ممداني… وجه أميركا الجديدة

إيطاليا تلغراف

 

 

 

علي أنوزلا
صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع “لكم. كوم”.

 

 

لم يكن انتخاب زهران ممداني، البالغ 34 عاماً، حدثاً عاديّاً في تاريخ نيويورك، فالعاصمة الاقتصادية للعالم، التي اعتادت أن يحكمها رجال المال أو رموز المؤسّسة الليبرالية الكلاسيكية، اختارت هذه المرّة عمدةً شابّاً، مسلماً، يساريّاً معلناً، يرفع شعارات العدالة الاجتماعية في قلب معبد النيوليبرالية. هو أصغر من يتولى هذا المنصب منذ قرن، وأول مسلمٍ يترأس أكبر بلدية في الولايات المتحدة، وأول من يدخل قاعة السلطة من بابٍ اشتراكيٍّ تقدّميٍّ صريح. غير أنّ فوز ممداني لا يمكن قراءته واقعةً انتخابيةً محلية فحسب، بل ترجمةً لتحوّلٍ أعمق يجري داخل المجتمع الأميركي نفسه.

تزداد منذ سنوات الهوّة بين القلّة المترفة التي تراكم ثرواتٍ خرافية والأغلبية التي تنزلق نحو الفقر أو الهشاشة، ففي عام 2024 بلغ معدل الفقر الرسمي في الولايات المتحدة 10.6%، أي ما يعادل 35.9 مليون شخص. وفي نيويورك وحدها يعيش نحو 23% من السكان تحت خط الفقر، أي ما يقرب من مليونَي إنسان. لكن هذه المفارقة الاجتماعية ليست جديدة على أميركا؛ فهي جزءٌ من بنيتها الرأسمالية التاريخية. الجديد درجة الغضب الشعبي من انحراف العدالة الاجتماعية وتغوّل رأس المال. ولعل هذا ما جعل نيويورك، التي تُوصف بأنها “مدينة التناقضات الكبرى”، تصوّت للديمقراطيين طوال عقودٍ من موقعٍ ليبراليٍّ وسطيٍّ لا يهدّد مصالح النخبة الاقتصادية. إلّا أن الإحباط المتراكم من السياسات النيوليبرالية، وارتفاع تكاليف السكن والخدمات الأساسية، جعل الخطاب اليساري الجذري يجد له صدى متزايداً. التقط ممداني هذا المزاج الشعبي ببراعة، فطرَحَ برنامجاً انتخابيّاً ملموساً: تجميد الإيجارات، النقل العمومي المجاني، التعليم والحضانة العامة، وتوسيع الخدمات الاجتماعية. لم يخفِ راديكاليّته، ولم يساوم على لغته، فاستطاع أن يُحدث شرخاً في جدار التحالف التقليدي بين الحزب الديمقراطي ومراكز المال.

وما زاد من تأثير حملته أنها اتخذت طابعاً إنسانيّاً مباشراً، بعيداً عن الدعاية المكلفة التي تعتمدها الحملات الانتخابية التقليدية. فقد اختار ممداني أن ينزل إلى الشارع، يلتقي الناس وجهاً لوجه، يطرق الأبواب، ويستمع إلى هموم سكان الأحياء الشعبية بنفسه، وجعل من الحوار المباشر والمقاربة الإنسانية وسيلته الأساسية للتواصل، فشعر الناس بأنه قريبٌ منهم، وواحدٌ منهم. كانت حملته مليئة بالإبداع والإقناع، اعتمدت على القرب الاجتماعي لا على المال السياسي. وساهم تنوّعه الثقافي واللغوي، كونه من أصول متعدّدة ويتحدّث لغات مختلفة، في أن يجعل منه مرشحاً فريداً ومختلفاً في مشهد انتخابي، المال وحده هو الذي يحدّد مسار المتسابقين فيه. إنها صورة مصغرة لأميركا الجديدة التي تتشكّل من تنوّعها واختلافها.

زهران ممداني ابنٌ سياسيٌّ غير مباشر لترامب؛ ابنٌ تمرّد على منطق الخوف والكراهية ورفع في وجهه منطق المساواة والعدالة

العامل الثاني الذي مهّد لصعود ممداني الإرث السياسي لحقبة دونالد ترامب، فالأخير لم يكتفِ بإحياء خطاب اليمين المحافظ، بل جعل منه مشروعاً قومياً متعالياً يقوم على التخويف من الآخر واستغلال الهواجس الدينية والعرقية. غير أن راديكالية هذا الخطاب أنجبت على الطرف الآخر راديكالية مضادّة؛ فكما حرّك ترامب اليمين، أطلق أيضاً دينامية يسارية تقدّمية بين الشباب والأقليات والمهمّشين. ويمكن القول إنّ الخطاب الراديكالي لترامب أنتج خطاباً راديكاليّاً نقيضاً له، وأن اليمين المحافظ والمتطرّف ربما بلغ ذروته مع ترامب، وسيبدأ مرحلة انحداره، إذ يُتوقّع أن تكون الانتخابات الرئاسية المقبلة أول اختبارٍ فعليٍّ لبداية أفول “الترامبية”، التي ستؤول، في نهاية المطاف، إلى المصير نفسه الذي عرفته النزعات اليمينية السلطوية المتطرّفة في أوروبا وأميركا.

بهذا المعنى، يمكن القول إن زهران ممداني ابنٌ سياسيٌّ غير مباشر لترامب؛ ابنٌ تمرّد على منطق الخوف والكراهية ورفع في وجهه منطق المساواة والعدالة. ولعل المفارقة أن صعود اليمين الشعبوي دفع قطاعاتٍ واسعة من الأميركيين إلى التجرؤ على تبنّي خطابٍ تقدّمي لم يعد يشعر بالحرج من وصف نفسه يساريّاً. لقد واجه ممداني، طوال حملته، آلةً إعلاميةً وماليةً ضخمة أنفقت عشرات الملايين من الدولارات لمحاربته، لكنّ تمسّكه بخطابه الراديكالي ورفضه المساومات السياسية جعلاه يبدو صادقاً في عيون الناخبين، لقد أراد أن يثبت أن التغيير يمكن أن يبدأ من البلديات، من الشارع، من حياة الناس اليومية، وليس من التحالف مع لوبيات المال والأعمال.

ليس انتصار زهران ممداني مجرد انتصارٍ انتخابي، بل إنّه حدثٌ رمزيٌّ يختصر تحوّلاً في القيم السياسية والثقافية

العامل الأكثر عمقاً وتأثيراً في فوز ممداني هو ما أحدثته حرب الإبادة في غزّة من زلزالٍ أخلاقي وسياسي في العالم وداخل الولايات المتحدة، فالحرب الإجرامية لم تُعرِّ إسرائيل فحسب، بل أيضاً كشفت حدود الصمت الأميركي وتواطؤ مؤسّساته الإعلامية والسياسية. لأول مرة منذ عقود، تجرّأ ملايين الأميركيين، خصوصاً الشباب، على نقد إسرائيل علناً، وعلى فضح اللوبي الصهيوني الذي ظلّ عقوداً يُملي مواقفه على الرؤساء والكونغرس والإعلام. في هذا السياق، برز صوت ممداني صدىً لهذا الوعي الجديد، لم يتردّد في وصف حرب الإبادة بأنها جريمة ضد الإنسانية، وأعلن موقفاً واضحاً ضد العدوان على غزّة، ودافع عن حق الفلسطينيين في الحرية والكرامة، بل قال في إحدى مناظراته: “لو زار نتنياهو نيويورك، لن أتردّد في اعتقاله احتراماً للقانون الدولي ولقرار المحكمة الجنائية الدولية”. كان تصريحٌ مثل هذا، حتى وقتٍ قريب، كافياً لإنهاء المسيرة السياسية لأي مرشّح أميركي، جمهوريّاً كان أو ديمقراطيّاً. لكنّ ما غيّر المعادلة الوعي الجديد الذي وُلد من رحم المأساة الغزّية، إذ بات انتقاد إسرائيل لا يُعدّ انتحاراً سياسيّاً بل علامة شجاعة واستقلالية. وقد لخّص ترامب نفسه هذا التحوّل، حين قال أخيراً: “نشأت في عالمٍ كانت كلمةٌ سيئةٌ عن إسرائيل تدمّر مستقبلك السياسي، واليوم كلمةٌ جيدةٌ عنها قد تدمّرك”. تلخّص هذه الجملة عمق التبدّل الذي يعيشه الرأي العام الأميركي، الذي جعل من فوز ممداني ممكناً.

ليس انتصار زهران ممداني مجرد انتصارٍ انتخابي، بل إنّه حدثٌ رمزيٌّ يختصر تحوّلاً في القيم السياسية والثقافية، فأن يفوز مسلمٌ يساريٌّ في عاصمة الصهيونية العالمية، فهذا يعني أنّ الخوف من الصهيونية بدأ يتراجع، وأن وعياً جديداً يتشكّل في أوساط الشباب الأميركي، وعياً يرى في العدالة الاجتماعية والمساواة بين الشعوب قيمةً كونية تتجاوز القومية والعرق والدين. إنه انتصار للرواية الفلسطينية التي استعادت، بفضل دماء عشرات آلاف من الشهداء، مكانتها في الضمير الإنساني. وهو أيضاً انتصار لجيلٍ جديد من الأميركيين الذين قرّروا كسر هيمنة اللوبي الصهيوني على القرار السياسي، في قلب معقله، في نيويورك تحديداً، حيث تتركّز أكبر مؤسّسات المال والإعلام.

تكشف قراءة فوز ممداني في معناه الأوسع عن أميركا جديدة تتشكّل، أميركا أقلّ خضوعاً للوبيات الصهيونية، وأكثر إنصاتاً لصوت الشارع

السؤال الأهم: هل يشكّل فوز ممداني بداية تحوّلٍ استراتيجيٍّ داخل أميركا، أم مجرّد لحظةٍ رمزية في دورة الغضب الشعبي؟ الواقع أن أمام الرجل تحدياتٍ جسيمة، فالمؤسسات التي واجهها في الحملة ستواجهه في الحكم، واللوبيات الاقتصادية والإعلامية التي وقفت ضد انتخابه ستعمل على إفشاله، تماماً كما حاولت سابقاً إفشال تجاربٍ يسارية في أميركا اللاتينية وأوروبا ومناطق أخرى، إلّا أنّ قوته الحقيقية تكمن في القاعدة الشعبية التي منحته شرعيّته، وفي النموذج الذي يجسّده كسياسيٍّ غير تقليدي، صادقٍ مع نفسه ومع ناخبيه. في المحصلة، يشكّل انتخاب ممداني لحظةً فارقة في التاريخ السياسي الأميركي. لحظةٌ تختزل تفاعلاتٍ اجتماعية وثقافية وسياسية عميقة، تمتدّ من أزمة الفوارق الطبقية إلى تمرد الشباب، ومن الانقسام الذي خلّفه ترامب إلى الوعي الأخلاقي الذي فجّرته حرب غزة. لذلك تكشف قراءة هذا الحدث في معناه الأوسع عن أميركا جديدة تتشكّل، أميركا أقلّ خضوعاً للوبيات الصهيونية، وأكثر إنصاتاً لصوت الشارع، وأقرب إلى قيم العدالة التي طالما ادّعتها ولم تطبّقها. ويفتح فوز زهران ممداني الباب أمام سؤالٍ عالمي: إذا كان المسلم اليساري القادم من الهامش قادراً على كسر أسطورة اللوبي الصهيوني في قلب نيويورك، فما الذي يمنع القوى الديمقراطية في بقية العالم من كسر محظوراتها وصناعة المستحيل؟

الخوف، كما قال ممداني نفسه في خطابه الافتتاحي، “هو ما يجعل الأساطير تبدو حقيقية، والشجاعة وحدها من تكشف هشاشتها”.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...