سوريا وإسرائيل: بين الاتفاق الأمني المُرتقب والتطبيع غير المطروح

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

عبد الله مشنون
كاتب صحفي مقيم في ايطاليا

 

 

في خضم التوترات المتجددة بين دمشق وتل أبيب، يبرز تصريح الرئيس السوري أحمد الشرع، بأن المفاوضات الأمنية الجارية مع إسرائيل قد تثمر “في الأيام المقبلة”، مع التأكيد في الوقت ذاته على أن التطبيع الكامل أو اتفاق السلام ليس مطروحًا الآن. فماذا يعني هذا الإعلان؟ وما هي الدلالات الحقيقية التي يحملها من وجهة نظر استراتيجية وسياسية؟

وبحكم متابعتي اليومية للشان العام العربي وقضايا الشرق الأوسط المتشابكة، أؤكد أن ما يجري بين سوريا وإسرائيل هو انعكاس لمجمل التحولات السياسية والأمنية في المنطقة، حيث تتداخل المصالح الإقليمية والدولية وتتغير التحالفات باستمرار. لهذا، فإن الاتفاقات الأمنية التي تُجرى اليوم قد تحمل في طياتها دلالات تتجاوز حدود البلدين، وتشكل مؤشراً مهماً لفهم مستقبل الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط.

أولاً: ما بين الأمن والسيادة

عندما يصرّ الشرع على أن أي اتفاق أمني مع إسرائيل يجب أن يحترم المجال الجوي السوري ووحدة أراضيها ويكون تحت مراقبة الأمم المتحدة، فهو يُلمّح إلى خطوط حمراء لا يُمكن لدمشق أن تتجاوزها. هذه المطالب تعبّر عن رغبة في ضمان عدم تحويل الاتفاق الأمني إلى تنازل فعلي عن السيادة، أو إلى طريق نحو تصفية الحقوق التاريخية، مثل مسألة الجولان أو المواقع الاستراتيجية التي تحتلها إسرائيل منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي.

الاتفاق الأمني قد يكون محاولة دمشق لتثبيت وضع مستقر، لوقف الغارات الجوية والتوغّلات البرية، وتأمين حدودها مع إسرائيل، دون الدخول في التزامات سياسية كبيرة كالتي ترافق اتفاقيات التطبيع. هذا النوع من الاتفاقات الأمنية غالبًا ما يكون “حلًّا تقنيًا” يُستخدم لخفض التصعيد، وليس تغييرا أيديولوجيا في الموقف الرسمي.

ثانيًا: لماذا اليوم وبهذا التوقيت؟

الموقف الإقليمي والدولي: مع اقتراب اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، يزداد الحماس الدولي لرؤية خطوات ملموسة للسلام أو على الأقل لتهدئة الصراع في سوريا. تصريحات الشرع تبدو محاولة لاحتواء الضغوط أو للرد على المبادرات التي تطلب من النظام السوري تقديم إثباتات أو خطوات ملموسة.

الضربات والتوغّلات الإسرائيلية المتكررة: الشرع ذكر أن إسرائيل نفذت منذ ديسمبر أكثر من ألف غارة و400 توغل بري، مما يشكل عبئًا عسكريًا وأمنيًا كبيرًا على الدولة السورية. وفق هذا المنطق، أي اتفاق أمني يُعقَد الآن يجب أن يُعطي دمشق ضمانات بأن هذه العمليات ستتراجع أو تُوقف.

الفرصة السياسية الداخلية: داخل سوريا، نلاحظ أن الحديث عن اتفاق أمني يتزامن مع الحاجة إلى الاستقرار، وكبح الانقسامات والأزمات الأمنية الداخلية التي تدهور الوضع فيها في عدة محافظات، ومنها السويداء. هذا يجعل الشعب والمكوّنات الاجتماعية أكثر استعدادًا لقبول حلول عملية مؤقتة – أمنيًا وإن كان ذلك مع بعض التنازلات – إذا كان ثمنها تقليل المآسي اليومية.

ثالثًا: حدود الاتفاق وأزماتاته

الجولان: ليس موضوعًا بسيطًا أبدا؛ الشرع قال إن من السابق لأوانه مناقشة مصير الهضبة، لأنها “قصة كبيرة”. إسرائيل تؤكد أنها لن تنسحب من الجولان المحتل، مما يجعل هذه القضية عُقدة لكل اتفاق مستقبلي.

شروط إسرائيلية محتملة: من التصريحات التي ظهرت أن إسرائيل قد تطالب بالبقاء في مواقع استراتيجية سيطرت عليها بعد ديسمبر، بما فيها جبل الشيخ. هذه المطالب تؤجّل بشكل فعلي الحديث عن استعادة كل الأراضي المحتلة أو المسائل السيادية الكبرى.

مصداقية التنفيذ: أي اتفاقيات أمنية يجب أن تُترجم إلى إجراءات ملموسة: انسحاب القوات، وقف الغارات، تغييرات معترف بها دوليًا، وربما مشاركة مراقبة من الأمم المتحدة. بدون ذلك، يبقى الاتفاق مجرد نصّ على الورق.

رابعًا: مقارنات وتجارب

الاتفاق السوري الإسرائيلي المرتقب يشبه إلى حد ما اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974، التي أنشأت منطقة منزوعة السلاح. هذه المقارنة مفيدة لفهم رغبة سوريا في التمسك بمنطق الضمانات الأمنية والمراقبة الدولية، وتفادي إعادة تجربة تفاوض تختفي بعدها المطالب وترتخي الضغوط.

لكن الاختلاف كبير: الزمن الآن مختلف، الأطراف الإقليمية والدولية لها مصالح معقّدة ومتداخلة، النفوذ الإيراني، الروسي، الأميركي، دور تركيا وإسرائيل وإسرائيل نفسها باتت تملك قدرات أمنية متقدمة، والتوازنات في الميدان تغيرت.

خامسًا: ماذا يعني التطبيع غير المطروح حالياً؟

هو تأكيد واضح من دمشق أنها ما زالت ترفض الاعتراف الكامل بإسرائيل، أو إقامة علاقات دبلوماسية مفتوحة؛ بأن أي خطوة في هذا الاتجاه ستكون مكلفة سياسياً وشعبياً، خصوصاً أمام من يرى أن التفاوض الأمني بمثابة مدخل للتطبيع الذي يُنكر الحقوق الوطنية.

التطبيع الكامل، كاتفاقيات أبراهام، يتطلب تغييرات سياسية ليست بسيطة: اعتراف بدولة إسرائيل، فتح بعثات دبلوماسية، تبادل سفارة، تعاون في المجالات المدنية والعسكرية. ومع أن بعض الدول العربية قد اختارت هذا المسار، سوريا حتى الآن ترفض الدخول فيه.

إذا ما نجح الاتفاق الأمني في إيقاف الغارات والانتهاكات، حتى لو مؤقتًا، فسيكون بمثابة إنجاز مهم استعجالي لوقف الدم والهجرة والدمار.

لكن السلام الحقيقي والتطبيع الرسمي سيأتيان فقط عندما تُحل القضايا الكبرى: الجولان، السيادة، الحقوق الدولية.

دمشق التي تبحث عن استقرار محلي ودولي، قد تجد في الاتفاق الأمني وسيلة للتخفيف من الضغوط، بينما إسرائيل تسعى لضمان حدودها الأمنية.

في النهاية، مثل هذه التفاهمات تتطلّب ثقة متبادلة – نادرة في الصراع العربي الإسرائيلي – وإلا ستظل الاتفاقات عرضة للتعطيل أو للانتهاك.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...