د.سمير شوقي
نحن جيل الستينيات كبرنا في بيوت تضع فيها المذياع في أحسن مكان، و تلتف حول برنامج صوت العرب من إذاعة القاهرة و متابعة عنتريات “الريس” و كنا نتطلع لجملة “هنا القاهرة” و كأننا أمام طَقسٍ ديني مقدس ! .
كانوا يصورون لنا جمال عبد الناصر كبطل مغوار لا يُشق له غبار، هو الذي طرد البريطانيين و سيرمي الصهاينة للبحر و سيوحد العرب تحت راية أحسن أمة أُخرِجت للناس.
مع أن الرجل لم يكسب ولا معركة واحدة، كل معاركه خسرها و كانت قمة الذل والعار سنة 1967 حيث خسرت بسبب تخاذله عدة دول عربية أجزاء من أراضيها ليومنا هذا. كان خاسراً looser من الدرجة الأولى حتى أن اليمن السعيد هزمه و بهدل قواته.
لكنه كان “شي غيفارا” زمانه و “غاندي” و حتى “عمر المختار” في إعلامه .. إعلام البروباغاندا الرخيصة التي غسلت أدمغة آبائنا و لم تسلم منها أدمغتنا الصغيرة. كان الوالد رحمه الله يعلن حالة “حذر التجول” بالبيت و الصمت المُطبق لما كان “جمال زمانه” يلقي إحدى خطبه النارية. وهذا الحال كان يسري على الملايين.
كنا مع نهاية كل خطاب نسرق السمع لمن يكبرونا سناً و هم مزهوون بقرب ساعة النصر. النصر الذي كانوا يتطلعون له حتى في ثنايا خطابات الهزيمة كغداة نكسة 67. كان العرب، و نحن معهم طبعاً، سُكارى بعالم افتراضي يختلف كلياً عن واقعٍ جعل منه “الجمال المغوار” ريبرتواراً غنياً بالهزائم و النكسات.
في ذات الحين، كان التعتيم مُطبقاً عن فرض القمع و دوس أبسط حقوق الإنسان و الإعتقال التعسفي و قد أفلح “نظام جمال” في جمع الشيوعي و الإخواني في نفس الزنزانة و جعلهم يشتركون في الطعام الأسود و حصص التعذيب اليومية. كان التعذيب في زمانه وحشياً لدرجة لاتُصور و بطرق بدائية تزيد العذاب عذابات.
لقد كانت أكبر إنجازاته أنه احتضن ( دون أن يدري) أكبر جاسوس مصري اشتغل لفائدة الصهاينة و كان ينقل أدق التفاصيل للعدو خاصة في فترة السادات. الجاسوس الدي كان يُجالس رؤساء الدول العربية و يحضر مؤتمرات القمة العربية و ينقل كواليسها للعدو.
فالجاسوس لم يكن سوى زوج ابنة الريس جمال!
اكتشفت متأخراً جداً بعد الإفراج عن آلاف الوثائق التي تؤرخ لفترة حُكم الغير مأسوفٍ عليه أنه تم النصب على جيلنا و أننا تعرضنا لأكبر “كاميرا خفية” .. لكن و كما قال الفرنسيون؛ من الأفضل أن تصل متأخراً على أن لا تصل أبداً.
و قبل فترة، كلما صادفت أحد أفلام الستينيات و شاهدت بعض مقاطع تلك البروباغندا ضحكت من أعماق قلبي و كأني أشاهد كوميديا سخيفة تذكرني كم كنا سذج.
لمواليد مابعد الثمانينيات : تذكروا أن حينها لم يكن لا انترنيت ولا قنوات فضائية لا تعدد إذاعات .. و الصحف كانت متحزبة تنقل الاخبار فقط من زاوية مصلحتها.





