لماذا تقتل إسرائيل الأطفال الفلسطينيين؟

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

عبد القادر الفرساوي

 

 

 

من بين كل الجرائم التي اقترفتها إسرائيل في عدوانها المتواصل على غزة، تبرز جريمة قتل الأطفال كأشدها إيلاما وأكثرها تكرارا. ليست حادثة عرضية ولا ضربة جانبية لما يسمونه “أهدافا عسكرية”، بل سياسة واضحة، ممنهجة، تتم عن سبق إصرار وتصميم. فخلال عشرين يوما فقط بعد خرق الاحتلال لوقف إطلاق النار، سقط أكثر من 490 طفلا شهيدا، ليرتفع العدد إلى ما يزيد عن 1350 منذ نهاية الهدنة، في مشهد لم يعد يحتمل التأويل ولا التبرير.
قتل الأطفال في الحروب عادة ما يعتبر تجاوزا كارثيا، جريمة حرب، دليلا على فقدان السيطرة أو انهيار قواعد الاشتباك. أما في الحالة الإسرائيلية، فإن الأمر يبدو مختلفا كليا: كل طفل يقتل هو جزء من عملية محسوبة، اختيار مدروس، رسالة متعددة الطبقات. إسرائيل لا تقتل الأطفال فقط لأنها تقدر على ذلك بلا محاسبة، بل لأنها تؤمن بأن الطفل الفلسطيني خطر مؤجل، لا بد من استئصاله وهو لا يزال ضعيفا، غير قادر على المقاومة، لكنه قد يصبح كذلك في المستقبل القريب.
في العقلية الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، الطفل الفلسطيني ليس بريئا تماما، بل يحمل منذ ولادته بذور العداء. إن تربيته في ظل الاحتلال، وحرمانه من أبسط حقوقه، وتعرضه للقصف المتكرر، تجعل من احتماله للثورة كبيرا، وبالتالي فإن تصفيته تُقرأ كـ :”ضربة وقائية” لأجيال الغضب القادمة. هي قراءة استعمارية بامتياز، لا ترى في الطفل روحا، بل مشروع مقاوم، ولذلك تتعامل معه على هذا الأساس.
ثمة بعد رمزي في قتل الأطفال أيضا. فعندما يقتل الأطفال، فإن ما يستهدف في الحقيقة هو الروح الجماعية للمجتمع الفلسطيني. الطفل هو نواة العائلة، مصدر الفرح والأمل، واستهدافه يحدث انهيارا نفسيا شديدا، يصيب العائلة والمجتمع معا. إنها محاولة لإيصال رسالة قاسية تقول: “لن تفرّوا من الخسارة، حتى وإن تخلّيتم عن المقاومة، فسنأخذ منكم أغلى ما لديكم.”
ولأن الاحتلال يعرف حساسية الطفولة عالميا، فإن قصفه للأطفال يأتي في سياق استثمار خبيث في الاختبار الأخلاقي العالمي. فكلما زاد عدد الأطفال القتلى، وقلّ رد فعل المجتمع الدولي، اعتبر ذلك تفويضا ضمنيا للاستمرار. الصمت هنا ليس تواطؤا فقط، بل تشجيع على الإبادة، بصيغة حديثة، يمارسها جيش يزعم أنه “الأكثر أخلاقا” في العالم، بينما يجرّم الضحية ويُلمّع القاتل.


قتل الأطفال هو أيضا رسالة إلى الداخل الإسرائيلي. فحين يُعرض في وسائل الإعلام العبرية أن غزة تُسحق، وأن أطفالها يُبادون، فإن ذلك يُترجم في عقلية المجتمع المُعبّأ بالخوف والكراهية على أنه “انتصار أمني” يُطمئنهم مؤقتا بأن لا أحد هناك سينهض من بين الركام ليعيد دورة العنف من جديد. لكنها أوهام مؤقتة، لأن الطفل الفلسطيني، حتى حين يُقتل، لا يموت وحده، بل يولد معه جيل جديد من الغضب والذاكرة.
الاحتلال يعرف ذلك، لكنه يراهن على شيء آخر: أن يُنهك الفلسطينيون من كثرة الجنازات، أن تتحول الأم إلى مقاتلة بالبكاء، لا بالولادة، وأن يتعطّل الحلم الجماعي بمستقبل أفضل. لكنه ينسى أن الشعوب التي تفقد أبناءها، لا تفقد إرادتها. وأن دم الأطفال لا يُنسى، ولا يُسامح، بل يُسجّل في أرشيف الضمير البشري، حتى وإن تواطأت الأمم على إنكاره.
من هنا، فإن تركيز إسرائيل على قتل الأطفال ليس انزلاقا أخلاقيا، بل سياسة مُعلنة، تنبع من عمق المشروع الاستعماري ذاته، الذي لم يكن يوما معنيا بالحياة المشتركة، بل بالإبادة الناعمة أو الصريحة، وبإقناع العالم أن الفلسطيني خطر حتى قبل أن يولد، وأن قتله إجراء وقائي “مبرر”.
لكن التاريخ لا يرحم.
والطفل الفلسطيني الذي قُتل، سيبقى حيا في الذاكرة، وفي القصيدة، وفي الشارع، وفي اسم مدرسة، وفي صرخة أمّ، وفي ضمير كل من ما زال يفرّق بين القاتل والضحية.
ومهما تكررت المجازر، ستبقى الطفولة الفلسطينية هي الأجمل… حتى لو دفنوها في العتمة.

إيطاليا تلغراف

 

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...