الإلتراس كظاهرة سوسيو-أنثربولوجيّة: سيكولوجيا الجماهير وسوسيولوجيا الانتماء الجمعي

إيطاليا تلغراف

 

 

 

* الدكتور عَبْدُ اللَّه شَنْفَار

 

 

وأنت تتابع مباراة ديربي الدار البيضاء بين الوداد الرياضي والرجاء الرياضي؛ أو مباراة الجيش الملكي؛ يستوقفك مجموعة من الشعارات العميقة؛ التي تتجاوز كرة القدم، إلى الخوض في قضايا سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة متنوعة.
 ليست الجماهير مجرد كتلة بشريّة تتجمّع حول مباراة أو شعار؛ إنها كيان رمزي كثيف، يتحرّك داخل فضاء اجتماعي متخم بالرموز، بالذاكرة، وبالتمثّلات.
ما يحركها ليس فقط الحماس الرياضي، بل رغبة عميقة في الوجود الجماعي، في الاعتراف، في مقاومة اللامرئي الذي يضغط على الأفراد في صمت. حين تهتف الجماهير، فهي لا تعبّر فحسب عن انفعال لحظي، بل تُمارس شكلًا من التنفيس الجمعي المنظم، الذي يربط النفسي بالاجتماعي، والرمزي بالواقعي، واللعب بالجدّ.
1. الجماهير كجسد رمزي:
 في العمق، تتحرّك الجماهير بوصفها جسدًا اجتماعيًا واحدًا، يذوب فيه الفرد في الكلّ دون أن يُمحى تمامًا. هذا الاندماج ليس إلغاءً للذات، بل إعادة تشكيل لها في فضاء جديد، حيث الإيقاع والهتاف واللون تصبح أدوات للتماهي والتعبير عن الانتماء. إنّ التوحّد بالصوت الجماعي هو تعويض رمزي عن غياب الصوت الفردي في فضاءات أخرى أكثر انغلاقًا.
هكذا تُستعاد الذات من خلال الذوبان المؤقت في الجماعة؛ تلك المفارقة التي تضعنا أمام التوتر الأزلي بين الفردي والجماعي، بين الحاجة إلى الاختلاف والرغبة في الانصهار.
2. الجماهير كذاكرة جمعية:
 في السياق المغربي، لا يمكن فصل فعل الجماهير عن الذاكرة الاجتماعية والسياسية للمدينة والحيّ والنادي. كل شعار هو امتداد لسردية أوسع عن العدالة، والكرامة، والانتماء. فالهتاف في المدرّج يُعيد إنتاج تاريخ من التجارب الحضرية والهامشية، من قصص الفقر والمقاومة والنجاة. وهنا تتحول الكرة، ظاهريًا لعبة، إلى مسرح رمزي للذاكرة، حيث يُستعاد الصراع في شكلٍ فنيّ ومتحضّر.
إنّ الأغنية الجماهيرية ليست نشيدًا عابرًا؛ بل أرشيف شفهي يُعيد تشكيل الهوية الشعبية ويمنحها شرعية وجودها في الحيّز العام.
3. البنية السيكولوجية للحماس الجمعي:
 من المنظور النفسي، يُمكن فهم الحماس الجماهيري بوصفه حالة وجدانية انتقالية تُحرّر الفرد من رتابة اليومي وتمنحه نشوة الانتماء المؤقت. فالتكرار الإيقاعي للهتاف يولّد ما يشبه “الترانس الجماعي”؛ أي الدخول في حالة وجدانية مشتركة تتجاوز حدود الوعي الفردي. في تلك اللحظة، لا تعود الأغنية مجرد تعبير، بل طقسًا نفسياً تطهيريًا يوازن بين القمع والحرية، بين الصمت والانفجار.
 غير أنّ هذا الحماس لا ينفصل عن الهشاشة الشعورية التي تسكن الفاعل الجماهيري: فهو كائن يائس من إصلاح الواقع، لكنه ما زال مؤمنًا بقدرة الجماعة على خلق معنى بديل للعدالة والكرامة داخل فضاء اللعب.
4. الألتراس كظاهرة سوسيو-أنثروبولوجية
 من منظور أنثروبولوجي، يمكن النظر إلى الألتراس بوصفه مجتمعًا داخل المجتمع، يمتلك لغته الخاصة، طقوسه، رموزه، وآلياته في إنتاج المعنى والانتماء.
 إنه شكل من أشكال القرابة الرمزية التي تُبنى على المشاركة في الصوت، لا على الدم. كل أغنية تُصبح “علامة هوية”، وكل لافتة “بيانًا ثقافيًا”.
 تُعيد الألتراس إنتاج ما يمكن تسميته بـ القبيلة الحديثة؛ قبيلة حضرية لا تعتمد على النسب، بل على الرمز والالتزام الجمعي. إنها جماعة منضبطة في فوضاها، متمرّدة في التزامها، تُوازن بين النظام الداخلي والرفض الخارجي.
 وفي هذا التوازن تكمن مفارقتها الجوهرية: الطاعة للرمز الداخلي (النادي) تقابلها الممانعة للنظام الخارجي (المؤسسة).
5. الجماهير كمرآة للمدينة والدولة
 لا يمكن عزل الحراك الجماهيري عن البنية الأوسع التي تؤطّره؛ أي الدولة الوطنية الحديثة، بما فيها من مشروع ضبط وتنظيم واحتواء للفضاء العام.
 تسعى الدولة إلى تأطير الجماهير ضمن منظومة الرموز الوطنية، لكنها في الوقت نفسه تجد نفسها أمام طاقة رمزية خارجة عن السيطرة.
 فالهتاف الشعبي، وإن انطلق من ملعب، قد يحمل شحنة رمزية تمسّ قضايا المواطنة، العدالة، والذاكرة الجمعية. هنا، يصبح الفضاء الرياضي مختبرًا صغيرًا لتفاعل السلطة والحرية، النظام والفوضى، الرسمي والعفوي.
 ولعلّ هذه المفارقة هي التي تمنح الجماهير المغربية خصوصيتها: فهي جزء من بنية الدولة الثقافية، لكنها في الوقت نفسه تجسّد توتّرها الداخلي بين الانضباط والمطالبة بالاعتراف.
* خلاصة: الجماهير بوصفها ضميرًا رمزيًا
 الجماهير ليست كائنًا غوغائيًا كما جرت بعض القراءات النمطية، ولا هي حركة احتجاجية صريحة. إنها شكل من أشكال التعبير الجمعي عن الذات الوطنية في تعدّدها وتناقضها.
 حين تهتف الجماهير في الدار البيضاء أو الرباط أو فاس، فهي تُعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، بين الصمت والصوت، بين الخاص والعام.
 إنّ ما يحرك الجماهير، في النهاية، ليس فقط حبّ الفريق، بل البحث عن الاعتراف والكرامة داخل فضاء رمزي يجد فيه المغربي ذاته الجماعيّة؛ تلك الذات التي وُئدت في مؤسسات أخرى أكثر انضباطًا وأقل حرارة.
 وبهذا المعنى، تصبح الجماهير مرآةً للمجتمع، لا في فوضاه فحسب، بل في نزعته الدائمة لإعادة التوازن بين النظام والحرية، بين الدولة والإنسان.

* نبذة موجزة حول الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّه؛
مفكّر وباحث مغربي متخصّص في العلوم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وناشط في الرصد والتحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي.
له عدة إسهامات فكريّة ومقالات تحليليّة ترصد التحوّلات المجتمعيّة وتقدّم قراءات نقديّة للتحديات الراهنة في المغرب والعالم العربي والإسلامي، من أبرز مؤلفاته: الإدارة المغربية ومتطلبات التنمية (2000). الفاعلون المحليّون والسياسات العموميّة المحليّة (2015)، والفاعلون في السياسات العموميّة الترابيّة (2020).

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...