د.الحبيب ناصري
تقديم
اقتحام حقبة من تاريخ المغرب الحديث، وبالضبط سنة 1955، وبلغة السينما، والتي تتكلم بالصورة في الأساس، يؤكد بالفعل أن من أخرج هذا العمل، وهو المخرج المغربي عبد الحي العراقي، يدرك جيدا طبيعة هذه الحقبة التاريخية المغربية، ولاسيما في مدينة التاريخ والحضارة، بل وفي عاصمة المغرب الروحية والعلمية، أي في فاس، التي سطرت العديد من ملاحم المعرفة والتاريخ والجمال عبر عصور عديدة. حقبة تركت بدون شك بصمتها في وعيه/لاوعيه، وربما هو ما جعله يحكي حكيه التاريخي بلغة السينما وليس بلغة المؤرخ التي لها خصوصياتها التوثيقة الزمنية الخطية.
قليلة هي الأفلام التاريخية المغربية الحاضرة في الفيلموغرافيا المغربية، بالمقارنة مع تلك ذات البعد الاجتماعي وغيره. ربما الأمر يتعلق هنا، بالعديد من الصعوبات ذات الصلة بالكتابة والإنتاج، وغيرهما. مما يجعل المتلقي يقبل على الفيلم التاريخي، لاسيما، الذي ينهض على رؤية فنية تجعله يستمتع فعلا بهذا النوع من الأفلام الواجب دعمها جيدا. طبعا الفيلم التاريخي، يطرح بعض الجوانب التاريخية، وبلغة السينما، دون التقيد الحرفي بما وقع في الواقع، والذي بدوره يحكي ما عاشه بلغته، أي ليس بالضرورة خلق مقارنات بين ما وقع تاريخيا وواقعيا مع ما وقع سينماتوغرافيا في الفيلم. ففي نهاية المطاف، يحكي المخرج، قصصا تاريخية بعيونه هو، وعبر عيون شخصياته السينمائية.
ونحن أمام فيلم “55” الذي أخرجه المخرج المغربي عبد الحي العراقي، نشعر فعلا أننا أمام حقبة تاريخية مغربية ترتبط بشكل قوي بسياسة المستعمر الفرنسي، والذي تحت ضغط المقاومة بالمدينة والبادية، جعله ينفي رمز المغرب التاريخي آنذاك الملك محمد الخامس سنة 1953 وتنصيب بنعرفة، مما جعل كل أشكال المقاومة ترتفع لنصل لسنة 1955، والتي ستكون سنة مفصلية في تاريخ المغرب، ممهدة لاستقلال المغرب.
1955 بعيون سينمائية مغربية
حكي قصص/مشاهد من حياة فاس سنة 1955 ومن خلال الطفل كمال “11”، جعلنا فعلا كمتلقين، نوقف زمننا الحالي ونعود لهذه السنة، ونتابع تفاصيل هذا الحكي السينمائي التاريخي، لتتبع ما سيقع، وبعيون هذا الطفل الذي جعل من السطوح، فضاء وجدانيا لربط علاقات ود مع الشابة عائشة التي علمته المقاومة ونزعت من قلبه كل مظاهر الخوف..
عناصر فنية عديدة، حضرت في الفيلم، وجعلتنا نطل بل “نتجسس” سينمائيا على ما وقع سنة 1955 بفاس العريقة. فما الذي وقع ؟ وكيف؟.
سؤال ماذا وقع؟
سؤال من الممكن أن نقبض على بعض عناصره والتي تلخص في رفض ساكنة المدينة (ماعدا فئة الخائنين)، كل مظاهر العنف والتضييق على حرية التعبير ورفض سياسة فرنسا التي نفت رمز الوطن محمد الخامس رحمه الله. مظاهر المقاومة، وبأشكال عديدة، كانت تجليات وقائعية تؤكد طبيعة التضحية الدموية الفاسية المغربية خلال هذه السنة.
كيف وقع؟
هنا نستحضر لغة السينما التي وظفها المخرج، وطاف بنا في أمكنة فاس، وجعلنا نتلذذ أزقتها الصغيرة وسطوحها وألبستها وبيوتها وأطعمتها، بل جعلتنا نتماهى مع الطفل كمال، وبقية الشخصيات الفدائية، مثل أمه وعائشة وبقية الشخوص التي ضحت بدمائها من أجل عودة الملك الشرعي، ونزع المغرب لاستقلاله من المحتل الفرنسي.
بكل تأكيد، المكان، هنا هو بمثابة شخصية فاعلة في الحكي السينمائي. المكان بثقله المعماري، وسطوحه التي شكلت رؤية فنية حميمية، مرر من خلالها المخرج، عشقه لفاس ولتاريخها الروحي والوطني والجمالي. الشيء نفسه من الممكن قوله حول مكونات الموسيقى (مثل الملحون) والألبسة، والعديد من طقوس العيش بفاس.
بين الفينة والأخرى، كنا نشعر وكأننا أمام حكي فيلمي وثائقي تاريخي عن فاس، من شدة قوة المكان وبعده الجمالي، الذي لن ينفلت مشاهد من عشقه، وتفكيره في تلك الأيادي التي بنت ذلك المعمار الجميل. مظاهر الحضارة المغربية، ومن خلال العديد من مكونات الفيلم المكانية وغيرها، يجعلنا نؤمن بقيمة الذوق الحضاري الذي ملكه من تعاقب على العيش داخل هذه المدينة المغربية العريقة.
تفاصيل نضالية، داخل تفاصيل المكان وزمن 1955، جعلتنا فعلا نتابع تفاصيل الفيلم الفيلمية التي تخصبت بطبيعة المكان الفاسي المسكون برائحة التاريخ والجمال، وهو ما بينه وأضمره في الوقت نفسه، فيلم 55 لعبد الحي العراقي.
أم الطفل كمال، وهي زوجة التاجر والحرفي التقليدي، كانت نموذج تلك المرأة المحافظة والمخفية عبر “نقابها” الذي أزالته وسط الجموع الشعبية الحاملة لصورة محمد الخامس والتي فرحت بعودته، كإحالة على مرحلة جديدة من تاريخ المغرب بعدما تمكنت، ومن خلال تجفيف بيتها بالطريقة الشعبية المغربية، من فهم أن تنظيف البيت من الأوساخ، لم يكن محصورا في بيتها فقط، بل هو فعل توخت منه تنظيف مغربها من وسخ الاحتلال ككل.
عديدة هي التأويلات الممكن القبض عليها في هذا الفيلم ولعل أقواها، ما وقع في نهاية الفيلم، حيث تعجب واستغراب غريب عبر عنه كمال وبلغة عيونه وصمته من مشاركة شخصية خائنة لبقية الفئات بعودة الملك الشرعي محمد الخامس. فهل هي إحالة على قلة حياء هذه الفئة الخائنة و”البياعة” لمن كان يقاوم قلبا وقالبا؟. ربما نهاية الفيلم، أكدت لنا فعلا، عن طبيعة رؤية المخرج لما وقع لمغرب ما بعد 1955 بل لما بعد 1956.
خاتمة
فيلم 55 للمخرج عبد الحي العراقي، سفر في الذاكرة التاريخية المغربية الحديثة وبلغة السينما. فيلم شاهد على وظيفة فاس العريقة في بناء ونزع استقلال المغرب. بكل تأكيد أرواح عديدة سقطت فداء ودفاعا عن شرعية القضية الوطنية آنذاك.. وفي الوقت نفسه، كشف لنا، ومن خلال عيون الطفل كمال، عن طبيعة فئة الخائنين الذين غيروا جلدهم بمجرد عودة محمد الخامس، وهي المرحلة الأخيرة من نهاية الفيلم والتي تميزت بحضور أرشيف بصري يبين عودة حقيقية لمحمد الخامس إلى أرض وطنه معلنا نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة تتعلق ببناء مغرب جديد.
ملحوظة هامة :
للتذكير شاهدت هذا الفيلم، ضمن فقرة حوار سينمائي، بحضور مخرجه ومنتجته،(فقرة خارج المسابقة الرسمية) بالدورة 17 لمهرجان سلا الدولي لفيلم المرأة، وهو من تنظيم جمعية أبي رقراق بسلا بتعاون مع مجموعة من المرافق العامة والخاصة.
إيطاليا تلغراف