عثمان أوبريك
على خلفية صورة كاريكاتورية على موقع هسبريس بتاريخ 22 أكتوبر الماضي، حول موضوع التوحد والمدرسة، تحيل على أن عائق الأطفال التوحديين الذين يواجهونه بالمؤسسات التعليمية هو التوحد، على شكل كلمة “التوحد” مربوطة طفل محاولا الاتجاه نحو على التمدرس، هذا الخلل في تناول موضوع التنوعات النمائية العصبية داخل المدرسة، وتحدياتها وكيفية بناء نظام تعليمي شامل إدماجي لكل أشكال النوعيات النمائية المختلفة على عكس فكر نظام المدرسة الحالي ذات التوجه الأحاديّ الذي يركز على طريقة التفكير والتعلم للأشخاص معياريي النوعية دون عن التنوعات المغايرة منها التوحد، مما يبيين أن هناك غياب لثقافة الاختلاف والوعي بها في ما يتعلق بتنوع طرق التعلم والتفكير .
لما لا يعرف التوحد أو من يعرف بطيف التوحد هو نوعية نمائية مغايرة تقوم على أساس خصوصية الشخص فما يتعلق بالتواصل والتفاعل الاجتماعي، السلوك النمطي المتكرر، الحساسية المفرطة، الاهتمامات المحددة، كلها انطلاقا من طبيعة التفكير والتصور المتسلسلين، مما يكون طبيعة شخصية مختلفة عن أقرانه معياري النوع.
ثم من المهم جدا لتبني ثقافة التنوع العصبي، يجب فهمه، فهو يتحدد ضمن التنوع والتعدد البشري على أساس النوع النمائي العصبي، أي منظومة عمل الدماغ البشري وفق لكل نوعية تتجسد من ناحية السلوك والتواصل والإدراك والتعلم، النوعية المعيارية هي النوعية التي تتناول الأمور بطريقة ضمنية ولا تحتوي على خصوصية محددة تقوم عليها، والنوعيات الغير معيارية هي مجموع النوعيات النمائية التي لها خصائص محددة في طريقة تناول الدماغ، تلعب فيها الحواس دورا مهما بشكل أساسي، لكن منها ما تعتمد بشكل رئيسي على ما هو بصري ومخيالي (التوحد، ديسليكسيا، ديسبراكيا، ديسكالكوليا، تأخر ذهني ) مما يجعل تناول المعطيات يتسلسلية وغير قابلة لوضعها في حالة المعيارية كما هنا ما يعكسها في تناولها كل الألوان (الحس المرافق)، أو حتى من الناحية الجسدية والعقلية معا كالتثلث الصبغي.
فمن الضروري بشكل عام، أن مجالات التعلم والتواصل والفهم والإدراك والتفكير والسلوك والتناول الحسي ، لا تقوم على “مرجع عام حتمي” شامل لكل الناس ليتبعوه، بل هي تختلف من شخص لآخر وفق لمعايير معينة منها النوعية النمائية، لكونها ذات دور محوري في تكوين شخصية كل فرد على حدة، لكن الإشكالية أن التعاقد الاجتماعي و البنية التي أقيمت عليها المجتمعات الإنسانية لم تتهيأ لتلك التنوعات بل أحاديا لذوي النوعية المعيارية بحكم كونهم “الأغلبية”، ووضع النوعيات الأخرى في وضعية حمل لعبئ الإندماج والتكييف الكامل و إلغاء خصوصياتها، باعتبارها “إعاقات حسية، عقلية وذهنية” و”مشاكل ذاتية” تستدعي الحاجة إلى العلاج، على الرغم أن التكييف والإندماج لا يمكن إلا حين تكون من كل الأطراف، مما يدل على عدم القدرة على تدبير وإدراك مسألة التعددية النمائية العصبية وتقبلها كجزء أساسي من التنوع البشري، مما يؤدي إلى تفاوت اللامساواة بين الأفراد على أساس النوعية النمائية مما يؤثر سلبا على قيم العدالة والمساواة .
لعل المدرسة هو أحد أهم الأوساط التي تكون نواة المجتمع بجانب الأسرة والشارع، ويضم كل التلاميذ والطلاب من مختلف الخلفيات والخصوصيات الاجتماعية، الثقافية، الدينية، الطائفية و النمائية في اطار تربوي، تعليمي وأكاديمي، فيفترض أن تكون ملائمة و شاملة لجميع على أساس المساواة والعدالة المجالية النوعية مما يمكن من خلالها الترسيخ لمبادئي تكافؤ الفرص والحرية.
بخصوص التنوعات النمائية وسط التلاميذ والطلاب، يتطلب بناء وعي وعقلية تقوم على مبدأ تعدد أشكال عمل الدماغ البشري أي التنوع والتعدد في كل أشكال السلوك، طرق التعلم و الاكتساب، طرق التفكير والتصور، أساليب التخييل، التي تستوجب الاعتراف، القبول، التكييف المتبادل والتعايش، مما يسهل التواصل والتفاعل الإجتماعي، يوسع درجات الوعي والتعاطف بين الأفراد مما ينهي منطق “الأحكام الجاهزة” الأحادية التي تنطلق من المنطق الطبي التي ترتكز على “العلاج” لاعتبار تلك الأشكال النمائية “عيوبا” أو “اضطرابات” أو “مرضاً”، كما قامت جريدة هسبريس بتمثيله على الكاريكاتير المذكور (“التوحد و التمدرس”)، فيعكس حقيقة وضعية الطلاب والتلاميذ مغايري النوعية في اطار منظومة تعليمية غير ملائمة لخصوصياتهم بل حكر للطريقة معيارية النوع، مما يظهر ويبين على أن نوعيتهم هو بمثابة عبئ و عائق لتمدرسهم وسبب فشلهم الدراسي، رغم أن في الحقيقة هذا عائد بتفاوت واضح لتلائم البرامج الدراسية والأكاديمية من الدروس والامتحانات بين التلاميذ والطلاب معياري النوع ومغايري النوع.
لهذا يستدعي أولا أن يقوما النظام التعليمي بكل مستوياته والمجتمع بكل فئاته والأسرة بالتحسيس و التوعية و بناء وسط مبني على الاختلاف النمائي العصبي بين الأطفال والشباب من معياري النوع ومغايري النوع (توحديين، ديسليكسيين، ديسبراكسيين، ذوي التوريت، ذوي الحس المرافق، ذوي الانتباه المحدد، تثلثي الصبغيين ….) وحول خصوصيات كل نوعية على حدة، توفير وسط متعدد طرق التعلم والاكتساب والتعامل و التواصل داخل الوسط الاجتماعي عموما والمدرسي خاصة، كما حتى ايداع ملائمات داخل الانشطة الاجتماعية والثقافية والتعليمية تكون في محل الجميع أي كل شخص وفئة حسب خصوصياته النمائية، ثم بناء مقاربة اجتماعية وتربويّة متكاملة تضم كل التلاميذ والطلبة من مختلف تلك التنوعات مما سيسهم في إظهار كفاءات وقدرات وتعبيرات معرفية ،عقلية، فكرية، اجتماعية، سلوكية و عاطفية متعددة و متنوعة مما يعكس بطبيعة التنوع البشري، مما يكسر طبيعة أحادية المنظور حوّل التعلم، السلوك، التفكير، التصور و التواصل مع بنية تدبيرها.
فنفتح هنا نقطتين رئيسيين وجب تناولها في موضوع تعليم شامل للأطفال والشباب من نوعيات نمائية متعددة خصوصا المغايرين نمائيا، وهي كالتالي :
أولها مسألة “المرافق” التي لا تعد سوى نوع من فرض الوصاية الاجتماعية والأخلاقية عليهم كما مس بإستقلاليتهم الشخصية وكينونتهم ، فتقوم بعض المدارس سواء العمومية و الخاصة بفرض ذلك على أبائهم وأمهاتهم شريطة الموافقة على التسجيل، بغض النظر على أنه تكريس التمييز النمائي بين التلاميذ على أساس “العادي و المعاق” كما انتهاك حقوقهم في التعلم، يكون تحت ذريعة “عدم القدرة على تلبية احتياجاتهم الخاصة” على الرغم أن الإحتياجات الانسانية هناك العامة التي تشمل الجميع والخاصة التي تتحدد في كل شخص وتختلف إلى أخر ليس على أساس نوعيته النمائية، “تأخير مسار التعلم” رغم أن المنهجية المعتمدة في المدرسة الحالية غير قائمة على العدالة الأكاديمية و النوعية، ثم أن تأخير مسار التعلم تكون اثر عدم التوازن في عملية تكوين وتعليم التلاميذ والطلاب كما انعدام تكافؤ الفرص والمستويات بينهم وليست الخصوصية النمائية بحد ذاتها، وأيضا ذريعة “لا للمعاملة الخاصة” بمعنى التعامل معهم بطريقة خاصة عن بقية التلاميذ والطلبة الأخرين المعياريين، هذه ذريعة أكثرها شعبوية من منطقية، كما هي لا تفرق بين احترام ومراعاة الخصوصية النمائية لكل تلميذ (النوعي المعياري والمغاير على حد سواء) مع شملها بوئام وحفاظ على الجميع في أرضية مشتركة شاملة، والتعامل بشكل متفاوت بين التلاميذ، واضعين هذه الذريعة يتخدوها تبريرا لفرض المنظومة التعليمية الأحادية المعيارية على الطلاب والتلاميذ المغاييرين (منطق حكم الأغلبية :بمعنى أن “الأقلية” النمائية المغايرة يجب أن تتكيف مع منظور “الأغلبية” المعيارية النوع حتى لو كانت لا تتماشى مع خصوصيتهم)، هنا من خلال تلك الذرائع التي تبرر تهميش وعدم مراعاتها لوجود تلاميذ وطلاب يختلفون في النوعية النمائية كما غياب إرادة في الملائمة لجميع النوعيات النمائية يتم فرض “المرافق” كتكريس للتهرب من التعامل معه وفق لخصائص نوعيته ضاربا عرض الحياة كونه شخص له وجود و كينونة.
ثانيا، ملائمة الدروس والامتحانات أي ما يسمى ب”التكييف” التي تستدعي ملائمة محتويات الدروس وطريقة ايصالها لكل تلميذ وطالب من كل النوعيات النمائية المعيارية والمغايرة، من ناحية أساليب وطرق التعامل في الشرح والتوجيه والتعامل التي تختلف من حالة لأخرى، بالحفاظ على مستوى المساواة والعدل وتكافؤ الفرص، في اطار احترام التعدد والتنوع في أشكال الإحتياجات التعليمية حسب طبيعة النوعية النمائية، (للإشارة لا نشير إلى “المعاملة الخاصة” عل حساب الأخرين بل ارساء التعددية والتنوع في أشكال وطرق التعلم على نفس المستوى)، يعتمد على الإستعانة بالحواس الخمس أو احداها حسب الطبيعة النمائية لكل نوع سواء معياري أو مغايير، كما اعتماد على طرق الربط سواء بالجداول، الخطاطات، وغيرها، واستخدام الصور، فهم طريقة تصور وتفكير كل تلميذ وقابلية التواصل الفردي والجماعي، لا سيما كذالك عن ضرورة ربط النظرية بالتطبيقات في كل مادة حسب خصوصيتها، أي اعتماد طرق متعددة تتناسب مع كل فئة من التلاميذ والطلبة حسب النوع النمائي مع الحفاظ على تماسك الجماعي للفصل، لهذا دور المدرسة هي توفير بيئة اجتماعية وتعليمية تشمل جميع التلاميذ بتنوعهم النمائي كما التربية على تكوين وعي مستقل وشخصية منفردة مع الحفاظ على التماسك الجماعي للتلاميذ، أي “التنوع داخل الوحدة”، و “الوحدة في التنوع”.
ثم عن “الامتحانات” التي نجد طامتها في كونه عبئ يمر على المتعلم بدلا أن يكون اختبار للمفاهيم والمهارات المكتسبة بسبب عامل “النقط” التي قد تؤثر على مساره وعدم قابلية الفرصة لإعادة اجتيازه (أي قابلية الحصول على فرصة لاستدراك ما تغافل وتجاوزه من أجل الحصول على درجة أعلى من قبل) لاستدراك ما فاته (علما أن في المراحل الاستدراكية للامتحانات في التعليم العالي تنقيطها ظلم كبير في حق الطلاب من ناحية توزيع النقط، فتلك تختصر سوى على نقطة المعدل 12 أو 10 حسب المؤسسة، دون تكافؤ الفرص في الحصول على الدرجة الكاملة)، في حالة المتعلمين المغايرين نمائيا في ظل نظام لا يراعي لخصوصياتهم وأحادي الجانب المعياري، يجدون صعوبة بالغة في الحصول على اختبارات وامتحانات تتماشى مع خصوصياتهم الخاصة ووفق لطبيعتهم النمائية، مثلا بخصوص الامتحانات التي تعتمد على الكتابة تختلف عن ناحية طريقة التعبير والأسلوب حسب كل شخص وطبيعة نوعيته النمائية لهذا خلال التصحيح يجب الخروج من التصور والتفكير المسبق في تعامل مع ورقة كل طالب (حالة الطلبة معياري ومغايري النوع المتمكنين من الكتابة) ، كما أنها ليست ملائمة خصوصا لفئة من المغايرين نمائيا لان التعبير الكتابي المطول يتعارض مع قدراتهم، فلهذا يستدعي الأسئلة المباشرة سواء بالإجابة الكتابية المباشرة أو الأجوبة المتعددة الإختيارات مع الربط بين الكلمات والمصطلحات للإشارة لمعناها والمقصود منها، كما الاستشهاد بالصور كجزء من السؤال نظرا لما تلعبه الثقافة البصرية بشكل رئيسي وأساسي في بعض النوعيات المغايرة (التوحد، ديسليكسيا، نوعية الانتباه المحدد…..)، كذالك حسب كل حالة نوعية نمائية بخصوصيّتها المتعلقة بكل طالب حسب كيفية الاكتساب، الإدراك، التفكير، التصور، والتطبيق، انطلاقا من طبيعة نوعيته.
فلهذا يكون يكون المعيق الرئيسي لتعلم وتمدرس التلاميذ والطلبة ذوي النوعيات النمائية المغايرة، هو الاتجاه الأحاديّ للمنظومة التعليمية المنصبة للمعياريين Neurotypicals، وانعدام الوعي والبيئة الخصبة للثقافة التعددية النمائية العصبية مما ينتج عنه عدم وجود ارضية مشتركة لكل التلاميذ والطلبة من مختلف النوعيات النمائية، كما النظرات والإسقاطات الدونية والنمطية والإحسانية على المغايرين نمائيا Neuroatypicals، التي تشكل السبب الرئيسي في تكوين هذه الظاهرة حول ربط المعيق في النوعية المغايرة نفسها كنوع من الوصم (التوحد ،الديسليكسيا، نوعية الانتباه المحدد……) بدل تناول الموضوع من أساسه، ليظهر منه نوع من التنافر بين المعياريين والمغايرين مع نقص التواصل الفعال والتفاهم المطلوب، لهذا يتم فرض نوع من الوصاية الاجتماعية على المغايرين (مسألة المرافق، الحجز بداعي “الجنون”)، أو فرض عليهم التماشي مع الوسط المعياري النوع ضربا لخصوصيتهم النمائية عرض الحائط (التهميش، التعرض للتنمر، الرفض) وإلا يتم استخدام مفهوم “المعاملة الخاصة” كنوع من تخجيل الخطاب المطالب لاحترام الخصوصية النمائية المغايريية لتلك الفئة من المجتمع (المختلفين نمائيا)، مما نفهم أن الكاريكاتير الذي عرض على هسبريس لا يعد سوى انعكاس مباشر لظاهرة الجهل والنظرة النمطية على التوحد كنوعية مغايرة نمائيا، خصوصا ما تحتويه من ضرب لكون الإنسان التوحدي شخص ذات وجود بعقل، شعور، و روح كأي إنسان آخر.
مما نطرح موضوع التنوع العصبي على أنه مجال تعدد أشكال النمو العصبي المحدد للسلوك، التفكير، الإدراك، التصور،و الاكتساب، منها في التعليم الذي من المفترض أن يكون فضاءا عاما ذات اتجاه كوني وشامل لجميع أفراده تلاميذ وطلبة من جميع أنحاء التعددية النمائية، لعل ما تبيين الإشكالية حولها بالدرجة الأولى هو الجهل المركب حولها كما عدم الأخذ عين الاعتبار وإدماج الخصوصيات النوعية النمائية المختلفة في الأعراف والتقاليد الاجتماعية كما طريقة التعبير عن القيم الإنسانية، التي يجب ان تتجرد من منطق الأحادية والمجردة، خصوصا في التعليم الذي هو أساس المجتمع والدولة، مما نطرح السؤال التالي:
متى سنتمكن من تجاوز النظرية النمطية والإسقاط الأحاديّ على النوعيات النمائية المغايرة؟ وجعل تعليمنا منفتح و مندمج يقوم على أساس التعدد و التنوع النمائي ان كنا فعلا نتحدث عن العدالة المجالية وتكافؤ الفرص والمساواة وتقبل الاختلاف ؟