سؤال النموذج … أو التوحيدي مثقّف عضوي أم لامنتمٍ؟

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.

 

 

يقدّم كتاب محمد همّام “أبو حيّان التوحيدي… محنة مثقف عضوي في الثقافة العربية القديمة” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2025) جهداً معرفياً وفلسفياً مهمّاً في تحليل تجربة التوحيدي وتطوّره الروحي والفكري، ويكشف عمق أزماته النفسية وقلقه الوجودي، وسؤال المعنى الذي سيطر على كتاباته. غير أن أطروحة الكتاب المركزية (اعتبار التوحيدي مثقفاً عضوياً بالمعنى الغرامشي) تفتقر إلى الدقّة، بل قد تكون مُضلِّلة.
على الرغم من أن التوحيدي انشغل بأسئلة جوهرية عن العقل والدين والمجتمع، وترك تراثاً زاخراً يعكس وعياً فلسفياً، إلا أنّ تصنيفه ضمن فئة “المثقف العضوي”، كما حدّدها أنطونيو غرامشي، يبدو بعيداً كلّ البعد عن النموذج الحقيقي الذي يقدّمه. فغرامشي يعيد تعريف المثقّف، لا بوصفه مجرّد ممارس فكري أو كاتب، بل فاعلاً اجتماعياً يشتبك مع الواقع، ويقود عملية التحوّل الثقافي والسياسي، ضمن “حرب مواقع”، تهدف إلى زعزعة هيمنة البنية الطبقية البرجوازية السائدة.

لم يكن التوحيدي مثقّفاً عضوياً، بل مثقّفاً وجودياً غارقاً في مأساته الشخصية

التوحيدي، كما يكشف تحليل سيرته وكتاباته، لم يكن قريباً من هذا النموذج. فهو لم ينخرط في مشروع جماعي واضح، ولم يكن صوته متّجهاً إلى تعبئة الطبقات المهمّشة أو إنتاج وعي مضادّ، بل كان أقرب إلى مثقّف معزول، متألّم، ساخط، ينتمي إلى ذاته، ويكتب من موقع الغربة لا التغيير. هو أقرب إلى ما وصفه عبد الرحمن بدوي بـ”المثقّف الوجودي”، وربّما بدقّة أكبر، ينتمي إلى ما صاغه كولن ولسن لاحقاً في “اللامنتمي”، ذاك المثقّف الهشّ، المتشظّي، الذي لا يجد مكاناً له لا في السلطة ولا ضدّها، ويعيش قلقاً دائماً من الزمان والمكان، يحاور العدم والانتحار والكآبة.
لم يكن التوحيدي مثقّفاً عضوياً، بل مثقّفاً وجودياً غارقاً في مأساته الشخصية. كانت انكساراته نفسيةً بقدر ما كانت اجتماعية. وعلاقته بالسلطة، كما في كتاب “أخلاق الوزيرين”، لم تكن احتجاجاً مبدئياً على الفساد أو الظلم، بل ردّة فعل غاضبة على تهميشه من الصاحب بن عبّاد وابن العميد، ومحاولة لفضحهما، لأنهما صدّاه وحرماه من المكانة التي كان يتطلّع إليها. وهنا يبدو التوحيدي أقرب إلى الشعراء من المفكّرين. أقرب إلى نموذج المتنبّي، الذي ربط علاقته بالحكّام بمنطق المكافأة والهجاء، لا الموقف الإصلاحي، فالمتنبّي، الذي مدح سيف الدولة وكافور، ثمّ انقلب عليهما عندما خذلاه، لم يكن يقدّم مشروعاً ثقافياً مضادّاً، بل ذاتاً تبحث عن المجد، وتنتقم عند الخذلان. وهذا أيضاً ما فعله التوحيدي حين أُحبِط، لا لأن النظام السياسي ظالم، بل لأنه لم ينلْ منه نصيبه.
هذه الأنماط تتكرّر في الثقافة العربية: شعراء وأدباء وفلاسفة شكّلوا علاقتهم بالسلطة بناءً على المصلحة لا المبدأ. نجد ذلك عند ابن الرومي، وبشّار بن برد، ودعبل الخزاعي، وغيرهم. وحتى حين بدا نقدهم حادّاً، فإنه لم ينطلق من رؤية اجتماعية أو سياسية إصلاحية، بل من ذات جريحة، أو مهزومة. ذلك لا يقلّل (ولا يحدّ) من إبداعهم ومكانتهم الأدبية، فللتوحيدي قيمة لا تُنكَر، وهو مرآة صافية لعصره، كاشف لأمراضه، وكتاباته تمثّل ذخيرةً نادرةً من الفكر والتأمّلات التي تتجاوز زمانها، لكن من الظلم له ولصورته وإعادة قراءته وفهم تراثه وشخصيته القلقة، أن يوصف مثقّفاً عضوياً، وأن يسقط عليه مثل هذا النموذج.
وفي الجهة المقابلة، يذهب كتاب همّام بنا إلى أبعد من نقاش نموذج التوحيدي وعلاقته بالسلطة وتحليل خطابه النقدي، إلى إشكالية أكبر وأكثر أهمية تتمثّل في علاقة المثقّف بالسلطة، فقد عرف الفكر الإسلامي نماذج أخرى أكثر تركيباً، مثل ابن رشد الذي جمع بين موقعه مفكّراً وقاضياً وطبيباً في بلاط الموحّدين، وعُرف عنه دعمه للفلسفة في وجه الفكر الفقهي المحافظ، غير أن محنته لم تكن نتيجة مشروع إصلاحي سياسي، كما اجتهد وحاول أن يقدّمها محمد عابد الجابري، في قراءته لسيرة ابن رشد، وتقديم كتابه “الضروري في السياسة” (وهو بالمناسبة اختصار مع ملاحظات لكتاب أفلاطون “الجمهورية”)، بل بسبب تقلّبات السلطة نفسها، ولو أنه نجح في البقاء في ظلّ الحاكم، لما كتبنا عنه بوصفه ضحية، وربّما إذا أردنا أن نقارب بين نموذج ابن رشد وأطروحته الفكرية، التي لم تكن تتضمّن الجانب السياسي، باستثناء ترجمة كتاب أفلاطون السابق وتلخيصه، فهو أقرب إلى تبنّي نموذج “الحاكم المستنير”، الذي يدعم الفلاسفة والتنوير في مواجهة التيّار الاجتماعي الفقهي أو التقليدي، وقد يكون الأقرب إليه في الفكر العربي الحديث الإمام محمّد عبده.

من الظلم أن يُسقَط على التوحيدي نموذج غرامشي للمثقف العضوي

الشيء نفسه مع أبو حامد الغزالي، الذي بدأ مدافعاً عن النظام العباسي – السلجوقي، ثم انسحب لاحقاً، لا في إطار ثورة أو مشروع، بل في إطار تحوّل روحي وصوفي شخصي، وربّما نتيجة حالة القلق الداخلي التي عاشها بعد اغتيال نظام الملك (الراعي الأكبر له)، والخليفة المستظهري، والشعور بالانكشاف أمام فرق الحشّاشين بوصفه الخصم الأيديولوجي لهم. لكن الغزالي، خلافاً للتوحيدي، قدّم مشروعاً متماسكاً يقوم على نقد الطبقة الدينية من علماء الدين بوصفهم جزءاً أساسياً من البلاء، والنظر إلى التصوّف عبر سِفره الكبير “إحياء علوم الدين” بوصفه المذهب الكفيل بإصلاح العلماء وردّهم إلى الوظيفة الاجتماعية والتاريخية المفترض أن يقوموا بها، وهي إصلاح المجتمع، فبإصلاح العلماء تصلح طبقة الحكّام وبإصلاحهم تصلح الرعية.
ثمّة نماذج هائلة متخم بها التاريخ والتراث الإسلاميان: ابن سينا والفارابي وابن حنبل وابن تيمية وابن خلدون، وعلاقة الدولة بالمذهب، والمعرفة بالسلطة والأيديولوجيا، وإن كان هنالك كمّ كبير من الأبحاث والدراسات والكتب والمتخصّصين في هذه المجالات، ولعلّ كتاب عبد المجيد الصغير “المعرفة والسلطة في التجربة الإسلامية… قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة” (دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2010)، أحد الكتب والمراجع المميّزة في هذا المجال، إلا أن هنالك دواعي علمية ومعرفية، وحتى فكرية وسياسية، لتأطير هذه النماذج بسياق أوسع وضمن تصوّر شمولي لها، مع مقاربة ذلك بالواقع العربي المعاصر اليوم، مع الأخذ بعين الاعتبار زوايا التشابه والتباين والاختلاف بين هذه التجارب وحيثياتها من جهة، والواقع الراهن من جهةٍ أخرى.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...