بقلم: د. علي محمد الصلابي
إن أي نظرة سريعة لأي إنسان وباحث منصف وموضوعي على مصادر الإسلام وقيمه وأحكامه تكفي لكي يرى ويدرك عظمة القيم الإنسانية في جميع جوانب هذا الدين، ويلاحظ التأكيد على الخصائص الإنسانية المشتركة لجميع البشر عبر العصور وعلى اختلاف أعراقهم وأديانهم ولغاتهم، فقد نجح الإسلام في إرساء القيم الإنسانية الجامعة والتأكيد على المشترك الإنساني منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، وقدم نموذجاً فريداً لتأصيل التعايش مع الآخر والتسامح مع المختلف، وتقبل الاختلاف والتنوع البشري كسنة إلهية جارية في خلق الله تعالى إلى يوم الدين، وكان ذلك واضحاً ومثبتاً على المستوى النظري والعملي، فقد استندت أسس المشترك الإنساني على المصادر العقائدية والتشريعية الأولى للإسلام وهي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، في حين شهد التاريخ الإسلامي دائماً وفي أغلب مراحله العديد من نماذج وتطبيقات تلك القيم والمبادئ الإنسانية القرآنية في حياة المسلمين وواقعهم، وذلك في تعاملهم مع أتباع الملل والنحل الأخرى في المجتمعات الإسلامية أو غيرها، داخل الدول الإسلامية أو خارجها، وسواءً أكان المسلمون حكاماً أو محكومين، في جميع تلك الحالات كان المسلمون النموذج الإنساني الأمثل في احترام كرامة الإنسان وضمان حقوقه وحرياته الأساسية والمكفولة بنصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.
فالله تعالى خاطب الناس كافةً في العديد من آيات القرآن الكريم، في خطاب عام وجامع يشمل المسلم والكافر، البر والفاجر، ليذكّرهم بوحدة أصلهم وبما يجمعهم من خصائص وسمات، وأن الاختلاف بينهم إنما كان لغاية عظيمة وهي التعارف لا التنافر، والتعاون والتسامح لا التظالم والتباغض. قال تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَرࣲ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبࣰا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرࣱ﴾ [الحجرات: ١٣]. كما أكد على القواسم المشتركة التي تجمع بني الإنسان، وأهمها وحدة الأصل البشري واشتراكهم في النسب الواحد الذي يعود بهم إلى أب واحد وأم واحد، وأن هذه الوحدة هي إرادة خالقهم عز وجل الذي خلقهم، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ، واحِدَةٍ، وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء: 1]، وقال تعالى في موضع آخر: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ [ سورة الأعراف: 189].
وساوى الله تعالى بين جميع البشر منذ خلقهم وإلى يوم يبعثون، حين جعل الغاية من خلقهم واحدة وهي العبادة، قال تعالى:﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وخاطب الله تعالى الناس كافةً فأمرهم جميعاً بعبادته، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 21]، وكلفهم بوظيفة واحدة، وهي خلافته في أرضه، فاستخلفهم في الأرض ومكن لهم فيها، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:30]. لأن التكليف كان واحداً وشاملاً لجميع البشر بدون تمييز، فقد كان الحساب قائماً على معيار وميزان واحد ودقيق لا تمييز ولا ظلم فيه، ولا محاباة لأحد على أحد، قال تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَرࣲ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبࣰا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرࣱ﴾ [الحجرات: ١٣]، وهذه الآية الكريمة لا تدع مجالاً للعنصرية التي لطالما كانت موجودة قديماً وحديثاً، وتقوض ادعاء الفوقية والعلوية لدى بعض الأشخاص أو الفئات من البشر، فلا تدع لهم مجالاً للتباهي بالأنساب والأعراق والثقافات والأموال، وتكسر الغرور والكبر عند الإنسان، فلا تفاضل إلا بتقوى الله تعالى والعمل الصالح.
وإن الاختلاف والتعدد بين البشر سنة أرادها الله تعالى لحكمة إلهية وغايات عظيمة، وأهمها التعارف الإسلامي وإقرار قيم التسامح وقبول الآخر، وإعمار الأرض والتنافس على الخير وغيرها من الحكم الجليلة، فالله تعالى أقر هذا الاختلاف والتعدد كأمر واقع ومستمر يجب تقبله والتعايش معه، قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [ المائدة: 48]، وقال عز وجل: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ** إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [ هود: 118-119]. فالاختلاف والتعدد بين البشر ليس عرضاً طارئاً أو خللاً في النظام الإلهي، بل هو سنّة ربانية ثابتة أودعها الله في خلقه لحِكَمٍ سامية وغاياتٍ عظيمة، منها تحقيق التنوع الذي يثري الحياة الإنسانية ويجعلها أكثر قدرة على الإبداع والبناء. فالاختلاف في الألوان والألسنة والثقافات والعقائد هو مظهر من مظاهر قدرة الله وحكمته في خلقه، ومن خلال هذا التعدد تتسع دائرة التعاون بين البشر لإعمار الأرض وإقامة العدل، ويتجلّى معنى “الابتلاء” الإيجابي في قوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾، أي تسابقوا في ميادين البر والإصلاح. ومن ثم فإن تقبّل الاختلاف واحترام التنوع ليس مجرد خيار اجتماعي أو ثقافي، بل هو التزام ديني وأخلاقي يعكس عمق الفهم القرآني للسنن الكونية، ويؤسس لمجتمع إنساني متوازن يسوده العدل والتسامح والتعاون على الخير.
قدّم الإسلام للبشرية نموذجاً رائداً في ترسيخ المشترك الإنساني وبناء جسور التواصل بين الناس كافة، على اختلاف أديانهم وأعراقهم وثقافاتهم. فقد أسّس القرآن الكريم والسنة النبوية المطهّرة لمنظومة قيمية راقية، جعلت من الكرامة الإنسانية والعدل والمساواة والتعارف غاياتٍ سامية تحفظ للإنسان مكانته التي أرادها الله له. وإن استحضار هذه المعاني القرآنية والإنسانية في واقعنا المعاصر يُعدّ ضرورة لإعادة بناء العلاقات بين الأمم على أسس الرحمة والتعاون، وتحقيق التوازن بين الخصوصية الدينية والمشترك الإنساني، بما يضمن للبشرية حياة يسودها السلام والتفاهم والاحترام المتبادل.





