الإدانة الأممية لإسرائيل بالإبادة الجماعية: التداعيات القانونية

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

فضل عبد الغني
مؤسّس الشبكة السورية لحقوق الإنسان

 

 

 

يمثّل قرار لجنة التحقيق الدولية المستقلّة، القاضي بأن إسرائيل ارتكبت جريمة الإبادة الجماعية بحقّ الفلسطينيين في غزّة، نقطة تحوّل في إدانة إسرائيل بموجب القانون الدولي، ما يرتّب تداعيات عميقة عليها وعلى الدول المتحالفة معها. ويثبت التحليل القانوني الشامل الذي قدّمته اللجنة في تقريرها المؤرّخ في 16 سبتمبر/ أيلول 2025 إلى مجلس حقوق الإنسان، عبر أدلة قاطعة، تحمّل السلطات الإسرائيلية مسؤولية الدولة عن ارتكاب الإبادة الجماعية بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. ويُحدِث هذا الاستنتاج تغييراً نوعياً في الالتزامات القانونية المترتّبة على الدول الثالثة، ولا سيما ذات الروابط الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية بإسرائيل. كما أن استنتاج اللجنة بأن أفعال الإبادة الجماعية اقترنت بقصد خاص (أي النية المحدّدة لإبادة الفلسطينيين في غزّة بوصفهم جماعة) يُثير شبكة معقّدة من المسؤوليات القانونية بموجب القانونين التعاهدي والعرفي، لم يعُد بوسع الدول المتحالفة التغاضي عنها من دون مجازفة بتحمّل المسؤولية القانونية.

أوصت لجنة التحقيق الدولية بعدم الاعتراف بشرعية العمليات العسكرية الإسرائيلية التي أفضت إلى الإبادة الجماعية

وعلى خلاف مخرجاتٍ أممية سابقة وثّقت جرائمَ حربٍ وجرائمَ ضدّ الإنسانية في غزّة، يقدّم تقريرُ لجنة التحقيق الدولية المستقلة تحليلاً قانونيّاً بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، يقتصر نطاقُه على قطاع غزّة، بين 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 و31 يوليو/ تموز 2025، ويهدف إلى تقصّي مسؤولية الدولة عن الإبادة الجماعية، لا مجرّد الأفعال المكوّنة للجريمة أو المسؤولية الجنائية الفردية. تطبّق اللجنة معيار الإثبات المعتمد لديها (الأسباب المعقولة للاستنتاج) على السجلّ الواقعي، ثمّ (وهو الأهم) تخلُص إلى وجود النيّة الخاصّة بالإبادة الجماعية استناداً إلى قرائن مباشرة من تصريحات صادرة عن سلطاتٍ إسرائيلية، وقرائن ظرفية تجعل من هذا الاستنتاج “الاستنتاج المعقول الوحيد” في ضوْء نمط السلوك. وتقرّر اللجنة أن السلطات وقواتَ الأمن الإسرائيلية قد توافرت لديها نيّة تدمير الجماعة الفلسطينية في غزّة كليّاً أو جزئيّاً. وهذا الاستنتاج يمثّل نقلة نوعية، إذ تربط آلية تحقيق أممية بين الأفعال المكوِّنة للجريمة وبين نتيجة على مستوى الدولة تُثبت النيّة الخاصّة والمسؤولية المترتّبة عليها.
وللتوقيت، وللموقع المؤسسي للتقرير، دلالة إضافية، فاللجنة تُعلن صراحة مواءمة تحليلها مع الدعوى المقامة من جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، مع تأكيد أن المحكمة هي الجهة المختصّة بالفصل النهائي في مسؤولية الدولة، بينما تُجري اللجنة، ضمن ولايتها الأممية لتقصّي الحقائق، تقييماً للمسؤولية وتفصيلاً لعواقبها الآن. واستناداً إلى قواعد آمرة (jus cogens) والتزاماتٍ تجاه الجميع (erga omnes)، صيغ التقرير بما يفعّل كامل واجبات الدول بموجب الاتفاقية، بصرف النظر عن صفتها التعاهدية أو تموضعها السياسي. والتقرير وثيقة قانونية مُحفِّزة، يوحّد النتائجَ الواقعية، ويُفصّل النيّة الخاصّة بالإبادة الجماعية، ويُفعّل واجباتِ الكفّ والوقاية والمعاقبة عبر بنية النظام الدولي، ريثما يصدر الحكمُ النهائي لمحكمة العدل الدولية.
البنية القانونية لالتزامات الدولة الثالثة
تفعِّل نتائج اللجنة إطاراً شاملاً من الالتزامات القانونية الملزمة لجميع الدول، المتجذّرة في اتفاقية الإبادة الجماعية وفي قواعد القانون الدولي العرفي. ويؤكّد التقرير أن حظر الإبادة الجماعية يشكّل قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي العام، ويولد التزامات تجاه الجميع تتجاوز العلاقات التعاهدية التقليدية. وبذلك تلتزم جميع الدول، بصرف النظر عن وضعها التعاهدي، بمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها أينما وقعت. وتشير اللجنة صراحة إلى اعتراف محكمة العدل الدولية في قضية برشلونة تراكشن بأن منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها التزامٌ في مواجهة المجتمع الدولي بأسره.
يتبلور واجب منع الإبادة الجماعية، وفق تحليل اللجنة، منذ اللحظة التي تعلم فيها الدولة، أو كان عليها أن تعلم عادة، بوجود خطر جسيم بوقوع إبادة جماعية، وأكدت اللجنة أن هذه العتبة قد تبلورت بلا لبس في 26 يناير/ كانون الثاني 2024، عندما أصدرت محكمة العدل الدولية أوّل أمرٍ باتخاذ تدابير مؤقتة في قضية جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل، مثّبتة معقولية الادّعاء بوقوع إبادة جماعية. وبرأي كاتب هذه السطور، فإن هذه اللحظة تمثّل محطّة زمنية فاصلة تُظهر أن جميع الدول كانت على علمٍ بنيوي بالخطر الجسيم لما يزيد عن عامٍ ونصف العام، وخلال هذه المدة ظلّ واجب استخدام جميع الوسائل المتاحة بصورة معقولة لمنع الإبادة الجماعية قائماً، وهو واجب قصّرت في الوفاء به دول عديدة.
يلاحظ الكاتب أن تحليل اللجنة اعتمد بشكل كبير على اجتهاد محكمة العدل الدولية في قضية البوسنة ضدّ صربيا، التي قرّرت أن الدولة قد تتحمّل المسؤولية إذا أخلّت إخلالاً واضحاً باتخاذ جميع التدابير الممكنة لمنع الإبادة الجماعية متى كانت ضمن نطاق سلطتها وكان اتخاذها قادراً، على نحوٍ معقول، على المساهمة في المنع. ويضع هذا المعيار عبئاً ثقيلاً على الدول ذات النفوذ الكبير على إسرائيل، بما في ذلك الدول التي تقدّم لها دعماً عسكرياً أو اقتصادياً أو دبلوماسياً. بناء على ذلك، خلصت اللجنة إلى أن القدرة على التأثير في سلوك الدولة المرتكِبة تُصبح عاملاً حاسماً في تقييم امتثال الدولة الثالثة لالتزاماتها الوقائية؛ فكلما اتسعت قنوات النفوذ (عبر توريد الأسلحة، أو التبعية التجارية، أو التحالفات السياسية)، تعاظمت، في المقابل، المسؤولية في استخدام تلك القنوات لمنع استمرار أفعال الإبادة الجماعية.

استمرار الدول الحليفة في تسليح إسرائيل انتهاك لاتفاقية الإبادة الجماعية، ويرقى إلى التواطؤ

التداعيات القانونية المترتّبة على الدول الحليفة
تُرتِّب نتائج اللجنة التزاماتٍ ملموسة على حلفاء إسرائيل تتجاوز بكثير الاعتبارات الدبلوماسية البحتة، إذ يَنصّ التقرير صراحة على وجوب وقف الدول نقل الأسلحة والمعدّات الأخرى، بما في ذلك وقود الطائرات، إلى إسرائيل متى توافرت أسبابٌ معقولة للاعتقاد بأنها تُستَخدم في عمليات عسكرية تنطوي على ارتكاب إبادة جماعية. ولا يتوقّف هذا الالتزام على قيام دليلٍ يبدّد الشكّ المعقول، بل يتفعّل عند قيام اشتباهٍ معقول. وبالنظر إلى النتائج القاطعة التي توصّلت إليها اللجنة بشأن استمرار أفعال الإبادة الجماعية، فإن استمرار الدول الحليفة في نقل الأسلحة يشكّل انتهاكاً لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، وقد يرقى إلى مستوى التواطؤ في الإبادة الجماعية.
نتيجة أخرى مهمّة، ولا يجري التطرق إليها كثيراً، أن مبدأ عدم الاعتراف بالأوضاع الناشئة عن انتهاكاتٍ جسيمة لـ”قواعد آمرة” يقتضي أن تمتنع الدول عن الاعتراف بشرعية أي وضعٍ مُستمدٍّ من خرق تلك القواعد. وقد دعت اللجنة تحديداً إلى عدم الاعتراف بشرعية العمليات العسكرية في غزّة، التي أفضت إلى انتهاكاتٍ لتلك “القواعد الآمرة”، بما فيها الإبادة الجماعية. ويُنشئ ذلك تحدّياتٍ كبيرة للدول التي دعمت علناً العمليات العسكرية الإسرائيلية باعتبارها أعمالاً مشروعة للدفاع عن النفس. وتُبطِل نتائج اللجنة عملياً أي سندٍ قانوني لمثل هذا الدعم، إذ لا يمكن بأي حالٍ تبرير الإبادة الجماعية بدعوى الدفاع عن النفس أو الضرورة العسكرية.
كما أقرّت اللجنة أيضاً بوجوب ضمان الدول ألّا ينخرط الأفراد والشركات الخاضعون لولايتها القضائية في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية أو المساعدة فيها، ويُنشئ ذلك التزاماتٍ واسعة النطاق على الدول الحليفة للتحقيق مع مواطنيها والكيانات المؤسّسة لديها التي قد تكون ساهمت في أعمال الإبادة الجماعية (عبر بيع الأسلحة، أو تبادل المعلومات الاستخباراتية، أو غير ذلك من أشكال الدعم المادي) وملاحقتها قضائياً عند الاقتضاء. وشدّدت اللجنة على ضرورة تيسير التحقيقات والإجراءات القضائية المحلّية في مواجهة دولة إسرائيل والأفراد أو الشركات المتورّطة في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية أو في تسهيلها.
ويمثل الالتزام بالتعاون مع آليات المساءلة الدولية بُعداً حاسماً آخر من مسؤوليات الدول الثالثة، وتوصي اللجنة صراحة بأن تتعاون الدول مع مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في تحقيقاته بشأن الوضع في دولة فلسطين. وبالنسبة إلى الدول التي دأبت على حماية إسرائيل من المساءلة الدولية باستخدام حقّ النقض أو عبر الضغط الدبلوماسي، فإن هذا الالتزام يستلزم تحولاً جذرياً في السياسات المتّبعة، كما توصي اللجنة الدولَ بالتدخّل في إجراءات محكمة العدل الدولية التي باشرتها جنوب أفريقيا، مؤكّدة أن المراقبة السلبية لا تكفي عندما يتعلّق الأمر بجريمة الإبادة الجماعية.
التداعيات القانونية المباشرة على إسرائيل (خارج نطاق التزامات الدول الثالثة)
تخصِّص لجنة التحقيق الدولية المستقلة قسماً لإسرائيل، وللعواقب المترتبة بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وبموجب قواعد مسؤولية الدولة، وبصفتها طرفاً في الاتفاقية، تلتزم إسرائيل بعدم ارتكاب الإبادة الجماعية أو التحريض عليها، وبمنعها ومعاقبة مرتكبيها. وتتحمل الدولة مسؤولية أفعال أي جهاز حكومي، بما في ذلك القادة السياسيون والقوات المسلحة أو وحدات محددة، ولا تتوقّف عند وجود إدانات جنائية فردية سابقة. ووفقاً لنتائج اللجنة، ارتكبت قوات الأمن الإسرائيلية العناصر المادية للجريمة بتوجيه وسيطرة من القيادة السياسية والعسكرية، مع إخفاق السلطات في إجراء تحقيقات أو ملاحقات جدّية. ولا تقتصر هذه التوصيفات القانونية على الإدانة، بل تُنشئ التزامات ملموسة على إسرائيل بوقف الأفعال غير المشروعة، وضمان عدم تكرارها، ومعاقبة المسؤولين عنها.
وتتعزّز هذه الالتزامات بسمتَين بارزتَين في السجلّ. أولاً، يُبرز تقييم اللجنة نمطاً سلوكياً يشمل القتل واسع النطاق، وتكتيكات التجويع والحصار، والعرقلة المنهجية للمساعدات الإنسانية، والهجمات على المنظومة الصحّية، والاستهداف المباشر للأطفال، وهو نمط تُستخلص منه نيّة تدمير الاستمرارية البيولوجية الراهنة والمستقبلية للجماعة. وتلتزم الدولة التي تثبت مسؤوليتها عن مثل هذا السلوك بإنهاء السياسات والعمليات التي تُشكّل هذه الأشكال من الإبادة الجماعية على وجه السرعة (مثل الحصار ومنع المساعدات، واستهداف البنية التحتية الطبية، والعنف الإنجابي والعنف القائم على النوع الاجتماعي)، واعتماد ضمانات فعّالة لعدم التكرار.
ثانياً، تُقرّر اللجنة أنّ خطابات كبار المسؤولين ترقى إلى التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية، وهو فعل معاقب عليه استقلالاً بموجب المادة 3 (ج)؛ ويُضاعف ذلك من واجب إسرائيل في المعاقبة عبر تحقيقات وملاحقات حقيقية، وفي قمع أي تحريض لاحق يصدر عن أجهزة الدولة. وينشأ التعرّض القانوني هنا في بُعدَين متلازمَين: (أ) مسؤولية الدولة عن الإخفاق في المنع والمعاقبة، و(ب) تعاظم مخاطر المساءلة الجنائية الفردية أمام الجهات ذات الاختصاص (بما فيها المحكمة الجنائية الدولية)، مع العلم أن تقرير اللجنة لا يُثبت الذنب الفردي.
عملياً، تترتّب آثار فورية على إسرائيل. فبناءً على صياغة اللجنة، يتعيّن على إسرائيل: الكفّ عن السلوك الذي تقرّر أنه يدخل في نطاق المواد (2/ أ – د) من الاتفاقية، وإزالة السياسات والممارسات القيادية التي تُؤسّس لمثل هذا السلوك؛ والتحقيق مع الأجهزة والمسؤولين المعنيين وملاحقتهم ومعاقبتهم؛ والتعاون مع الآليات الدولية والإجراءات القضائية بما يتوافق مع التزاماتها بموجب الاتفاقية والقانون الدولي العام. إن استنتاج اللجنة بأن أجهزة الدولة ارتكبت أفعال إبادة جماعية تحت سلطة مركزية، وفي ظلّ غياب مساءلة وطنية حقيقية، يُضاعف الضرورة القانونية لاتخاذ هذه التدابير من دون إبطاء.

يشمل الالتزام بالتعاون مع آليات المساءلة الدولية التعاون مع “الجنائية الدولية” ومساندة الدعوى أمام “العدل الدولية”

خاتمة
يعيد قرار اللجنة أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية في غزّة صياغة المشهدَين القانوني والأخلاقي لحلفاء إسرائيل بصورة كبيرة، مُحوِّلاً ما عُدّ لدى كثيرين خياراتٍ سياسية، التزاماتٍ قانونية مُلزِمة بمقتضى القانون الدولي. وإن شمولية النتائج التي توصّلت إليها اللجنة (إثبات الفعل الإجرامي والنيّة الخاصّة للإبادة الجماعية)، وتوثيق التحريض المباشر والعلني عليها من كبار المسؤولين الإسرائيليين، وإظهار تقصير إسرائيل في منع تلك الجرائم أو معاقبة مرتكبيها (لا تترك مجالاً للبس في خطورة الوضع أو في مسؤوليات الدول الثالثة). ويُبيّن التقرير أن واجب منع الإبادة الجماعية هو التزامٌ قانوني ملموس، قد يفضي انتهاكه إلى إثبات مسؤولية الدولة عن التواطؤ في الإبادة الجماعية. وإن إسناد اللجنة إلى القواعد الآمرة يُؤكّد أن تلك الواجبات تتجاوز التحالفات السياسية والعلاقات الثنائية، وتمثّل التزاماتٍ في مواجهة المجتمع الدولي برمّته والإنسانية جمعاء. وبالنسبة إلى حلفاء إسرائيل، تُجسّد نتائج اللجنة تحدّياً دبلوماسياً وضرورة قانونية تقتضي الوقف الفوري لكل أشكال الدعم التي قد تُساهم في استمرار أفعال الإبادة الجماعية، واتخاذ خطواتٍ إيجابية لمنع مزيدٍ من الفظائع وضمان المساءلة. وإن الإخلال بهذه الالتزامات، ولا سيّما في ظلّ الإخطار الواضح الذي قدّمته نتائج اللجنة والتدابير المؤقتة الصادرة عن محكمة العدل الدولية سيشكّل ليس فقط خرقاً للقانون الدولي، بل تواطؤاً جنائياً محتملاً في أخطر جريمة عرفتها البشرية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...