بقلم: عزيز لعويسي
تنظم الجمعية المغربية للبحث التاريخي بشراكة مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، لقاء علميا بمناسبة صدور كتاب “التاريخ والهوية: الكتابة التاريخية بين الأرشيف والذاكرة وسؤال التعددية”، أعمال مهداة إلى الأستاذ جامع بيضا، وذلك يوم الخميس 15 فبراير 2024، برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، على الساعة الثالثة بعد الزوال؛
وفي برنامج هذه الندوة العلمية، كلمات افتتاحية يلقيها على التوالي كل من عميدة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط بالنيابة، ورئيسة الجمعية المغربية للبحث التاريخي، ورئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، إضافة إلى رئيس مجلس الجالية المغربية في الخارج، وقراءات في الكتاب، وشهادات في حق الأستاذ جامع بيضا، سيتعاقب على بسطها ثلة من مدراء مؤسسات عمومية وأساتذة جامعيين معنيين بقضايا التاريخ والأرشيف والذاكرة والتراث، فضلا عن كلمة ختامية للأستاذ المحتفى به جامع بيضا، المؤرخ والأكاديمي ومدير مؤسسة أرشيف المغرب؛
ولا يمكن إلا أن نثمن مبادرة علمية من هذا القبيل، لما لها من دور في ترسيخ ثقافة التحفيز والاعتراف، وإرساء لسنة التقدير والاعتبار، في أوساط النخب الفكرية والعلمية والسياسية والحقوقية والثقافية وغيرها، وبدون شك، فاللقاء العلمي المرتقب، يتجاوز حدود الاحتفاء ويتخطى عتبات الاعتراف، إذا ما استحضرنا القيمة الاعتبارية للشخص “المحتفى به” الأستاذ جامع بيضا، كقامة أكاديمية بارزة، واعتبرنا المسار العلمي والبحثي لابن تزنيت، وما خلفه ما يقارب الأربعة عقود من الزمن، من إنتاجات علمية متعددة الزوايا، خاصة في مجال التاريخ والأرشيف والتراث، وما تقلده من مهام ومسؤوليات جمعت بين التدريس والعمل الجمعوي والإداري؛
بين التدريس في الجامعة والبحث الأكاديمي والعمل الجمعوي وتحمل أعباء مؤسسة عمومية استراتيجية بقيمة أرشيف المغرب، مسارات مهنية وبحثية وجمعوية وإدارية وتواصلية وإشعاعية، ما كان لها أن تتحقق وتحضر بهذا الزخم، لولا ما تملكه الرجل، من إرادة وعزيمة وإصرار وصبر وتحمل، وما ميزه ويميزه، من اجتهاد ودينامية ونشاط، ومن قيم إنسانية واجتماعية وتواصلية، جعلته اليوم، أهلا للتكريم والتقدير والاعتبار، ليس فقط باعتباره أستاذا، قدم خدمات للجامعة المغربية وخاصة في مجال الدراسات التاريخية، بل وبصفته واحدا من النخب الفكرية الوطنية، ورجلا من رجالات الدولة المخلصين لله والوطن والملك، من زاوية ما صنعه من مسار علمي وأكاديمي لافت للنظر، في سياق وطني يعيش أزمة نخب، ومن بوابة ما أبلاه بمعية الطاقم المرافق له، من بلاء حسن، على رأس مؤسسة أرشيف المغرب، التي باتت في عهده، واحدة من المؤسسات العمومية الوطنية، الأكثر دينامية وحضورا وإشعاعا في الساحة العلمية والثقافية والتراثية الوطنية؛
في هذا الإطار، إذا كان من الصعب، النبش في حفريات السيرة الذاتية للدكتور جامع بيضا، والإحاطة بمساره المهني والبحثي الطويل، في مقال رأي محكوم بسلطة الاختصار والإيجاز، فهذا الحاجز الموضوعي، لن يمنع من توجيه البوصلة نحو عدد من المحطات المميزة التي بصمت تاريخ الرجل وأثرت ذاكرته الخصبة، ونبدأ من حيث ينبغي البدء، بالإشارة إلى أن ابن تزنيت، حاصل على دكتوراه السلك الثالث سنة 1982 ودكتوراه الدولة من جامعة بوردو بفرنسا سنة 1995، التحق بالتدريس كأستاذ للتاريخ، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 1982، وشغل بها منصب نائب رئيس شعبة التاريخ بين سنتي 1986 و1988، ومسؤولا عن “وحدة المغرب الكبير” بين سنتي 2002 و2006 ، و”مجموعة البحث الإسلامية المسيحية”، وعضو مؤسس ومنسق لمجموعة الأبحاث حول “الدراسات المغربية اليهودية” التي تم تأسيسها سنة 1996؛
انتخب الدكتور جامع بيضا، عضوا بمكتب “الجمعية المغربية للبحث التاريخي” سنة 1993، وشغل منصب الكاتب العام بذات الجمعية ما بين 2001 و2007، ونال عضوية المكتب التنفيذي لجمعية المؤرخين الأفارقة منذ سنة 2007، وعضوية اللجنة العلمية للمكتبة الوطنية للمملكة، والمعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، واللجنة العلمية للعلوم السياسية والاجتماعية منذ أول إصدار لها سنة 2010، وعضوية تحرير مجلة “هسبريس تامودا” منذ 1992؛
الرجل أيضا، عضو مؤسس ومدير سابق لمجلة البحث التاريخي ما بين 2003 و2006، وعضو بالمجلس الاستشاري لمجلة “أسطور” للدراسات التاريخية في قطر، ومؤسسا ومديرا لمجلة أرشيف المغرب منذ سنة 2016 ، ونائبا لمجلس إفريقيا للمجلس الدولي للأرشيف، وعضوا في اللجنة الاستشارية الدولية لبرنامج ذاكرة العالم لليونيسكو، واللجنة الإدارية للأرشيفات الوطنية والإفريقية والعالم العربي…
“التزامات الأستاذ “جامع بيضا” المهنية والجمعوية، لم تمنعه من النبـش في حفريات تاريخ المغرب، حيث نشر على مدى 34 سنة، ما يزيـد عن “105” عنوانا ، تنوعت بين المقالات والكتب والأعمال الجماعية والحوارات …، و”38″ عنوانا ضمن “معلمة المغرب”، في أعمال بحثية تقاطعت مضامينها حول تاريخ المغرب المعاصر والحركة الوطنية وتاريخ الصحافة المغربية، وتاريخ الأقليات الدينية المسيحية واليهوديـة والأرشيف المغربي، فضلا عن مجموعة من الحوارات والقراءات النقدية لعدد من الإصـدارات”؛
وتقديرا لما قدمه من خدمات وأدوار على رأس أرشيف المغرب، واعترافا بمكانته العلمية وسيرته المعرفية المرموقة، حظي الأستاذ جامع بيضا، بشرف التكريم في أكثر من مناسبة، ونال عدة جوائز فخرية وتقديرية، منها نيله لشهادة دكتوراه فخرية من المدرسة العليا للأساتذة بليون الفرنسية، وحصوله على “وســام رفيع” من وزارة الثقافة والاتصال الفرنسية (2015)، و”ذرع الجامعة العربية”، و”الذرع الفخري” للجمعية المغربية للبحث التاريخي …، فضلا عن تلقيه مؤخرا، لدعوة صادرة عن مركز التوثيق الملكي الأردني الهاشمي، بشأن الانضمام إلى الهيئة الاستشارية الخاصة بمجلة محكمة نصف سنوية، تم تأسيسها من قبل المركز المذكور تحت مسمى “مجلة وغـدان”…
وعليه، واستعراضا لهذا المسار العلمي والأكاديمي والمهني الذي قدمنا جانبا من شذراته، لا يمكن إلا الافتخار بكفاءة مغربية من هذا الوزن والطراز، وكأساتذة ممارسين و كطلبة سابقيـن، لا يسعنا إلا الاعتـزاز بقيمة الرجل ومكانته العلمية والأكاديمية التي جمعت بين ثالوث التاريخ والأرشيف والصحافة، وتثمين رصيده البحثي والجمعوي الزاخر، اعتبارا لعضويته في الكثير من مجموعات البحث والجمعيات والهيآت واللجان العلمية والتاريخية والأرشيفية، وبما أن لكل مجتهد نصيب، فقد حظي الدكتور جامع بيضا، بشرف تعيينه من قبل صاحب الجلالة الملك محمد السادس أيده الله، على رأس مؤسسة عمومية حديثة النشأة، حملت اسم “أرشيف المغرب”؛
“وكما ارتبط اسم الأستاذ “جامع بيضا” بالعديد من المجموعات واللجان البحثية والجمعيات والمجلات العلمية والتاريخية، ارتبــط اسمه وسيرتبط على الدوام بقـوة الواقع، باسم “أرشيف المغرب” التي تولى إدارتها وهي بمثابة “طفلة صغيـرة”، فكان لها نعم “الأب”، فعلمها كيف تحبـو وكيف تتحرك وكيف تخطو الخطوات الأولى قبل أن يضعها على السكة السليمة، لتكون مثالا للمؤسسات العمومية “الطموحة” و”المجتهدة” التي تمشي قدما نحو المستقبل بثقـة وتبصـــر” …
“وقبل الختم، نرى أن “ابن تزنيت” جامع بيضا، هو “الأستاذ” و”المؤرخ” و”الأرشيفي” و”المثقف” و”الكاتب” و”الإداري” و”المسؤول” و”الجمعوي” و”الباحث في الصحافة” و”المهووس بالتاريخ والتراث”، وهو قبل هذا وذاك يبقى “الإنسان” الذي تقاطعت في شخصيته سبل “الالتزام” و”المسؤولية” و”الأناقة” و”التقدير” و”التواصل” و”الجاذبية”، و”الطموح” و”الإرادة” و”الصبر” و”الاجتهاد” و”المثابرة” و”الإخلاص في العمل”، و”التواضع” و “السخـاء” و”نكران الذات”، وهي خصوصيات وقيم إنسانية، لامسناها بالأمس في “جامع بيضا”/الأستاذ، ونحن طلبة يافعين نشق أولى خطواتنا في عوالم وشعاب التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط نهاية القرن الماضي، ونلامسها اليوم في الرجل، ونحن أساتذة ممارسين، نقف عند عتبة الفخر والاعتزاز والإعجاب، كلما تأملنا في المسار المهني والأكاديمي والبحثي والحياتي للرجل، الذي يعد مفخرة لمدينة تزنيت ولسوس العالمة وللبحث التاريخي ولأرشيف المغرب … وصورة مشرقة لما يزخر به الوطن من كفاءات وخبرات في زمن انكمشت فيه رقعة الكفاءات والخبرات…”؛
ونختم المقال، بأن نتقدم لأستاذنا الكريم جامع بيضا، بخالص التهاني والأماني، وهو يحظى بشرف التكريم والاعتبار والتقدير، من قبل الأصدقاء والزملاء والمحبين، ممن شاركوه طيلة سنوات، مهنة المتاعب برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، أو تقاسموا معه هم التاريخ ومشقة السؤال التاريخي، سائلين الله عز وجل، أن يمتعه بنعمة الصحة والعافية، وييسر له، بمعية الطاقم الذي يشتغل تحت إمرته، سبل الارتقاء بمؤسسة أرشيف المغرب، ويعبد له مهمة الانتقال بها من مرحلة “الجهاد الأصغر”، التي أتاحت فرص إرساء قواعد المؤسسة وتماسك لحمتها، إلى “مرحلة الجهاد الأكبر” في إطار الاستراتيجية الجديدة للأرشيف، التي يعول عليها لإحداث “نهضة أرشيفية” بتحديات ورهانات جديدة، في طليعتها، إدراك مقر جديد، يستجيب لشروط ومعايير حفظ الأرشيف، ويليق بمؤسسة عمومية ذات طابع استراتيجي، والنهوض بالأوضاع المادية والمهنية والتحفيزية للموارد البشرية، باعتبارها “المحرك الأساس” لأية تنمية أرشيفية مأمولة، وتعزيز صلاحيات المؤسسة على مستوى الأدوات القانونية والتنظيمية والإمكانات البشرية والمادية واللوجستية، لتضطلع بأدوارها كاملة، ولتكون كما يرضاها ويتطلع إليها، عاهل البلاد حفظه الله، مؤسسة عمومية حافظة للتراث الأرشيفي الوطني ومثمنه له، وعاكسة لدولة بقدر ما ترتبط بالتراث، بقدر ما تمضي قدما نحو الحداثة؛
ولا يمكن أن ندع الفرصة تمر، دون التقدم بشكر وتحية الجهة التي تقف وراء حفل تكريم المؤرخ والأكاديمي الدكتور جامع بيضا، ممثلة في “الجمعية المغربية للبحث التاريخي” و”كلية الآداب العلوم الإنسانية بالرباط”، وفي تكريمه، اعتراف بالكفاءات المغربية الخالصة، وتقدير لما أسداه الرجل من خدمات وطنية على رأس أرشيف المغرب؛
وبما أن المقال حضرت فيه مفردات “الاعتراف” و”التقدير” و”التثمين” و”الاعتبار”، فلا يمكن إلا نوجه البوصلة كاملة، نحو ما تزخر به المؤسسة الأرشيفية، من أطر ومستخدمين، لأنهم شركاء فيما تحقق منذ التأسيس، من نجاح وتميز وريادة وإشعــاع وطني وإقليمي ودولي، وبفضل صنيعهم، يستحقون المزيد من العناية والتحفيز والاعتبار، لأنهم “جنود التراث” و”عين الذاكرة التي لا تنام”.