مدريد ــ الرباط‮ ــ ‬الجزائر‮: ‬الشكل العسكري‮ ‬للتوتر الدبلوماسي‮!

إيطاليا تلغراف

 

 

 

عبد الحميد اجماهيري

 

انطلقت‮ أول من أمس الاثنين، المناورات العسكرية المشتركة التي‮ ‬تشرف عليها الولايات المتحدة والمغرب،‮ ‬المعروفة باسم الأسد الأفريقي‮.‬ وعلى الرغم من أن هذه التدريبات‮ ‬التي‮ ‬تعد من التمرينات الأقوى في‮ ‬العالم، بدأت منذ‮ ‬2007،‮ ‬فإن إجراءها هذه السنة‮ ‬يكتسي‮ ‬دلالة خاصة‮،‮ ‬جيو- استراتيحياً وإقليمياً،‮ ‬تتشابك رسائله،‮ سواء على مستوى‮ غرب المتوسط،‮ ‬أو في‮ ‬العلاقات بين الجارين المتتاليين للمغرب،‮ ‬إسبانيا شمالا والجزائر شرقا‮.‬ و‬في‮ ‬التداول الاعلامي،‮ ‬بدأ الحديث عن المناورات،‮ ‬مع اقتراب موعدها المعروف،‮ ‬غير أن السياق أعطى معنى خاصا لذلك‮،‮ ‬سواء في‮ ‬مصدر الخبر أو في‮ ‬معانيه المفترضة،‮ ‬مع تصاعد التوتر داخل المثلث الإقليمي،‮ ‬الرباط – الجزائر‮ -‬ مدريد‮.‬ ولعل إحدى اللحظات الأكثر دلالة التدوينة التي‮ ‬نشرها رئيس الحكومة المغربي،‮ ‬سعد الدين العثماني، في‮ ‬نهاية شهر مايو/ أيار المنصرم،‮ ‬قال فيها إن التدريبات،‮ ‬وهي‮ ‬أكبر تدريبات أفريكوم‮ (القيادة العسكرية الأميركية في‮ ‬أفريقيا)، ‬تتم في‮ ‬المناطق المعتادة‮،‮ ‬إضافة إلى أن جزءا منها‮ ‬ينتمي‮ ‬إلى التراب الصحراوي،‮ ‬المعروض نزاعه على الأمم المتحدة‮.‬ وعلى الرغم من أن التحضيرات، كما وردت في‮ ‬بيانات “أفريكوم” قد بدأت دورة التخطيط لها‮ في‮ ‬صيف‮ ‬العام ألفين وعشرين،‮ ‬أي‮ ‬قبل أشهر من إعلان الرئيس الأميركي،‮ ‬دونالد ترامب، في ديسمبر/ كانون الأول ‮‬الماضي،‮ ‬فإن العثماني‮ ‬كان قد اعتبر إجراء المناورات المعنية‮ “‬تتويجا للاعتراف الأميركي‮ ‬بمغربية الصحراء‮”، وكان مقصده في‮ ‬ذلك أن الإدارة الجديدة في‮ ‬البيت الأبيض، بقيادة جو بايدن،‮ ‬تكون بموافقتها على الهندسة الترابية للتدريبات،‮ ‬وضعت نفسها داخل منطق اعتراف الإدارة السابقة، في‮ ‬عهد ترامب، بسيادة المغرب على الصحراء‮، خصوصا مع‮ ‬الضغط الذي‮ ‬مورس على إدارة بايدن من‮ ‬أجل مراجعة الاعتراف‮ ‬أو التخلي‮ ‬عنه أو تجميده‮.‬ غير أن سعد الدين العثماني‮ ‬سحب تغريدته،‮ ‬بدون الإعلان عن سبب واضح،‮ ‬في‮ ‬تزامنٍ‮ ‬مع هجوم إعلامي‮ ‬ودبلوماسي‮ ‬من الجزائر وجبهة بوليساريو‮ ‬الانفصالية التي‮ ‬تعمل‮ داخل التراب الجزائري‮ ‬لانتهاك وقف إطلاق النار‮، ‬وهو ما فسره الطرف الآخر ‬تراجعا وانتصارا لأطروحته أن الأخبار المتداولة‮ “مجرّد إشاعات‮”‬،‮ ‬كما أعلن عن ذلك‮ أحد قيادات “بوليساريو”‮.‬

كان لافتا أن المنطقة التدريبية للمناورات تشمل منطقة‮ ‬المحبس‮ على الحدود الجزائرية‮، ‬القريبة من تندوف،‮ ‬معكسر “بوليساريو”

وقد ظل الالتباس والغموض‮ ‬يسودان مآل هذه التدربيات،‮ ‬ومناطق إجرائها ومغزاها الاستراتيجي،‮ ‬في‮ ‬سياق توتر دبلوماسي‮ ‬مغربي‮- ‬جزائري‮- ‬إسباني،‮ ‬توجد في‮ ‬قلبه قضية الانفصال ومجالاتها الترابية‮.‬ ومع البلاغ‮ (‬البيان) الذي‮ ‬أصدره ملك المغرب محمد السادس،‮ ‬القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية،‮ ‬اتضحت الصورة، واتضح الرهان بشكل أوسع‮، فقد ذكر البلاغ‮ ‬أن هذه المناورات التي‮ ‬تتطلب‮ موازنة قدرها‮ ‬24‮ ‬مليون دولار،‮ ‬ومشاركة نحو مائة مدرعة و46‮ ‬طائرة دعم و21‮ ‬طائرة مقاتلة‮ ‬يشارك فيها‮ ‬سبعة ‬آلاف جندي‮ ‬من‮ ‬تسع دول،‮ ‬بريطانيا والبرازيل وكندا وتونس والسنغال وهولندا وإيطاليا،‮ ‬فضلا عن حلف شمال الأطلسي‮ ‬ومراقبين عسكريين من حوالي‮ ‬ثلاثين دولة تمثل أفريقيا وأوروبا وأميركا‮.‬ وكان لافتا أن المنطقة التدريبية تشمل منطقة‮ ‬المحبس‮ على الحدود الجزائرية‮، ‬القريبة من تندوف،‮ ‬معكسر “بوليساريو”،‮ ‬وهي‮ ‬التي‮ ‬تعتبرها الجبهة الانفصالية “منطقة محررة‮”، ‬ومنها تنطلق‮ “هجماتها المتكرّرة‮” ‬على الجيش المغربي،‮ ‬منذ‮ ‬تطهير منطقة الكركرات في‮ ‬منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي‮.‬ الرسالة كانت واضحة لدولة الجوار الشرقي،‮ ‬الجزائر أولا‮، فهي‮ ‬قد صفَّقت لخبر إلغاء التداريب في‮ ‬منطقة المحبس،‮ ‬الشهيرة،‮ ‬كما سبق لها أن أجرت‮ ‬مناوراتٍ عسكريةً جويةً وبريةً تحت عنوان‮ “‬الحزم‮ ‬2021” في‮ ‬ولاية تندوف عند الحدود مع‮ ‬المغرب،‮ ‬والمحتضنة معسكرات “بوليساريو‮”،‮ ‬بإشراف‮ ‬رئيس أركان الجيش الجزائري، سعيد شنقريحة‮.

القيادة الجزائرية،‮ ‬وهي‮ ‬تعيش وضعا داخليا ملتهبا،‮ ‬رأت في‮ ‬التوتر المغربي‮ ‬الإسباني‮ ‬فرصةً لكي‮ ‬تقدم مقترحاتها عن الهجوم

وفي‮ ‬سياق القراءة الموجهة شرقا،‮ ‬فقد تزامن انطلاق‮ ‬التدريبات مع إطلالات إعلامية للرئيس الجزائري،‮ ‬عبد المجيد تبون، وإن استمرت في‮ ‬إطار التوتر،‮ ‬إلا أنها رفعت من درجة الهجومية على المغرب‮، ففي‮ ‬حوار مع الأسبوعية الفرنسية‮، لوبوان‮، نشرته الأسبوع الذي‮ ‬ودعناه، قال الرئيس إن “القطيعة مع المغرب بدأت مذ فترة طويلة حتى أنها صارت عادية‮”. ‬ولمَّح‮ ‬إلى احتمال وجود هجوم بالقول‮ “‬سنرد إذا هوجمنا‮،‮ ‬وأشك بأن المغرب سيحاول ذلك،‮ ‬بالنظر إلى‮ ‬موازين القوى‮، وما هي‮ ‬عليه الآن‮”. والواضح أن القيادة الجزائرية،‮ ‬وهي‮ ‬تعيش وضعا داخليا ملتهبا،‮ ‬قد رأت في‮ ‬التوتر المغربي‮ ‬الإسباني‮ ‬فرصةً لكي‮ ‬تقدم مقترحاتها عن الهجوم. ‬وكما قال أحد المعلقين‮ “‬لقد وجهت لنفسها دعوة لحضور حفلة‮ ‬التوتر الإسباني‮ ‬المغربي، من بوابة الحدود والانفصال‮”. ‬وكان الصمت المغربي‮ ‬إزاء مواقف الرئيس تبون‮ ‬لافتا‮، خصوصا أن الرجل ‬جعل من زيارته زعيم “بوليساريو”، إبراهيم غالي، العائد من إسبانيا،‮ والذي تسبّب في‮ ‬أزمة‮ ‬غير مسبوقة بين مدريد والرباط، ‬فرصةً لإعلان الاصطفاف مع المواقف الإسبانية. وكان ‬الصمت المغربي‮ ‬مزدوجا،‮ ‬لكن الرسائل كانت عديدة من خلال المناورات‮.‬
‮ومما زاد من دلالة بيان ‬الجيش المغربي‮ ‬في شأن المناورات أن الحليف الإسباني‮ ‬نفسه لم‮ ‬يتم استدعاؤه،‮ ‬على الرغم من وصفه بـ‮ “‬الحليف القوي‮”. وقد قدم الإسبان قراءتهم لهذه التدريبات أيضا ‬من زوايا مختلفة‮.

كان نشر قوات الجيش في‮ ‬سبتة المحتلة‮ ‬صيغة عسكرية في‮ ‬التعبير عن الخلاف الدبلوماسي،‮ ‬وسطوة القاموس العسكري‮ ‬في‮ ‬كثير من بيانات الجارة الشمالية للمغرب

وقد كشفت مقالة في‮ ‬صحيفة‮ “إل اسبانيول‮” ‬جزءا من تفكير إسبانيا في‮ ‬المناورات ومواقف أميركا‮، ‬فقد كتبت إن‮ “‬الولايات المتحدة تريد مغربا قويا‮ من أجل ضمان استقرار المنطقة‮”‬. ‬وفي‮ ‬الوقت ذاته، هاجمت هذا التوجه الأميركي،‮ ‬وقدّمت القدرات العسكرية الإسبانية،‮ ‬في‮ ‬توجه تفضيلي‮ ‬واضح ‬تجاه مدريد،‮ ‬على الرغم من الفرق في‮ ‬نسبة الإنفاق‮ ‬العسكري‮ ‬بين البلدين،‮ ‬من الناتج الداخلي‮ ‬الخام (6% ‬بالنسبة للمغرب،‮ ‬8%‬بالنسبة لإسبانيا،‮ ‬مع فارق‮ ‬بخصوص الصناعة العسكرية الإسبانية‮). ولم تغب‮ “‬عسكرة‮” ‬الرد الإسباني‮ ‬في‮ ‬التوتر المتعلق بين البلدين،‮ ‬فقد كان نشر قوات الجيش في‮ ‬سبتة المحتلة‮ ‬صيغة عسكرية في‮ ‬التعبير عن الخلاف الدبلوماسي،‮ ‬وسطوة القاموس العسكري‮ ‬في‮ ‬كثير من بيانات الجارة الشمالية للمغرب،‮ ‬سواء في‮ ‬الحديث عن الحدود‮ ‬وقوة إسبانيا أو في‮ ‬تصريحات وزيرة الدفاع، مارغريتا روبليس، التي‮ ‬تصدرت المشهد الدبلوماسي‮.‬ وقد سعى‮ رئيس الوزراء، ‬بيدرو سانشيز، في‮ ‬هذا الشأن،‮ ‬إلى إعطاء صبغة عسكرية للخلاف في‮ ‬طابعه المرتبط بالهجرة‮، ‬عندما اعتبر دخول المهاجرين من الأراضي‮ ‬المغربية إلى سبتة المحتلة‮ “‬هجوما‮ ‬من إحدى الحكومات بسبب خلاف في‮ ‬السياسة الخارجية”. ‬والواضح أن‮ ‬سانشيز ‬لم‮ ‬ينتبه إلى‮ ‬تحوّل‮ ‬مركزي‮ ‬بالنسبة للمغرب، ‬وهو الوضع الاعتباري‮ ‬لزعيم الانفصاليين الذي‮ ‬انتقل‮ من زعيم حركة انفصالية إلى عدو عسكري،‮ ‬بإعلانه‮ ‬عن وضع حد لوقف إطلاق النار، وعن هجمات على‮ ‬الجيش المغربي،‮ ‬بعد فشل قطع‮ ‬الطريق بين المغرب وأفريقيا عند نقطة‮ ‬الكركرات.

الواضح أن مناورات “الأسد الأفريقي‮” ‬كانت موجودة منذ ما قبل التوترات الحالية، لكن السياق أعطاها معنى لم‮ ‬يكن واردا في‮ ‬البداية،‮ ‬وبالرغم من أن المغرب ما زال في‮ ‬مستوى التفاعل الدبلوماسي،‮ ‬فإن جاريه الشرقي‮ ‬والشمالي،‮ ‬لا‮ ‬يتورّعان‮، كما ثبت أعلاه عن ‬النزوع نحو شبكة القراءة العسكرية في‮ ‬معالجة الوضع‮.‬ وقد حدث في‮ ‬قضية جزيرة‮ ‬ليلى‮، عند التماس العسكري‮ ‬المغربي ‮-‬ الإسباني العام 2002،‮ ‬أن تدخلت الآلة الدبلوماسية،‮ ‬بما فيها الأميركية، لحل النزاع. ‬أما في‮ ‬الحالة الجزائرية،‮ ‬فإن المؤسسة العسكرية ما زالت لها أدوات انفصالية لتفادى التماس مع المغرب‮: ‬إلى متى؟ هذا هو السؤال بعد حرمان دولي‮ ‬للانفصاليين من منصّة‮ “‬المحبس‮”!‬

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...