحفر في المعنى لا السطح. ذلك أن التحدي ليس في “امتلاك ثقافة الآخر”، بل في القدرة على إعادة إنتاجها في سياق محلي، نقدي، متفاعل لا تابع.
استرداد الوعي ليس شعارًا، بل مسار معقد يبدأ من إعادة إدماج الفلسفة كأداة يومية للتفكير، ومن تصالح حقيقي مع التاريخ لا كذاكرة تمجيدية، بل كمجال للسؤال والتحليل. كما يتطلب فهمًا عميقًا للأنساق الاجتماعية التي تصوغ الفكر والموقف معًا.
– استنتاجات عامة مفتوحة: ماذا لو فقد الإنسان حاجته إلى التفكير؟
الخطر لا يكمن في جهلٍ طارئ، بل في استبطان الجهل كحالة وجوديّة. فإذا كان الاستلاب يُفرغ الذات من نقدها، فإن الخضوع الطوعي له يُحوّل الإنسان إلى “كائن مطواع” يتخلى عن حقه في أن يخطئ، في أن يسأل، في أن يختار.
فهل يمكن للعقل أن يستيقظ من سباته من دون زعزعة المسلمات؟ وهل يكفي الوعي بأننا مستلبون للخروج من الاستلاب؟ أم أن الوعي وحده لا يكفي، ما لم يتحوّل إلى فعل تحرري؟
*نبذة موجزة حول الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّهِ؛ مفكّر وباحث مغربي متخصّص في العلوم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وناشط في الرصد والتحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي؛ من مواليد 13 يونيو 1970 بفم زكيد إقليم طاطا؛
– محصل على شهادة الإجازة في الحقوق (تخصص الإدارة الداخليّة)
– ومحصل على شهادتين للدراسات العليا:
1. الأولى في علم السياسة
2. والثانية في علم الإدارة.
– محصل على دبلوم الدراسات العليا في العلوم الإداريّة.
– محصل على شهادة الدكتوراه في الحقوق
* وذلك كله بكليّة الحقوق بجامعة القاضي عياض بمراكش
* له عدة إسهامات فكريّة ومقالات تحليليّة ترصد التحوّلات المجتمعيّة وتقدّم قراءات نقديّة للتحديات الراهنة في المغرب والعالم العربي والإسلامي، من أبرز مؤلفاته:
* الإدارة المغربية ومتطلبات التنمية (2000).
* الفاعلون المحليّون والسياسات العموميّة المحليّة (2015)،
* والفاعلون في السياسات العموميّة الترابيّة (2020).





