الاعتداء المادي على المِلكيّة الخاصة: تشريح الأزمة البنيويّة في الجسد القانوني للدولة

إيطاليا تلغراف

 

 

 

* الدكتور عَبْدُ اللَّه شَنْفَار

 

رجل العِرْض المغربي؛ يحدد حياته في ثلاث تحديات، حيث يحمي ويْمُوتْ: على مْرَاتو؛ وعلى أولادو وعلى بْلادُو.
* في تشريح المفارقة الدستوريّة:
 كيف تتحول الدولة من حارسة وحاميّة للقانون إلى منتهكة له، وهي التي تفترض فيها السيادة أن تكون التجسيد الأمين للمشروعية؟
 هل نمارس السلطة باسم القانون، أم باسم أنفسنا ونحن نختبئ خلف القانون؟
 هذه الاسئلة لا تختزل إشكالية الاعتداء المادي على الملكية الخاصة في بعدها الإجرائي فحسب، بل تفتح الباب أمام تشريح أزمة بنيويّة في تصور السلطة ذاتها.
 إن الممارسات الإداريّة التي تضع اليد على العقار خارج المساطر القانونية ليست مجرد انزلاقات عابرة، بل هي أعراض لانزياح جوهري في فلسفة الدولة الحديثة، حيث تتحول المصلحة العامة من مفهوم قانوني مقيد إلى سلطة مطلقة تتجاوز الدستور ذاته.
* أولاً: تشريح الانزياح الدستوري: عندما تتحول الضمانة إلى تهديد
 يضعنا الفصل 35 من الدستور المغربي أمام معادلة واضحة: الملكية حق دستوري، ونزعها لا يكون إلا بالشروط والإجراءات التي يحددها القانون.
لكن مع الأسف الشدي؛ الممارسة الميدانية تكشف عن تحول جوهري في هذه المعادلة، حيث تتحول الدولة من ضامنة للحق إلى مصدر للتهديد عليه.
 هل يمكن فهم هذا الانزياح بمعزل عن التحول في طبيعة السلطة ذاتها؟ أم أننا إزاء تحول في بنية الدولة من كيان قانوني إلى كيان تنفيذي صرف، تذوب فيه الضمانات الدستورية أمام منطق الإنجاز والسرعة؟
 تشير الوقائع إلى أن بعض الإدارات تتعامل مع الدستور كعائق إجرائي يجب تخطيه، لا كإطار مرجعي يجب الالتزام به. هذا التحول لا يمثل مجرد خرق قانوني، بل يعبر عن أزمة في التصور الدستوري للسلطة ذاتها.
* ثانياً: المصلحة العامة كاستثناء مؤسس: نحو تفكيك المقولات التبريرية
 تتحول المصلحة العامة في خطاب بعض الإدارات من مفهوم قانوني مقيد إلى سلطة مطلقة تعلو على الدستور. هذا الانزياح المفاهيمي ينتج ثقافة مؤسساتية جديدة، حيث يصبح الاستثناء هو القاعدة، والتجاوز هو الممارسة المعتادة.
 لكن السؤال الجوهري: أليست المصلحة العامة الحقيقيّة تكمن في احترام القانون ذاته؟ أم أننا إزاء تحول في مفهوم المصلحة من خدمة الصالح العام إلى تبرير إرادة السلطة من خلال سلك الطريق السيارة لتحقيق المنفعة العامة؟
 تشير التحليلات السوسيو-قانونيّة إلى أن توظيف المصلحة العامة كذريعة للتجاوزات لا يضعف الحقوق الفرديّة فحسب، بل يهدم أسس الشرعيّة التي تقوم عليها الدولة ذاتها. فالمشروعية لا تستمد فقط من القدرة على تحقيق التنميّة، بل من الطريقة التي تتحقق بها هذه التنميّة من خلال استباحة ممتلكات الناس.
* ثالثاً: التشريح السوسيو-قانوني للتمزق الاجتماعي
 لا يمكن اختزال آثار هذه الممارسات في البعد القانوني الصرف، بل تمتد إلى تمزق النسيج الاجتماعي واهتزاز العقد الاجتماعي. فكل اعتداء مادي على الملكية هو في الجوهر اعتداء على رابطة الثقة بين المواطن والدولة.
 كيف يمكن قياس التكلفة الرمزيّة لانهيار الثقة في المؤسسات؟ وما هي الآثار الطويلة المدى لتحول الدولة من حامية للحق إلى منتهكة له؟
 تشير الدراسات إلى أن الخسارة المادية قابلة للتعويض، لكن الخسارة الرمزيّة المتعلقة بالثقة والمشروعية تترك ندوباً عميقة في العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتؤسس لثقافة من الشك والريبة تهدد أسس العيش المشترك.
* رابعاً: تشريح الضمير المؤسساتي: نحو أنثروبولوجيا السلطة
 تكشف هذه الممارسات عن أزمة ضمير مؤسساتي، حيث تتحول السلطة من أداة لتحقيق القانون إلى غاية تتجاوزه. هذا الانزياح الأنثروبولوجي في علاقة المؤسسة بالقانون يحتاج إلى تشريح مختلف، يتجاوز التحليل القانوني الصرف إلى تحليل ثقافة المؤسسة وسوسيولوجيا الممارسة الإدارية.
 هل يمكن فهم هذه الممارسات بمعزل عن التحول في الثقافة الإدارية؟ أم أننا إزاء تحول جوهري في مفهوم الوظيفة العمومية ذاتها، من خدمة الصالح العام إلى تحقيق الأهداف بغض النظر عن الوسيلة؟
* خامساً: نحو إبيستيمولوجيا دستورية جديدة
 لا يكفي العلاج في تعديل القوانين أو تحسين المساطر، بل يحتاج إلى تحول جوهري في التصور الدستوري للسلطة ذاتها. هذا التحول يتطلب إبيستيمولوجيا دستورية جديدة، تعيد تعريف العلاقة بين السلطة والحق، وتؤسس لثقافة مؤسساتية تجعل من احترام القانون قيمة جوهرية وليس مجرد واجب شكلي.
 كيف يمكن بناء وعي دستوري يجعل من القانون إطاراً حياً في الممارسة اليومية للإدارة؟ وما هي الآليات الثقافية والتربوية التي يمكن أن تسهم في ترسيخ هذه الثقافة؟
ختاماً: السؤال المصيري حيث تبقى الإشكالية الجوهرية:
 هل يمكن لدولة أن تبنى تنميتها على أنقاض المشروعيّة؟ وهل يمكن للقانون أن يحافظ على هيبته حين تكون المؤسسات المنوط بها تطبيقه أول من يتجاوزه؟
هذا السؤال لا يخص الجانب القانوني فحسب، بل يمس جوهر وجود الدولة ذاتها كمشروع حضاري يقوم على احترام الكرامة الإنسانية والحقوق الأساسية.
فالتنمية الحقيقيّة ليست تلك التي تتحقق رغم القانون، بل تلك التي تتحقق من خلاله وبواسطته.
هل تستطيع دولةٌ أن تبني تنميتها على أرضٍ لم تحترم فيها حقّ الملكية؟
 وهل يمكن للقانون أن يظل مرجعًا أعلى حين تتجاوزه المؤسسات التي يفترض أن تجسّده.

* نبذة موجزة حول الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّه؛
مفكّر وباحث مغربي متخصّص في العلوم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وناشط في الرصد والتحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي.
له عدة إسهامات فكريّة ومقالات تحليليّة ترصد التحوّلات المجتمعيّة وتقدّم قراءات نقديّة للتحديات الراهنة في المغرب والعالم العربي والإسلامي، من أبرز مؤلفاته: الإدارة المغربية ومتطلبات التنمية (2000). الفاعلون المحليّون والسياسات العموميّة المحليّة (2015)، والفاعلون في السياسات العموميّة الترابيّة (2020).

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...