تحرير الإنسان بين وهم القيود وسلطة المعايير: بلال الحبشي رمز التحرر..

إيطاليا تلغراف

 

 

 

* الدُّكتُور عَبْدُ اللَّهِ شَنْفَار

 

 

تقديم المقال من طرف ذ. عبدالله مشنون:
مقال فضيلة الدكتور عبدالله شنفار؛ ذو قيمة فكريّة عالية، ويجمع بين التحليل التاريخي والنقد الثقافي والبعد الشخصي، مما يجعله نصًا غنيًا ومثيرًا للتفكير. لغته قويّة وأسلوبه مشوّق.
المقال يعالج قضية عميقة تتعلق بتصحيح المفاهيم والمعايير الاجتماعية والثقافية، مع ربطها بتاريخ العبودية والتحرر.
الفكرة الجوهرية للمقال تدور حول ضرورة تحديد “مساحة المشترك من القيم” لإعادة بناء العلاقات الإنسانية بعيدًا عن العنصرية والتمييز.
* عمق التحليل: المقال لا يكتفي بالسرد التاريخي، بل يقدم تحليلًا نقديًا لكيفية تعامل المجتمعات مع مفاهيم الحرية والعبودية، ويوظف أنثروبولوجيا الثقافة لفهم الظواهر.
* يسجل نقطة نقدية مهمة حول طريقة تعامل المجتمعات العربية مع تراثها مقارنة بالمقاربات الغربية الأكثر منهجية في دراسة “الآخر”.
* يبرز المقال أهمية التصحيح المفاهيمي، خصوصًا في المؤسسات الأكاديمية التي تراجع الخطاب اللغوي وتعيد النظر في المصطلحات المتداولة.
* القيمة الإضافية: المقال يقدم للقارئ رؤية موسعة لمفهوم العبودية والتحرر، تتجاوز الصور النمطية. ويعكس قدرة الكاتب على الربط بين الحاضر والماضي في تحليل قضايا الهوية والتمييز. يسلط الضوء على دور الموسيقى والروحانيات، مثل گناوة، كوسيلة لتحرير الذات وإثبات الهوية، يعطي المقال عمقًا ثقافيًا إضافيًا.
_____
– بين الماضي والحاضر، هل تغيرت معاييرنا؟
في عالم سريع التغير، حيث تتداخل الثقافات وتتقاطع المصائر، يظل سؤال العدالة والإنصاف حاضرًا بقوة. فكيف يمكننا إعادة النظر في معاييرنا القيميّة؟ كيف يمكننا التحرر من إرث التمييز الذي مازال يطل بظلاله على واقعنا؟
من المؤذن بلال الحبشي، الذي حرره الإسلام من العبودية وأصبح رمزًا للصوت الإنساني الداعي إلى المساواة، إلى لاعب كرة القدم البرازيلي فينيسيوس، الذي لا يزال يواجه التمييز بسبب لون بشرته، نجد أنفسنا أمام ضرورة مراجعة قاموس المفاهيم التي تحكم تعاملنا مع الآخر.
– الهُوية بين الإرادة والقدر:
أنا عبد الله، لم أختر جنسي كرجل ولا عرقي العربي ولا لون بشرتي السمراء؛ لكنني اخترت أن أفكر وأن أتعلم وأن أبني هويتي من خلال خياراتي المعرفية والعقائديّة والثقافيّة.
على طريق عودتي إلى مسقط رأسي، فم زكيد، مررت بزاوية “سيدي بلال”، التابعة من حيث النفوذ الترابي الإداري إلى إقليم ورزازات، حيث ضريح يرمز تيناً بالأب الروحي للحرية في التراث الإسلامي، بلال الحبشي. يوجد هناك وسط واحة النخيل، حيث يتجلى الحنين ونوستالجيا المكان وروحانيته، وكأنها قطعة هربت من الجنة إلى عالمنا المادي.
– بلال الحبشي: أكثر من مؤذن بل رمز للتحرر:
في وعينا الجماعي، يظل بلال الحبشي مجرد مؤذن يدعو وينادي للصلاة، لكن الحقيقة أوسع بكثير من هذا. فبلال ليس مجرد شخصيّة تاريخيّة، بل هو رمز لصراع طويل ضد العبودية والتمييز في أعراف عرب الجاهلية. إنه تجسيد لمحنة أجناس بشرية عانت من الظلم والقهر والحرمان والإقصاء والتهميش.
وحين ننظر إلى تاريخ المغرب، نجد أن هذه المحنة ليست غريبة عن مجتمعنا. من أين أتت جماعة گناوة؟ كيف ارتبط اسم “سيدي بلال” بالروحانيات المغربية؟ ولماذا نختزل قضايا العبودية والتمييز في مشاهد فولكلورية بدل التعمق في جوهرها؟
– من بلال إلى گناوة: مسارات التحرر والمقاومة؛
التاريخ يخبرنا أن العبيد الأفارقة وصلوا إلى المغرب منذ عهد الدولة السعدية، وتركوا بصماتهم العميقة في ثقافته. ومع مرور الزمن، تحول إرثهم من معاناة إلى تعبير ثقافي روحي، كما هو الحال مع موسيقى گناوة، التي لم تعد مجرد فن، بل ذاكرة جماعية محملة بالآلام والآمال.
لكن كيف تعامل الآخر مع هذا الإرث؟ في الولايات المتحدة، حاربت الناشطة هاريت توبمان الرق وساعدت أكثر من 700 عبدًا على التحرر. ورغم ذلك، كانت أصعب معاركها إقناع المستعبَد بأنه حر. وهذا هو التحدي الحقيقي: كيف نحرر العقول قبل الأجساد؟
– إرث التمييز: بين الماضي والحاضر:
حين ننظر إلى العالم اليوم، نجد أن معايير التمييز لم تختفِ، بل تغيّرت أشكالها. في الرياضة، مثلًا، لا يزال اللاعبون ذوو البشرة السوداء يعانون من العنصرية، كما هو الحال مع فينيسيوس جونيور، الذي واجه هتافات عنصرية في ملاعب أوروبا.
ورغم التطور الحقوقي، لا تزال مجتمعاتنا تفتقر إلى رؤية واضحة للتعامل مع قضايا التمييز. فالآخر يدرسنا ويعيد تصحيح قاموسه القيمي، بينما نحن نراوح مكاننا بين التغني بالأمجاد الماضية وممارسة الإقصاء ضد المختلف.
– الحل: نحو تصحيح المفاهيم وبناء قيم مشتركة:
إذا كان بالإمكان تعليم الناس الكراهية، فمن الممكن أيضًا تعليمهم الحب، كما قال نيلسون مانديلا. لكن ذلك يتطلب وعيًا نقديًا، ومراجعة حقيقية لمفاهيمنا.
في الولايات المتحدة، راجعت الجامعات مفرداتها، وأزالت المصطلحات العنصريّة من قاموسها الأكاديمي. فلماذا لا نفعل الشيء نفسه؟ لماذا لا نعيد النظر في مفاهيمنا حول الهوية والانتماء والحرية؟
* خاتمة: إعادة بناء العلاقات الإنسانية:
إن التحدي الحقيقي ليس فقط في نبذ التمييز، بل في بناء علاقات إنسانية متعددة الأبعاد، تقوم على مساحة مشتركة من القيم. تلك القيم التي حررت بلال الحبشي، والتي قد تسمح يومًا لفينيسيوس البرازيلي بالفوز بالكرة الذهبية، ليس فقط بموهبته، بل باعتراف حقيقي بإنسانيته، بعيدًا عن لون بشرته.
لقد آن الأوان لإعادة النظر في قاموس معاييرنا، ليس فقط لتصحيح أخطاء الماضي؛ بل لبناء مستقبل أكثر عدلًا وإنسانية.

إيطاليا تلغراف

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...