ذ.حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية.
لم يكن كلام الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن تهجير الفلسطينيين، من قطاع غزّة تحديداً، إلى مصر والأردن اعتباطياً، خصوصاً بعدما كرّره في مناسبتين مختلفتين، وأجرى اتصالات مع عمّان والقاهرة لدراسة سبل تطبيقه. هو عودة عملياً إلى مخطّطاتٍ كان يرمي إليها الرئيس الأميركي في ولايته السابقة، وسمّيت حينها “صفقة القرن”.
والصفقة كانت تتحدّث في ذلك الحين عن تمدّد قطاع غزّة إلى داخل الأراضي المصرية في سيناء، وبناء مدن صناعية تخلق فرص عمل لسكان القطاع. كانت الفكرة تقوم على تبادل أراض في إطار تسوية شاملة (في نظر ترامب)، لكن التبادل وتوسيع مساحة الدولة الفلسطينية المفترضة كان على حساب مصر وليس إسرائيل. ورغم رفض الصفقة، وسقوطها ضمناً مع نهاية الولاية الأولى ترامب، إلا أن فكرة المدينة الصناعية والميناء في سيناء بقيت قائمة، ونُفّذ جزءٌ كبيرٌ منها على أرض الواقع في المنطقة المحاذية للعريش في شبه الجزيرة المصرية. غير أن مخطّط ترامب هذه المرّة بعيد كل البعد عن الهدف الأساسي الذي طرح من أجله “صفقة القرن”. فإذا كان الحديث وقتها عن الصفقة بأنها تأتي في إطار “تسوية شاملة”، فإن لمخطّط التهجير اليوم أبعاد استثمارية واقتصادية في ذهن الرئيس الأميركي.
لم يحاول ترامب إخفاء هذه الأبعاد حين تحدّث عن القطاع بوصفه مشروعاً عقارياً، إذ رأى أنه “يمكن إعادة بناء غزّة بطريقة مختلفة. هم يملكون طقساً متميزاً وموقعاً خيالياً على البحر ولا يمكن لحماس أن تديرها”. هذه ليست المرّة الأولى التي يُنظر فيها إلى قطاع غزّة بأنه استثمار عقاري من أشخاص مقرّبين من ترامب، إذ سبق أن تطرّق صهره، جارد كوشنير، وهو عرّاب “صفقة القرن”، عن “الإمكانات القيمة للغاية” للواجهة البحرية للقطاع بشرط “طرد إسرائيل المدنيين من هناك وتطهير المكان”. وكان كلام كوشنير في برنامج متلفز تابع لكلية كنيدي في جامعة هارفرد في مارس/ آذار الماضي، وليس خلال ولاية ترامب الأولى، ما يعني أن الرئيس الأميركي يحمل الفكرة معه قبل الدخول إلى البيت الأبيض، ولم ينتظر كثيراً قبل محاولة تنفيذها.
لاقت الخطّة التي عرضها ترامب على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وملك الأردن عبدالله الثاني معارضة من الطرفين، لكن هذا من غير المرجّح أن يمنعه من الضغط بوسائل مختلفة لمحاولة تطبيقها. ما يعرضه ترامب اليوم مشابهٌ لما حاولت إسرائيل تنفيذه في بداية العدوان على غزّة، بالحديث عن نقل سكان القطاع “مؤقتاً”، إلى سيناء إلى حين انتهاء العمليات العسكرية. و”المؤقت” موجودٌ أيضاً في خطّة ترامب، ويربطه بانتهاء عمليات إعادة الإعمار في القطاع، والتي من الممكن أن تستغرق سنوات، وبذلك يتحوّل “المؤقت” إلى أمر واقع دائم.
إصرار ترامب على تنفيذ مخططه بأي شكل كان عبر عنه مبعوثه لشؤون الرهائن، آدم بوهلر، والذي نقلت عنه القناة 12 الإسرائيلية مطالبته مصر والأردن بـ”تقديم بدائل” بعد رفضهما تهجير سكّان قطاع غزّة إليهما، موضحاً أن ترامب “عرض خياراً يراه مناسباً لمصر والأردن، لكنه منفتحٌ على خيارات أخرى”.
بالنسبة للأميركيين اليوم، الكرة في ملعب القاهرة وعمّان لتقديم بدائل لطريقة ومكان التهجير الذي يبدو ترامب متمسّكاً به. وإذا كان لا بد من خيارات أخرى، ربما على مصر والأردن إعادة رمي هذا الحمل على إسرائيل، فإذا كان المشروع مؤقتاً لماذا لا تتحمّل دولة الاحتلال تبعات استقبال سكان غزّة، خصوصاً أنها المسؤولة عن تدمير مدنهم ومخيماتهم وبيوتهم.
لكن بكل الأحوال، لا يتوقّف الأمر على مصر أو الأردن، حتى لو وافقا على أفكار ترامب الجنونية، فإن مشاهد الفلسطينيين العائدين من جنوب إلى شمال قطاع غزّة تمثل تحدّياً لترامب، وتأكيداً على استحالة تنفيذ مثل هذه المشاريع التهجيرية، فالإبادة الجماعية التي شهدها القطاع لم تنجح في ثني الفلسطينيين عن التمسّك بأرضهم وقضيتهم، وبالتالي لا شيء آخر سينجح.