همسة رجب سحر الكرسي

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

ذ.محمد كندولة

 

 

دخلت الزاوية،وسرت نحو السارية،وعيني على كرسي صغير، فبادر أحد الإخوة ،ومد إلي كرسيا طويلا، كبيرا، قائلا : خذ هذا كرسيك فقلت : أريد كرسي القصير،لأن الكرسي العالي،يجعلني بارزا،وسهلا لسهام الرماة ،القساة، الذين لا يراعون في الناس إلا ولا ذمة،فقال: مادام كرسيك ثابثا، فلا تخف، ولا تخش أي أحد قد يطلق عليك لسانه، سمع أحد الإخوة وكان دائما يسبقنا إلى السارية ، ويحتل مكانا في الزاوية، فقال: وهل هناك كرسي ثابث، فكل الكراسي متحركة اليوم؟
سؤال جوابي دقيق، وملاحظة في محلها من رجل بالسياسة خبير، وبالتقدير جدير ،الأمر الذي جعلني أتساءل عن الكرسي؟ معناه اللغوي والاصطلاحي؟ هل ذكر في القرآن الكريم والسنة النبوية؟ هل هناك فرق أو فروق بين الكرسي والعرش؟ هل تحدث عنه الشاعر والسياسي والخطيب ،وهم الذين أعدموا الفيلسوف اليوناني الشعبي سقراط؟ وتساءلت كذلك عن إيجابيات الجلوس على الكرسي، وسلبيات الابتعاد عنه؟ وهل هو كرسي واحد أم هي كراس متعددة؟
فرجعت إلى القرآن الكريم أولا فوجدت أنه مذكور مرتين ، في قوله تعالى ” وسع كرسيه السموات والأرض ” وقوله جل شأنه” ولقد فتنا سليمان، وألقينا على كرسيه جسدا ” ورجعت إلى السنة ثانيا، فوجدت أنه مذكور في أحاديث صحيحة، وضعيفة، وموضوعة، اخترت منها هذا الحديث الذي رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال:” كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خشبة يستند إليها إذا خطب، فصنع له منبر كرسي،فلما فقدته الخشبة، حنت حنين الناقة،حتى سمعها أهل المسجد، فنزل إليها، فاحتضنها فسكنت”
كما تغنى الشعراء قديما وحديثا بهذه الوسيلة العجيبة، يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي:
وكرسي مزخرف بالذهب
تحت قباب مزخرفة بالزبرجد
كما أشار نزار قباني أن الكراسي مستودع الشقاوة والأحزان:
كرسي فارغ يضم شقواتنا
وظل لأحزاننا وشقواتنا
وعلى منواله قال غسان كنفاني
جلست على كرسي ارتجم
وما علمت بأنه كرسي لأحزاني

الكرسي في اللغة معناه مشتق من كرس، وتعني جلس وقعد، واصطلاحا، فهو قطعة من الأثاث مصمم للجلوس،كما يعني مجازا،المنصب و الوظيفة والمقر والمركز، وقد يعني السلطة والحكم والقيادة و الزعامة، والكرسي والعرش، هما أثاثان مختلفان، لكن الأول بسيط للجلوس والثاني فهو أثاث فاخر ، ومزخرف ، يستخدم عادة كمركز للسلطة والقوة ، فالكرسي يستخدم في الثقافات الحديثة، أما العرش فيستعمل في الثقافات التقليدية الملكية، نقول عرش الملك، وعرش البابا.
وللكراسي إيجابيات وسلبيات، فمن الإيجابيات، دعم الظهر ، وترويح الجسم، وتحسين وضعية العمود الفقري، بالتقليل من الألم، فعلى الكرسي يحس الجالس بالراحة فيركز أكثر، ويقل توثره ، كما يشعر بالثقة التامة ،فيسهل عليه التفاعل الاجتماعي والتواصل الإداري ، كما يحسن العلاقات بين الأفراد و الجماعات، والدول و الهيآت ، ولهذا تصبح الكراسي معشوقة كل من ركبها ، ومحبوبة كل من امتطاها، فيصرف على البقاء في حضنها الغالي والنفيس.

ومن سلبياتها، حدوث خلل في الظهر، ومشاكل في العظام،كما تسبب الاكتئاب لمن يطيل الجلوس عليها، فيظهر الملل و يعيش المرء في عزلة، متوثرا، الشيء الذي يسبب في نقص التفاعل الإجتماعي، والاتصال بين الأفراد و الجماعات، كما يؤثر على العلاقات الإجتماعية والإنسانية، ولهذا لا يعجب المرء من إصرار البعض على التمسك بها، كالكرسي السياسي، أو كرسي الدولة أو الحكومة والبرلمان والوزارة، لكن عندما يسحب هذا الكرسي منه بسلطة ، أو من قيادة أو زعامة أو من وضعية ما، حينها يدخل السياسي في نضال لاسترجاع ما ضاع منه، ومقاومة من سحبوا منه هذا المنصب أو ذاك المقام، وقد ضاعت منه الثقة وغاب الدعم ، وافتقد المكتسبات والغنائم التي جمعها في فترة الجلوس.و ينسى عشاق الكراسي أنها لعب موسيقية وترفيهية، تكرس للإعتراف، ككرسي الإعتراف، التي يساءل فيها الناس بعضهم بعضا، كما أن هناك لعبة كرسي القنبلة ، وتبدأ بكرسي واحد، فيتسارع اللاعبون للجلوس عليه، ثم هنا لعبة الكراسي المتنقلة، ولعبة الكراسي والقفز ، ولعبة الكراسي والجري، وكلها ألعاب تدور حول من سيجلس على الكرسي الهدف،إما جريا،اوفقزا أو نطا، أو حبوا، أو سباقا بالأسئلة والاجوبة.

هكذا ارتبطت الكراسي بالجد والهزل والكرم والبخل، والنعمة والنقمة، أي موضوع تنافس بين من رأوا أهمية الكراسي في توفر الراحة والإثراء غير المشروع، وهو الصراع المعروف بين المعارضة والموالاة، بين من يجلس على كرسي القيادة يشقق للنعمة طرقا، ويعارضه شعاره:
قد اجلسوا الأخشاب على الكراسي
ما أشبه الأجناس بالانجاس.
خرجنا من الزاوية وتركنا السارية، فسالت صاحبي : هل عدد الكراسي يوازي عدد السكان؟ فأجاب صاحبي: لا ، لا يمكن أن يكون عدد السكان يساوي عدد الكراسي.
فنطق الحكيم: نعم العددان متساويان. قلت : نعم ولعلك قست عدد الهواتف بعدد الكراسي وعدد السكان.

إيطاليا تلغراف

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...