مصطفى عطية جمعة
كاتب مصري
عندما اندفع العرب حاملين راية الإسلام، واللسان العربي في الأقاليم المفتوحة؛ استقبلتهم شعوبها، فلا نكاد نتقدم زمنيا بعد مرور قرن من الزمان، في هذه الأقاليم والبيئات، حتى نجد اللغة العربية قد ملكت ألسنة الناس وقلوبهم، في أنحائها القريبة والبعيدة، وكان هذا تطورا خطيرا حدث فيها، إذ أصبحت شعوبها جميعا عربية اللسان، والتفكير والشعور، والثقافة والأدب والحضارة، وقد اختلفت خطوات إسراعها إلى التعريب باختلاف مواقعها من الجزيرة العربية، فكان أسرعها تعرّبا العراق والشام، حيث كانت اللغات السامية منتشرة، وعلى رأسها السيريانية؛ تترك مكانها، وتنزوي في الأديرة وإلى بيئة الصابئة في حران، ثم تعربت مصر، وشمال افريقيا بشكل تدريجي، لتتكون في النهاية الأمة العربية في قلب العالم الإسلامي.
أما عن اللغة العربية وتأثيرها على الثقافات والمجتمعات، فإن العربية أضحت لغة الحضارة الإسلامية المعتمدة، وظهر في عصور الإسلام أصحاب اللسانيَنِ، الذين أجادوا العربية مع لغاتهم المحلية. وكما يقول أحمد عتمان عن انتشار اللغة العربية في أنحاء العالم الإسلامي، وتوغلها في الحياة الثقافية: «كانت الدولة العباسية تمتد من حدود الصين وأواسط الهند، شرقا، إلى المحيط الأطلسي غربا، ومن المحيط الهندي والسودان جنوبا، إلى بلاد الترك والخزر والروم والصقالبة شمالا، وبذلك كانت تضم بين جناحيها بلاد السند وخراسان، وما وراء النهر، وإيران والعراق والجزيرة العربية ومصر والأندلس، وهي أوطان كثيرة، وبقاع شتى، وكان يعيش فيها منذ القدم شعوب متباينة، في الجنس واللغة والثقافة، غير أنها لم تكد تدخل في نطاق العروبة، والإسلام، حتى أخذت عناصرها المختلفة؛ تمتزج بالعنصر العربي امتزاجا قويا، فإذا بنا إزاء دولة عربية، تتألف من أجناس مختلفة، وقد مضت هذه الأجناس تنصهر في الوعاء العربي الإسلامي، حتى غدت كأنها أمة توحّدت».
فكلمة السر في الحضارة الإسلامية هي الإسلام ثم العروبة، فبهما ينضوي الشعب تحت لواء المسلمين، وإن شاء الاحتفاظ بديانته ولغته الأصلية فذلك من حقوقه، فهو في النهاية في مظلة العالم الإسلامي، بفكر إنساني مفاده – على حد قول برهان زريق – التدامج مع الشعوب كافة، فالبعد العالمي عنصر أساسي في تكوين الأمة الإسلامية، فمحمد (صلى الله عليه وسلم) جاء ليختتم مرحلتي العائلة والقبيلة، وليبدأ طريق البشرية العالمية الشاملة، ومن هنا تكتسب العروبة شخصيتها المركزية في إطار عالمية الأميين العرب (يقصد العرب الذين لم يكن لهم كتاب منزل من قبل)، كقوة مستنبطة لكل الحضارات، ولكل الأعراف ولموقع الوسط في العالم، خاصة أن القرآن الكريم حمل عالمية الخطاب، بدعوة الرسول (ص).
لقد زحفت العربية وانتشرت، ولكنها لم تدخل صراعا مع لغات الأعاجم، بل سعى المسلمون إلى الاستفادة من علوم الحضارات السابقة، التي كُتبت بلغات أعجمية، فازدهرت حركة الترجمة ونسخ المخطوطات، وأنشئت لها مراكز موزعة في مدن عديدة. وقد حافظ عليها العرب الفاتحون، واستفادوا منها ومن مترجميها، ومن أبرز هذه المراكز: أنطاكية، ودمشق، وبصرى، والرها، ونصيبين، وحران، والحيرة، وجنديسابور، ومرو، وهي دالة على أن الحضارة الإسلامية كانت حضارة حافظة لتراث السابقين، ومؤلفاتهم. وهو ما ينبغي التوقف عنده تفصيلا، والنظر إليه في الدراسات الحضارية، ونحن ننظر إلى دور الحضارة الإسلامية بوصفها حضارة وسيطة، فمدينة «جنديسابور» على سبيل المثال، كانت مدينة تاريخية في الأهواز عُرِفت مدرستها كمركز ثقافي في عهد الإمبراطورية الساسانية، وحوت تراث الهند، وتراث الإسكندرية، وقد أقيمت حولها مصانع السكر، الذي أحضره كسرى من الهند بوصفه دواءً، كما أنشئت فيها مدرسة للطب، وبجوارها مستشفى، ومدرسة للفلك، ومرصد، وكانت الرياضيات مرتبطة بدراسة الفلك على النظام السكندري. وكانت لغات التخاطب في المدينة هي السريانية، والفارسية، والإغريقية، وبمرور الوقت اختفت الإغريقية، وسادت السريانية، ولكن المترجمين العرب في العصر العباسي، قاموا بترجمة ما حوته كتبها في الطب والفلك والرياضيات، وتبقت الترجمات العربية، ومنها انتقلت للحضارة الغربية.
وعن ذلك، يشيد غوستاف لوبون في كتابه «حضارة العرب» بعدل العرب وسياستهم في حكم الشعوب، فيقول: «كان يمكن أن تعمي فتوح العرب أبصارهم، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين، ويكرهوهم على اعتناق دينهم، الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم..، ولكن العرب اجتنبوا ذلك، فقد أدرك الخلفاء السابقون الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة؛ أن النظم والديانات ليست مما يُفرَض قسرا، فعاملوا أهل مصر وسوريا وإسبانيا، وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم، تاركين لهم قوانينهم، ونظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة في الغالب، إذا قيست بما كانوا يدفعونه سابقا في مقابل حفظ الأمن بينهم. فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينا سمحا مثل دينهم». فلا شك أن سياسة كهذه في قيادة الأمم، ستكون سبيلا بعد ذلك لوئد الفتن، فنار الصراعات تشتعل عندما يغيب التسامح، ويعم القهر والاستبداد، وتثور الشعوب ضد محتليها من الأمم الأخرى.
وقد ظل كثير من علماء السريان على دينهم المسيحي، وعملوا بجد مع العلماء المسلمين، فأجادوا اللغة العربية، إجادتهم السريانية، وقد ركز المسلمون على ترجمة علوم الطب والفلسفة وغيرها، ودعّموا من أجل ذلك المترجمين السريان، وكانت اللغة السريانية بمثابة الجسر اللغوي بين اليونان والفرس، ومن ثم ورثت العربية هذا الدور، لأنها ببساطة كانت اللغة المركزية للحضارة الإسلامية، ونشدد هنا على أنها لغة الحضارة التي ليست في حالة عداء مع اللغات الأخرى، سواء كانت لغات محلية، أو لغات الحضارات الأخرى.