فاطمة ياسين
كاتبة سورية، صحفية ومعدة ومنتجة برامج سياسية وثقافية
نظر إليّ موظف الجوازات نظرة محايدة: طالعة من 2013؟ … حاولتُ أن أكون ودودة إلى أقصى درجة وأنا أضيف: من الشهر العاشر في 2013. لم تتغيّر نظرة الموظف، ناولني جوازي بعد أن ختمه ونقل نظره إلى المسافر التالي.. كانت تلك لحظاتي الأولى في سورية بعد أكثر من عقد على الغياب، مشاعري متلهّفة ومستعجلة لأرى من ينتظرني على الجانب الآخر من محطّة الجوازات.. توقفت فترة، شعرتُ أنها طويلة، حتى وصول حقيبتي، ثم اتجهتُ إلى باب الخروج لأفاجأ بمجموعة مهولة من الناس يتحلقون حوله منتظرين أقاربهم وأصدقاءهم، ويحمل بعضُهم جوّاله ليصور كل واصل من دون اهتمام لمسألة الخصوصية. رأيتُ من بعيد أهلي وقد زادت أعمارهم كثيراً، الأطفال غدوا شباباً، والكبار ازدحمت تعابير الزمن على وجوههم. انتقلتُ من حضنٍ إلى حضنٍ بسرعة، وأنا أنتظر حضناً كبيراً بحجم الوطن الذي تركتُه قسراً، وعدتُ إليه بعد رحلة سنونو طويلة قطعت فيها مسافةً تقارب طول خط الاستواء مرّتين.
فهمتُ من أفراد العائلة أنهم متفائلون، ولمست الأمر نفسه على وجوه بعض الناس في شوارع الشام، حيث الباعة على الأرصفة والأطفال يتراكضون في كل مكان. وتحدثت مع سائق تاكسي، قال إنه يرى الأمور ذاهبة إلى الأفضل. كذلك أكّد لي بعض المسؤولين الذين التقيتهم، وحتى موظف الجوازات ذو النظرة المحايدة، استطعت أن ألمح فيه شيئاً من التفاؤل، وهو يؤدّي عمله بحياد ومهنية.
وسط هذا الجو، وجدتُ نفسي أشارك المتفائلين مشاعرهم، خصوصاً أني قد شاهدتُ على تلفزيون الإخبارية الرسمي بعض المساجلات التي ما كانت لتحدُث قبل عام. هناك من يتحدّث بهامش واسع من الحرية، وهناك من يتحدّث بهامش أوسع من التحيز، والموقفان موجودان في الشارع، يمكن أن تقرأه في السلوك والحوار العادي، ويمكن أن تجد الموقف المتناقض من شخصٍ واحد، ولكن الكل مجمعٌ على أن الوضع الراهن لا يمكن مقارنته بما كان عليه زمن النظام المخلوع، ردّدتُ في نفسي كلامهم، وأكملت عشرة أيام في كنف إدارة جديدة للبلاد، حاولتُ خلالها أن ألمس التغيير في مفاصل كثيرة.. ولكن ما أعاق حركتي، وجعلني شبه مقيدة، كمية أوراق النقد التي يجب أن أحملها لتأمين حاجاتي اليومية. لم يهتم النظام السابق بطباعة ورقة أكبر من خمسة آلاف ليرة، فجعل الناس مرتبكةً في عدّ (وتخبئة) أموالها التي تهاوت قيمتها إلى ما دون الستة عشر ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، وتعامى بشّار الأسد عن مشكلاته الاقتصادية الكبيرة، وترك “مواطنيه” يعانون ويبتكرون الحلول لمشكلات حمْل المال ونقله. تعدّلت الحالة قليلاً بعد السقوط، ولكنك ما زلت في حاجةٍ إلى صندوقٍ خاص، لتحمل فيه الرزم الضخمة، والتي لا تكاد تساوي شيئاً. رأيتُ الأصابع والأكف تتحرك بخفة ساحر لتعدّ وتكدّس الرزم التي يريد صاحبها دفع ثمن وجبة في مطعم عادي، حالةٌ شديدة الشذوذ واجهها النظام المخلوع بالتجاهل وطرحِ مزيد من الشعارات الوهمية.
لم تكن قصة الأوراق النقدية الكثيرة أكبر مشكلاتي، ولكنني ذكرتُها لأنها عرّضتني لعدة مواقف مزعجة، وربما يكون حذف صفرين من العملة حلّاً معقولاً، بعد أن نعرف منعكساته على السوق المحلي، وقد واجهت تركيا المشكلة نفسها في واحدةٍ من مراحل نموها، عندما انخفضت قيمة عملتها إلى مستوياتٍ قياسية، وأصبح معها من الصعب التعامل النقدي المباشر حين وصلت قيمة الدولار الواحد إلى قرابة مليون ليرة، فحذفت السلطات المالية في العام 2005 ستة أصفار دفعة واحدة. وكان الإجراء موفقاً، وأنجز الاقتصاد التركي وقتها تقدّما لافتاً، حاول المحافظة عليه، رغم بعض التذبذبات والهبوطات اللاحقة.
بقيت لديّ ثلاثة أسابيع سأقضيها في سورية، وأشعر أن الوقت يمضي بسرعة، سأستثمره بالتجوال في بعض المحافظات. ولكني ما زلت أفكر في حل لمشكلة أكداس الورق النقدي الذي لا قيمة له، وورثناه بطريقة جائرة عن نظامٍ بائس.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف