تأملات في الرؤى الشعرية للفنان نوري الراوي

إيطاليا تلغراف

 

 

 

جاسم عاصي
كاتب عراقي

 

 

بين اللوحة والشعر، ثمة مشتركات بطبيعة الحال، لعلها تتجسد في البلاغة الشعرية. فالرائي يكتشف شعرية اللوحة بالمراقبة، والقارئ يُدرك تشكيل القصيدة ونمط بنائها وعمارتها. من هذه البديهية يمكننا التأكيد على ما جاء به عنوان المداخلة. غير أننا حين ندرك، إننا بملاحظاتنا التالية، نتابع فعلا نصا شعريا للراوي، تتولد لدينا القناعة بأن الشعر يتداخل مع التشكيل، من خلال عناصر كثيرة، لعل الرؤى المتولدة مركزها. القصيدة نـُشرت في جريدة «صوت الأحرار» عام 1955، حيث كان الراوي يُحرر صفحتها الفنية. وهي قصيدة مرسلة كما ذكر في التقديم الذي احتواه كراس (فولدر) من إصدار جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين عام 2011. والكراس مزدوج الصفحات، أي في الصفحة الشعر واللوحة. لذا ستكون قراءتنا للنصين معا، والقراءة ستكون كلا على انفراد، حرصا على ما ادعيناه بالشعرية في النصين.

الاستهلال.. بنية تطلع وفكر وتاريخ
يبدأ الكراس باستهلال أجده مهما على صعيد ما عكسه من رؤى الراوي للواقع، وما اهتم من خلاله بمفردات الذاكرة، التي هي الأساس في تقويم النص، لأن الذاكرة تـُعيد مبنى الرؤية الجديدة، بما يُسهم في بلورة نوع من الجدلية بين الحاضر والماضي.
يبدأ الاستهلال بحكاية قديمة عن بيكاسو استلها من مقدمة دليل المعرض العالمي (الفنانون والسلام) عام 1953 مفادها: أثناء احتلال باريس، وحينما زاره أحد ضباط الجيش النازي، وسأله عن لوحته الشهيرة (جورنيكا) قائلا: هل أنت فعلت ذلك؟ أجابه بيكاسو قائلا: لا.. أنت الذي فعلت ذلك. وفي هذه الإجابة التلقائية المبنية على ذكاء من جهة، وتراكم كمي من جهة أخرى، مقابل تلقائية الضابط من خلال سؤاله. فبيكاسو يعني التاريخ وصُنـّاعه، أي التاريخ الدموي والمنحرف عن خط الحياة. لذا بذكائه الفطري والمكتسب معرفيا، استغل الفرصة ليعبّر عن رؤيته لما جرى، إضافة إلى ما رسم، وبذلك حقق كينونة جديدة لذاته، أي شجاعة مبدئية، وبالتالي بلاغة شعرية. أما الراوي فقد حقق الاثنين معا، لأنه ربط الماضي بالحاضر، لاسيّما بما أتت عليه المقدمة ـ الاستهلال ـ كما سنرى. من هنا وجدنا ما احتواه التقديم من نوع يؤكد جدية ما تلاه من شعر وتشكيل. إذ إنهما شكلا رؤية الراوي وقدرته على تقريب المستويين من التعبير. فنحن نستند في هذا على ما قام به الراوي في استعادة ما كتبه في الماضي، ليكون أداة تعبير عن الحاضر. وهذه بطبيعة الحال ضربة ذكية في التعبير. إن هذا الاصطفاف بين نص سابق ونصوص تشكيلية حاضرة، يعني أنه بما تناولته القصائد نوع من المواءمة بين زمنين.

فالقول: أنت الذي فعلت ذلك، يعني مباشرة الذي سأل، قاصدا آلتك العسكرية التي لا تـُميّز بين الأشياء سوى الانتصار المزيف، فالحرب هي حرب حتى لو كانت حرب تحرير، فهي أداة قتل ودمار. من هذا ينطلق الراوي في استعادته لهذا الحدث المروي له بالقراءة. وهو أيضا إجابة ضمنية لما لحق بالعراق من دمار ما زال متواصلا بفعل الاحتلالات المتعاقبة عبر التاريخ. يبدأ الراوي استهلاله بـ(تعاقب في الغياب) وهذه العبارة القصيرة تضمر الكثير، وحصرا فجائع الغياب للأقربين، والأبعدين من الأصدقاء. وما أكثرها ليس في تاريخ الراوي، وإنما في تاريخنا جميعا، لأنه يلحق العبارة هذه بجملة عبارات تؤكد الفجيعة، وصعود مؤشر الألم في (بتنا نراوح بين اللوعة الكتيمة)، ولعلها عبارة أكثر بلاغة وضامرة لمعاني كثيرة، مركزها الفاجعة، وليس غيرها.
هذه الرؤى لا تشمل الوطن فحسب، بل أنه يعني بها الكون والوجود البشري، متمثلا في (شيخوخة الكرة الأرضية)، ولكي يمنح أسلوبه مناخا شعريا، فإنه يستعير المفردات ليوظفها لصالح التعبير الأكثر بلاغة مثل (من خلف جدار الصمت الداكن ) وهي صفة أضفى من خلالها لونا على الصمت، وهو الدكنة. وهي لا تعني الكثافة فحسب، وإنما التراكم الكمي جراء المواجع البشرية. فنظرته للواقع في العالم، نظرة أممية ـ إنسانية، فهو لا يُبعد الأجزاء عن الكليات، بل يضع سببا ونتيجة، علة ومعلولا. إن هذا الأسلوب هو مقدمة شعرية، لما سوف يليه من ممارسة شعرية رؤيوية. فالصمت الذي أشار إليه أضفى عليه بلاغة نوعية أخرى في (كفن هذا الوجود المستباح) فكفن دال على الموت بطبيعة الحال، لكن ما هو السبب الذي دفع القائل إلى أن يصل لديه التعبير إلى هذا الحد؟
نرى أنه أشار إلى ذلك بـ(هذا الوجود المستباح) وهي عبارة مكتفية بذاتها، والأهم في ذلك تأكيدا، في أنه وجود مستباح، والكلمة هنا ذات دلالات واسعة معنى وتاريخا، كما سنرى في لاحق هذا التعبير البليغ. يحاول في ما يلي ذلك أن يضعنا أمام حقيقة، اعتصر مكوناتها الذهن متمثلا بالعقل وليس العاطفة. هذه الحقيقة التي مفادها (أننا ما زلنا محكومين بقوة قاهرة غادرة لا ترحم). وهذا التصور الذي هو نتيجة بحاجة إلى دليل. والدليل الذي يقدمه من خلال تعبيره في (وجودنا المترنح.. أن نحذف من تصوراتنا.. الدوران الكوني المدّوخ)، هذه العبارات تـُحيل إلى التاريخ لمعرفة الأسباب التي أدت إلى مثل هذه الحالات. لا شك أنها السبب الذي دعاه إلى إعادة نشر هذه القصيدة وبمقدمة كهذه، ونعني هو تعاقب الاحتلالات منذ أكثر من خمسمئة سنة. ونحن مكبلون بآلية العقل الغربي. لذا نجده ـ أي الراوي ـ يسترسل لكي يُقدم الدليل على ما يقول، وهو (هكذا بدأنا منذ مطلع القرن الآفل نتناولها بالجرعات، ونتشرب آثارها المريعة بالمسامات).

بعد هذا نجده قد توصل إلى قناعات مطلقة لا رجعة عنها، لأنها بنت وجودها بالملموس والمعيش والمرئي الذي أنتج الفواجع والتخلف في كل شيء، فقوله (إن إله سبينوزا لن ينقذنا من هذا المصير المأساوي الذي هندسه العقل الغربي على مقاسات شعوب العالم الثالث) وهنا لا نؤمن مع الراوي بنظرية المؤامرة، بقدر ما أن ثمة عقلا غربيا يُخطط للإمساك بالعالم خلال وعبر أوجه مختلفة يعرفها المثقف ذو الوعي المدرك لحركة الوجود ومتغيراته. وتكون القناعة هنا مبنية على حقيقة مجرَبة وليس متَصورة مفادها (أن ترديد نغمة السلام، لم تكن إلا فصلا من كوميديا بشرية هازلة، لأن السلام بدأ يلتهم ذاته، ويتغذى من شعلته) حد تعبير الراوي.
يحاول الراوي أن يربط الأزمنة بالتطورات اللاحقة، أي السابق باللاحق. وهو يكتب عن الظروف التي ولّدت القصيدة هذه (رشاش النواعير ) يُشير إلى حسن النية التي كان جيله يتحلى بها، مؤكدا أن ثمة اشتعالا سيعم هذا الكون، وقيامة ستقوم حيث تـُقدم إلى الشعوب بـ(سيليفون) مصانع ما بعد الحداثة، ومموهة بألف شعار خادع كاذب!). ويعلل بالمنطق لِمَ اختار عنوانا رومانتيكيا لقصيدته، ولم يختر كلمة السلام لها عنوانا، ذلك ليجنبه محنة الوقوع في الفخ، حيث ينتظره سجن (نقرة السلمان). آخذا بالعبرة التي منحها إياه صديقه الفنان رشاد حاتم الذي قضى ثمانية وعشرين عاما في تلك المباءة. لكنه لكي يعمق التعبير الذي عكس أهمية علاقته بالفنان وهو ينعته بأستاذي، عمد إلى أن يركز في التعبير أكثر ذاكرا (حين تخرج منها، كان يحمل جسد نصف إنسان). إنها الحكمة المترتبة مما مضى. وهو إذ يُشير إلى السبب في نشر القصيدة الآن، إنما ليؤكد تواصل القهر والذوبان والمحو والمصادرة وسد الآذان عن حقيقة الإبداع والثقافة والخلق. والاكتفاء بما من شأنه تعطيل العقل عن القيام بفعالياته. فهو يؤكد أن القصيدة تسلط الضوء على زاوية مهجورة من ماضينا. غير أنه يستجيب للجوّاني من إدراكه للحقائق، في ربط الحاضر بالماضي بذكر مقولة الحلاج: (يا صوت الحق، أما من وجهٍ يحمل صدق الكلمــــة؟).

رشاش الناعور… قصيدة الألم الإنساني

بعد المقدمة من القراءة، التي أجدها ضرورية، لأنها تؤسس مفتاحا لقراءة القصيدة، في ما تحتوي من إشارات ذكية، ومعنية بمجريات التاريخ والواقع. فهي تفتح للقراءة مجالا واسعا، بعد ذلك نحاول أن نتمثل ما عنته القصيدة من عوالم، وما توغلت فيه من ألم إنساني كوني من فنان رائد. القصيدة من الشعر المرسل كما أطلق عليه الراوي ـ القصيدة المرسلة ـ وكأنه يعني ويتلاءم مع ما نعنيه نحن الآن بـ(قصيدة النثر). في هذا لا يعنينا المبنى للنص، بحيث نلاحق مكونه الفني ـ على أهميته ـ وإنما نلاحق ما يكشف عنه النص من رؤى تتداخل مع رؤى ومكونات اللوحة التشكيلية. وكأنه أراد بذلك، أن ينظر إلى ما يرى ويدرك ويحس من خلال اللغة هذه المرة، غير أنه أبقى رؤاه الفنية، التي تتحكم فيها الخطوط والألوان. والعنوان (رشاش النواعير) يضم بين حناياه مجموعة قصائد ـ رؤى ـ تعكس ما كان يشكل ضغطا على الإنسان والمبدع حصرا آنذاك. وهي تقترب كثيرا من الرؤى الحالية التي تداخل المثقف والمبدع والإنسان أيضا. فكأنه قدم نبوءته في ما مضى، وأراد لها الآن أن تقول ذلك عبر نشرها الآن. وهذا ما تفترضه القراءة. في نص (نـُذر العاصفة) يكون الخطاب موجها إلى ما يثير حساسية الإنسان، ويُحدث مقاربة بين ضجيج الخارج والآخر في الداخل. فإذا كانت العاصفة ما يعصف بالواقع، فإن عاصفة الرأس أشد منها. لذا ليس من المعقول أن يكون المرء بين عاصفتين. من هذا يكون الخطاب:
( ذريه يهدأ قليلا،
هذا الرأس المثقل بالأهوال)
ومن هذين البيتين، نجد قوة الضغط الموجع، ونلمس الأثر والتأثير، لاسيّما في سياق النص، حتى يصل به إلى مخاطبتها، عاكسا معرفته بما تضمر من وظائف:
(لكأن الزمان، قد حملك على منكبيه،
مذبوحة الصوت، مرعبة الوجه،
بنتُ ظلام لا قاع له،
أيتها العاصفة )

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...