1-2
أجراه محمد عبد الجبار
إهداء للأستاذ الشهم الكريم عبد الرحمن بلفقيه، والدكتورة عزة عقيل..
هذه مقابلة نادرة أجراها الدكتور القدير محمد عبد الجبار سلام في منتصف السبعينات من القرن الماضي مع الأستاذ المناضل علي عقيل رحمة الله تغشاهم جميعًا.
أمَّا الدكتور الصحفي محمد عبد الجبار -رحمه الله-، فقد عرفته كونه أحد أصدقاء الوالد -أطال الله في عمره-، وكنت ألقاه في جامعة صنعاء بكلية الآداب، وتتلمذ عليه الأخ العزيز الصديق أوسام جحاف في الدبلوم العالي بكلية الإعلام المؤهل لاستكمال الدراسة العليا، ثم طرأت عليه بعض الظروف فانقطع عن ذلك.
ثم إنَّ الأخ الدكتور عبد الودود مقشر كان عازمًا وحريصًا على الالتقاء به، والجلوس معه، وطرح علي الفكرة؛ فقمت بالتواصل مع ابنه الأخ العزيز وضاح، ورغم الظروف المرضية التي كان يعاني منها الأستاذ محمد عبد الجبار إلا أنه لم يتردد في قبول استفاضتنا في شقته الكائنة في الحي الجامعي، وهناك جلسنا سويًا في إحدى العصريات، ومع ابنه الأكبر جمال، وأمتعنا بأحاديث ثرية ومهمة.
كانت جلسة من أجمل الجلسات التي عرفتها في حياتي. فالدكتور محمد رجل في غاية من التواضع واللطف والتهذيب يتحلى بأدب جم، وتجربة كبيرة في الحياة؛ وهو ضمن قلة من الناس الذين يتركون فيك أثرًا واضحًا عند الجلوس معهم، وتبادل الحديث معهم، ولو لمرة واحدة.
مرة واحدة تكفي للجلوس مع أمثال الدكتور محمد عبد الجبار سلام رحمه الله، وقد أعددت عنه مادةً بعد وفاته تتعلق بسيرته كتبتها لـ «منصة خيوط» أيام عملي فيها.
ويشعر المرء بالحزن حين يقرأ سؤال الدكتور سلام عن الشعور بالاغتراب بعد أربعة عشر عامًا على قيام الثورة اليمنية؛ وحُقَّ للدكتور عبد الجبار سلام بمثل صفاته وإنسانيته وعلمه أنْ يلمَّ به هذا الشعور؛ فالثورة اليمنية 1962 للأسف لم تستكمل أهدافها، ولم تحقق تطلعاتها السامية؛ فقد أجهضتها الثورة المضادة، وقامت بتفريغها من مضامينها العظيمة. وقد اشتكى قبله المتنبي، فقال:
* إنَّ النفيسَ غريبٌ حيثما كانا
والمعري:
أولو الفضل في أوطانهم غرباءُ*
وللدكتور شاخت كتاب عن الاغتراب، وتحدث المفكر الإنساني الفيلسوف وعالم النفس أريك فروم عن اغتراب الإنسان في عصر الآلة والصناعة والحضارة المعاصرة.
أمَّا الأستاذ علي عقيل، فعرفته من خلال كتاباته في مجلة «التراث» التي كانت تصدر في عدن، ولطالما حدثني والدي عنه بتقدير ومحبة واعتزاز، وأنه كان صديقًا للأستاذ القدير الراحل عبده علي عثمان رحمه الله.
وقد كتبت عنه مقالاً مطولاً في كتابي «الفنون جنون»، الصادر في هذا العام بعنوان «علي عقيل الضمير المستتر في حصار السبعين».
إنَّ «المناسبة» التي يتحدث عنها المتصوفة لتتجلى بوضوح من خلال نصوص الأسئلة والأجوبة لكلا الشخصيتين التي جمعت بينهما؛ فالجوامع بين هاتين الشخصيتين اليمنيتين البارزتين: الدكتور محمد عبد الجبار، والأستاذ علي عقيل- كثيرة.
إنها روابط العلم، والثقافة، والأدب، ومحبة الوطن الذي تمنيا أن يرياه في صدارة البلدان عظمة وتقدمًّا ورقيًّا وازدهارًا؛ وطنا يتسع لكل أبنائه، كما يتجلى البعد الإنساني لكليهما بارزًا، والقيم الطيبة التي نشأا عليها، وأخلصا لها بمحبة وصدق وتفانٍ.
وأثناء إقامة الأستاذ علي عقيل في الكويت لم يكن يدخر وسعه بالحصول على الكثير من المنح الدراسية للطلاب الحضارم إلى الكويت وعدن والشمال، وكان بيته لا يخلو من الطلاب المبتعثين للدراسة في الكويت الذين كان يستضيفهم في بيته لأشهر، حتى يتم الحصول على منحهم الدراسية، كما أنَّ له اليد البيضاء في كسر حصار السبعين على صنعاء.
يتحدث الأستاذ كرامة سليمان بامؤمن في كتابه «الفكر والمجتمع في حضرموت» أنَّه من موقعه القيادي في عضوية القيادة القومية في حزب البعث الاشتراكي ممثلاً للقيادة القطرية في اليمن “استطاع التأثير على القرار السياسي للحكومة السورية في دعم النظام الجمهوري في اليمن، وتحريك الطيران السوري لضرب مواقع الملكيين أثناء حصار السبعين”( ).
وفي الختام أشكر والدي العزيز عبد الباري طاهر الذي تكرم وساعدني في مقابلة النص.
فإلى نص المقابلة..
مع الأستاذ علي عقيل- مدير المركز اليمني للأبحاث الثقافية بعدن كان هذا اللقاء:
• ماذا نريد نحن في اليمن خلال هذه المرحلة من الدراسات والبحوث اليمنية، وكيف نفهم أبعاد هذه الدراسات وأهميتها ومردودها البعيد والقريب؟
بكل إخلاص واحترام. طبعًا لا أريد أن أفهم من طرح هذا السؤال واقتصاره فقط على اليمن أنَّ هناك من يدعو بيننا إلى انعزال أو ابتعاد عن فكرة المصير العربي الموحد؛ فاليمن جزءٌ من وطن الشعب العربي ذي الثقافة الواحدة؛ الثقافة التي نشأت وتكونت عبر التاريخ الطويل من معطيات واقعية وموضوعية لا مجال إلى نكرانها ولا افتعال أو اعتساف فيها.
واعتقد أنَّ المنطلق من هذا المعطى الموضوعي أساسي وذو أهمية كبرى على قضية جماهير الشعب العربي ومستقبل نضالها وحاضره، ولا سيما في هذه المحنة التي تجابهما هذه الجماهير، وتتصدى لها بعزمٍ وإصرار جادين. ولا اعتبار هنا لردود الفعل التي تتولد عن الواقع السيء المرير الذي تعيشه البلاد العربية من ضعف وتفكك وتمزق حتى في صُلب القوى التقدمية؛ فذلك نتاج التخلف الحضاري الطويل؛ مضافًا إليه فعل الامبريالية ومخططاتها في المنطقة؛ الأمر الذي يُردُّ عليه بالرؤية العلمية الواضحة والنضال الشعبي المخطط والشامل.
ومن هنا؛ فإنك إذ تسألني عمَّا هي الدراسات والبحوث التي نتطلع إليها نحن في اليمن، وكيف نفهم أبعادها ومردودها البعيد القريب، يظل بذهني نفس المنطلق الذي أشرت إليه؛ ولذلك أجيب بأنَّ الدراسات والأبحاث التي نريدها هي ما يتطلبها واقعنا الحياتي بشكلٍ عام اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا، مرتبطة ومتكاملة مع واقع الوطن العربي، وهذا معطى علمي. فالبداية بدارسة الواقع الإقليمي ومجاله الحيوي وتأثراته على امتداد الساحة العربية، ثم على علاقاته على امتداد العالم؛ العالم المتشابك المصالح هو الإنجاز المعاصر المطلوب.
أمَّا كيف تكون هذه الدراسات أو ما هو نهجها؟ فهو طرح هام جدًّا، ولكن مهما تكن خطورة السؤال، فإنَّ كُلاًّ مِنَّا يعرف أنَّ الدراسات أو الأبحاث ذات المنهج العلمي هي التي تستقرئ الواقع كما هو دون أن تفتعله أو تعتسفه أو تقلد فيه واقع بلدٍ آخر؛ فتأتي المعالجة مختلفة أو ضارة؛ ذلك لأنَّ منشأ الدليل النظري أساسًا لمعالجة واقع أي مجتمع بشري إنما يقوم على نوع واقع ذلك المجتمع ودراسته من جميع جوانبه؛ لتأتي النظرية «مفهومًا» لمعطياته الحقيقية، متلائمةً معه، صالحةً للممارسة فيه، غير متعثرة ولا معوقة، ولا مضيعة للجهد والوقت.
إنَّ ما قطعته المجتمعات البشرية من درجات مختلفة في أنماط الإنتاج وسلم الحضارة، تجعل بالضرورة هذه المجتمعات مختلفة في واقعها عن بعضها؛ وبالتالي فأساليب العمل مختلفة فيها؛ ومن هنا، فإن الدراسات التي نحتاج إليها كواقع مجتمع عربي هي الدراسات التي توطد أولاً هويتنا، وتبحث في واقعنا دون تجمل أو تزيد أو تقليد أو تبعية على أساس التكامل مع المجتمع العربي الواحد الذي لا انفكاك لنا عنه ثقافةً وتاريخًا وحضارةً حاضرًا ومستقبلاً؛ ذلك لأنَّ في هذا الاتجاه توجد حقيقة مواقع القوة الجماهيرية، وتركز الثروات المادية الهائلة؛ وهنا يتهيأ لنا بناء حضارة تقوم بدور مؤثر في خير الإنسانية وحركة التاريخ، وواقعه يثبتان ذلك.
وإذ أقول أنَّ المنهج العلمي هو الأساس في هذه الأبحاث والدراسات التي تتناول جميع نواحي الحياة؛ فإنَّ هذا يعني الانفتاح التام على كُلِّ ما قدمه العلم من معطيات وتحديث العقل بكل ما تعني الكلمة؛ وبالتالي المعاصرة التي لم تعنِ مطلقًا في أي حالٍ مجرد التقليد الشكلي وحفظ الكليشات أو التنكر للإيجابي الجيد من تراثنا، والإعراض عن محاولة فهمه ودراسته كمنجز ثقافي وحضاري في آنٍ واحد.
ولا توجد أولويات في هذه الدراسات تجعلنا نفضل البدء بهذه دون الأخرى. فإذا كانت الأبحاث في الكشف عن معالم الحضارة اليمنية تجعلنا نعرف مدى مساهمتنا في بناء الحضارة الإنسانية، وتزيدنا ثقةً بأنفسنا، فإنَّ الأبحاث والدراسات المدعمة بالأرقام والإحصائيات في أوضاعنا الاقتصادية دون مغامرة أو استهتار بالعلم، واعتمادًا على الخبرة الفنية والإدارية في التطبيق هي من أسس بناء حياتنا الراهنة. وكذلك فإنَّ الأبحاث في القضايا السياسية مرتبطة بالوقائع الاقتصادية والإمكانيات المادية، وعلى أساس صحيح من المعطيات والمتغيرات محليًّا وعربيًّا ودوليًّا، واستشراف النتائج القريبة والبعيدة وردود الفعل على كل مستوى هي الشروط المطلوبة في أبحاث ودراسات كهذه من شأنها أن تضع الدولة في مستوى العصر وتجنبها مهاوي الانتكاسات والتردي.
أمَّا من يضع هذه الأبحاث في مختلف المجالات، فإني أستبعد عنها المزايدين والغرباء عن فهم واقع بلادنا، وما عدا ذلك فالاستفادة من الخبرة العلمية في البلاد العربية الشقيقة والبلاد الصديقة لا غنى عنها، وقد بدأت أفواج المتخرجين من أبناء اليمن تتزايد، فإعطاؤها مكانة ذات تقدير وفعالية في مقدرات البلاد تفضل فيها الخبرة العلمية على الجهل، والكفاءة على المحسوبية، والمواطنة على علاقات القرية أو القبيلة؛ كل ذلك كفيل ببناء شعب متحضر ودولة حديثة.
• لا شكَّ بأنَّ هناك اغترابًا ذاتيًّا نشعر به نحن اليمنيين؛ ما هو العلاج للخروج من هذه الحالة من وجهة نظركم؟
لا أدري ماذا تعني بمفهوم الاغتراب الذاتي؟ أهو نفس المفهوم الأدبي الذي يطلقه النقاد المعاصرون على الوقوف على الأطلال؟ أو ما هو قريب منه الحنين إلى الوطن؟ أو ما هو معروف في الأدب الاجتماعي بمفهوم الضياع أو الاغترابAlienation ؟ أو تعني بالاغتراب الذاتي الذي يشعر به اليمنيون الكسموبوليتية Cosmopoiti؛ أي عدم الشعور بالارتباط بالوطن، واعتبار العالم كله وطنًا شائعًا، لكن الذي يخيل إلى أنَّ ما تعنيه هو شعور اليمني في وطنه بالغُربة؛ وهذا بالتأكيد ما تقصده.
إنني أعتقد أنَّ هذا الشعور؛ شعور المواطن بالغربة في وطنه قد تفرضه على مواطن ما ظروف معينة كالشعور بالاضطهاد، أو الإحساس بأنَّ المواطن في وطنه فاقد الأهمية والقيمة، أو عدم توافق معاييره الخلقية والفكرية مع المعايير السائدة في المجتمع أو النظام القائم؛ فيحصى فعلاً بالشعور( ) بالاغتراب، ولكن الحقائق دائمًا نسبية؛ فالاغتراب الذي يحس به هذا الشخص هو بالنسبة لوضعية شخص آخر هو العكس تمامًا؛ فالفقراء مغتربون في عالم الأغنياء، والأغنياء غرباء في نظام الفقراء، والعلماء يحسون بالغربة بين الجهلة، والعكس صحيح.
غير أنني أعتقد -بمنظور شامل- أنَّ الاختلال بين المطامح والواقع الفاسد هو الذي يخلق هذا «الاغتراب» فترةً قبل أنْ يتحول إلى «تمرد».
خذ مثلاً كالشعب العربي يرى في ماضيه ملامح حضارة عظيمة، ويدفعه حاضره إلى تبني مبادئ تقوده إلى أن يطمح في أن يكون بمستوى العصر تقدمًا وتقنيةً، ولكنه يرى الواقع من حوله يموج بالانحلال والتخلف والتفكك والضعف. هنا- كما أعتقد- تغلب على شرائح من الناس ظاهرة الشعور بالاغتراب (الغربة في الوطن)؛ وهو نوع من اليأس. أمَّا بالنسبة لشرائح أخرى، فإنه يوجد بشكل تمرد؛ لأنه يواجه بالرؤية الواضحة للأسباب والعلل في حركة التاريخ، وكيفية مغالبة الأقدار المفروضة بالأساليب العلمية القائمة على وضوح النظرية موضحة التطبيق بتراص وتكتيل وتنظيم قوة العدد الأعظم من الشعب؛ وهكذا تصبح مقولة الاغتراب هذه مجرد شعور عارض سُرْعان ما يذوب تحت وهج الحقائق العلمية الثابتة.
• الثقافة اليمنية عبر العصور هل قدمت شيئًا يُذكر للفكر الإنساني؟ وبالتالي ما هي الشروط الموضوعية والذاتية لنجعل ثقافتنا إنسانية نساهم مساهمةً فعالة في الفكر الإنساني؟
التراث الثقافي لليمن مثله مثل النقوش بالنسبة للحضارة اليمنية؛ كلاهما- في نظري- لم تنجز بعد مهمة اكتشافه وجمعه وتقييمه. وقد ساهمت اليمن منذ الجاهلية كما تسمى بنوابغ الشعراء، ومنذ القرون الهجرية الأولى بأفذاذ في مجال التأليف في مختلف الفنون، سواء الأدب، أو التاريخ، أو الفقه، أو العلم الطبيعي، أو الطب. وتكفي الإشارة إلى المؤرخ الحسن بن أحمد الهمداني، وإلى عبد الله بن أسعد اليافعي صاحب «مرآة الجِنَان»؛ أهم مراجع الأدب والتاريخ، وإلى محمد بن أبي بكر الشِّلي ومؤلفاته في مجال العلوم، ولكن من الواضح أنَّ هذا التراث الثقافي هو جزء من التراث الثقافي العربي العظيم، ويصب في خضمه ويدين له.
وللأمانة العلمية، فإنه لا تتوفر لدينا حتى الآن المواد الكثيرة من هذا التراث الثقافي اليمني بسبب من الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي عانقها اليمن وخلال حقبة طويلة من العزلة التي عاشتها في ظل هذه الأوضاع؛ ولذلك لا تستطيع المقارنة بين التراث الثقافي الموجود الآن فعلاً لليمن، والتراث الثقافي للعراق أو الشام أو مصر أو الأندلس؛ حيث ظهر أئمة المذاهب الفقهية والدينية وعلماء الكلام وإخوان الصفاء والفلاسفة والمتصوفة والباحثون الاجتماعيون والعلماء الطبيعيون والأطباء ونقلة علوم اليونان والفرس والهند؛ وكلهم لهم إنتاج ثقافي غزير ذو وزنٍ عالمي كبير بسبب من طبيعة هذه البلاد ومكانتها من العالم واحتكاكها بثقافات وحضارات الأمم الأخرى. ومن لكَ مثلاً بابن خلدون، وابن رشد، وابن عربي، وابن سينا، وابن البيطار، والإدريسي، والكندي، والمسعودي، والمتنبي ما بين فيلسوف، وصوفي، وشاعر، وجغرافي، ومؤرخ، وطبيب، وعالم… إلخ.
وأنا إذ أقول التراث الثقافي أعني طبعًا الإنتاج المكتوب المكتشف حتى الآن لليمن، ولا أعني التراث الحضاري الذي يكتشف تدريجيًّا؛ فيعبر عن حياة متقدمة لدول اليمن القديمة قياسًا على الأمم المعاصرة لها المجاورة، سواء في العمران، أو طرق الري والزراعة، أو طراز المعيشة والحياة عمومًا.
وطبعا هذا التقدم لتلك الدول اليمنية القديمة لا بُدَّ وأن يرافقه تراث ثقافي إلا أنه لم تفِ به النقوش الموجودة كأداة للكتابة، أو بالأحرى ليس موجودًا ولم يُكتشف بعد.
ونحن نتحدث عما بين أيدينا من مادة محسوبة وموضوعة للدراسة وللتقييم، وليس عما هو مغيب أو مفترض.
أمَّا الجواب عن الشِّق الثاني من السؤال: ما هي الشروط الموضوعية والذاتية لنجعل ثقافتنا إنسانية تساهم مساهمة فعَّالة في الفكر الإنساني؟ فهو سؤال هام وجدير بأنْ يكون في حد ذاته مستقلاً.
والحقيقة أنه لولا الإطالة للإجابة على هذا السؤال؛ لوضعت له مقدمات ليستطاع على أساسها الخروج منها بنتائج، أو لتقدمنا بتساؤلات عما يقصد بالثقافة الإنسانية؟ أو ما يعني بالشروط الذاتية والموضوعية لمساهمة ثقافتنا في الفكر الإنساني؟ وعلى أساس تحديد المفاهيم يكون الحور أو الرد.
لكني أُجْمِلُ الرد فأقول: إنَّ الثقافة اليمنية ضمن الثقافة العربية هي إجمالاً إنسانية؛ فإذا كان يعني بالثقافة ما أنتجه الفكر العربي من إنجازات في مجالات الحقيقة والقيم والجمال والتعبير (العلم والفلسفة والدين والأدب والفن)؛ فللثقافة اليمنية رصيد مرموق في هذا المجال ضمن التراث العظيم للثقافة العربية التي عُرِفَت عبر التاريخ بخدمة الإنسانية، وتنوير دروبها المظلمة بالمعرفة والتآخي البشري.
وقَلَّ أن سُمِعَ صوت نشاز يشم منه التعصب أو التفاخر، إلا في حالات فردية عارضة من ردود الأفعال ضد الدعاوى الشعوبية التي أسميها الاتجاهات الانفصالية عن الثقافة العربية، والتي تنطلق من التعالي العنصري على العرب، أو حالات تقتضيها ظروف التحريض ضد هجمات الغزو الأجنبي؛ فيشتد تسليط الأضواء على صفحات مشرقة من سِفْر الحضارة العربية بأسلوب عاطفي بتجميد الأبطال الذين صنعوا النصر، وحققوا المعارك الحاسمة في الكوارث القومية؛ وهذا أسلوب طبيعي في مشروع تتبعه كل الأمم في آدابها.
وعلى هذا الأساس سلَّمنا بأنَّ الثقافة اليمنية في حد ذاتها إنسانية؛ لأنها تعبر عن إنسان قضى معظم تاريخه فقيرًا مغتربًا مضطهدًا مكافحًا لا عنصريًّا ولا فاشيًّا ولا رجل دولة كبرى أو إمبريالية؛ فإنه في هذا الوضع بالذات قد تهيأت له ظروف موضوعية وذاتية لتكون ثقافته مهما كانت شكلاً، ولها خصائصها القومية المحلية؛ فإنها في مضمونها إنسانية.
أمَّا كيف تساهم مساهمةً فعالةً في الفكر الإنساني، فمن ناحية المستوى أو القيمة العالمية فالمسألة مرتبطة بمدى التقدم العلمي عامة الذي تجتازه البلاد، وبعوامل أساسية ترتبط بنوع نظام الحكم الذي يعيش فيه المثقف، وما يشعر به فيه من كرامة وثقة وأمن وديمقراطية ومواطنة حقيقية.
إنَّ كُتَّابًا وأدباء في بلدان عربية قد أخذت دُوْر النشر العالمية تترجم إنتاجهم منذ الثلاثينات، بينما آخرون لم ينتجوا شيئًا للأسباب التي ذكرتها.
أمَّا من ناحية المضمون، فالمضمون أيضًا يتعلق في بعض المجالات بمد الازدهار الاقتصادي؛ وبالتالي بمدى التقدم العلمي والحضاري للشعب، ولكنه يرتبط كذلك باعتبارات لمدارس فلسفية وعلمية وسياسية مختلفة، ولكن مهما تكن هذه الاعتبارات، فإنَّ الأهداف الصحيحة في نظري لمساهمة الثقافة الفعالة في الفكر الإنساني هي المقدرة الفنية شكلاً، واعتبار الإنسان غايةً، وليس وسيلةً ومضمونًا.
وفي كل الأحوال، فإذا قُدِّر للإنسان العربي في اليمن أن يشهد نهضةَ ازدهار اقتصادي ينتج عنها بالضرورة تقدم علمي في ظل نظام حكم تقدمي ديمقراطي؛ تكون وجدت الظروف الذاتية والموضوعية للإنسان اليمني الآمن على نفسه وعلى حريته أنْ يساهم بثقافة فعالة في الفكر العربي؛ وبالتالي في الفكر الإنساني.
(للحوار بقية).
(1 ) نشرت هذه المقابلة في مجلة «اليمن الجديد»؛ يونيو 1976، العدد الثاني، السنة الخامسة، من ص74-82.
( 2) الفنون جنون، وضاح عبد الباري طاهر.
(3 ) كذا وردت! ولعل صواب العبارة: فيحصل فعلاً الشعور بالاغتراب.