إلى أين يتجه الصراع على السلطة في السودان؟

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

عمر كوش

 

 

تخيّم على السودان، في أيامنا هذه، أجواء مشحونة بالتوتر والاحتقان، في ظل اشتداد حالة التأزم السياسي التي ضاقت حلقاتها واستفحلت، على خلفية تفاقم الخلافات بين طرفي الشراكة الانتقالية الحاكمة ومكونيْها، العسكري والمدني، وباتت انعكاساتها وارتداداتها تلقي بظلالها على الشارع السوداني في ظل عمليات التحشيد والتظاهرات والاعتصامات، التي ينظمها كل من “قوى الحرية والتغيير” و”ميثاق التوافق الوطني”، اللذيْن يخوضان صراعاً مفتوحاً للاستحواذ على مقاليد السلطة في البلاد.
بات القلق يسكن غالبية السودانيين بشأن المآل الذي يمكن أن تنتهي إليه الأزمة السياسية الحالية، وذلك بعد الاستقطاب الحادّ بين القوى السودانية المتصارعة، خصوصاً بعد دخول قوى سياسية وعسكرية مختلفة على خط الصراع ما بين العسكريين والمدنيين في السلطة الحاكمة، الأمر الذي يشي بأن الأزمة بلغت حدّاً جعل الأطراف المتصارعة تتجه نحو الاقتراب من الصدام في الشارع، وأن لا أحد يعرف إلى أين سيتّجه السودان معها، ذلك أن التوتر الراهن قد يقود، في حال استمراره، إلى انقلابٍ عسكري، والعودة إلى الحكم العسكري والنظام الشمولي، أو إلى كارثة احترابٍ تهدّد السودان، وذلك في ظل المخاوف من السلاح المنتشر، والانقسامات المتعدّدة، والنزعات العنصرية والجهوية.

خلافات نشبت بين القوى المدنية، وأفضت إلى انفصال مجموعة عن قوى الحرية والتغيير

ويبدو أنّ الأزمة السياسية بلغت مستوىً حادّاً من التصعيد، وذلك مع الاعتصام المتواصل أمام القصر الجمهوري، الذي بدأ بعدما نظمت “منصّة التأسيس” المؤيدة للعسكريين تظاهرة في 16 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، وردّ عليها المجلس المركزي القيادي لقوى الحرية والتغيير” المؤيد للمكون المدني بتظاهرة 21 أكتوبر الجاري، إلى جانب حرب البيانات والتصريحات التي يطلقها طرفا الصراع، ودخول قوى مختلفة حلبته الواسعة.
وإذا كان أساس الأزمة يرجع إلى خلافاتٍ حادّة بين الشقين المدني والعسكري في السلطة الانتقالية، خصوصاً بعد منع العسكر تسليم رئاسة المجلس السيادي للمدنيين، كما كان متفقاً عليه في “الوثيقة الدستورية”، إلا أن خلافاتٍ أخرى نشبت بين القوى المدنية، وأفضت إلى انفصال مجموعة عن قوى الحرية والتغيير، ووقعت ميثاقاً سمّته ميثاق قوى الحرية والتغيير، وانحازت في مواقفها إلى العسكر، حيث باتت تطالب بتسليم السلطة إليهم وبحل حكومة عبد الله حمدوك، فيما تصرّ قوى الحرية والتغيير على تنفيذ ما ورد في الوثيقة الدستورية، معتبرةً أن المعركة القائمة ليست بين المدنيين والعسكريين، إنما هي بين الانقلابيين والثوار، وأنها معركةٌ محسومةٌ لمصلحة قوى الثورة والتحوّل الديمقراطي.

الأجدى بالقوى والأحزاب السياسية أن تعيد ترتيب صفوفها، استعداداً للانتخابات المفترض إجراؤها في نهاية الفترة الانتقالية

يريد العسكر في المجلس السيادي الانتقالي التمسّك بالسلطة والحفاظ على مواقعهم فيها، وبالتالي منع تسليمها إلى المدنيين، لأن تسليمها قد يحمل مخاطر تعرّضهم للمساءلة والمحاسبة على انتهاكات كثيرة بحق الشعب السوداني، وخصوصاً مسؤوليتهم عن الانتهاكات التي ارتُكبت بحق المحتجين السلميين خلال عملية فضّ اعتصام “القيادة العامة” عام 2019، الأمر الذي يفسّر رفضهم وحفاظهم على وحدة مواقفهم، إذ على الرغم من التنافس بين كل من رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، ورئيس وحدات “الدعم السريع”، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بوصفهما الشخصيتين العسكريتين الأقوى، إلا أن خلافاتهما لم تظهر إلى العلن، حفاظاً على قوة المكوّن العسكري وعلى تماسك معسكره، ويحذوهم في ذلك الحفاظ على مصالحهم وامتيازاتهم، وإيقاناً منهم أن إزاحتهم عن السلطة لصالح حكم مدني ستفضي إلى تجريدهم من ممكنات التحكّم في الجيش وقوى الأمن والشرطة، الأمر الذي يفتح باب المساءلة عليهم بخصوص بقضايا الفساد والتجاوزات وسواها.
وإذا كانت بعض الأطراف في قوى الثورة تعتبر أن المحاصصات السياسية أضرّت بالحكومة الانتقالية، وشكّلت انتهاكاً للوثيقة الدستورية، إلا أن المطلوب ليس حل الحكومة وإضعافها، بل تقويتها وإبعادها عن الصراعات والمماحكات السياسية التي تعرقل عملها ومهامها. وبالتالي، الأجدى بالقوى والأحزاب السياسية أن تعيد ترتيب صفوفها، استعداداً للانتخابات المفترض إجراؤها في نهاية الفترة الانتقالية، لكن الحاصل أن القوى العسكرية والمتحالفين معها يريدون إنهاك الحكومة، بحجّة توسيعها وجعلها تستند إلى “قاعدة عريضة”. ولا يخفى أن أهدافهم من ذلك تتمحور حول إضعاف المكون المدني لصالح تمكين المكوّن العسكري، بما يعني ترتيب انقلابٍ عليه، عبر السعي نحو النكوص عن صيغة الشراكة بين المكونين المدني والعسكري، والتي تضمّنتها الوثيقة الدستورية، ومحاولة إلغاء الطرف المدني، مع العلم أن الخروج من الأزمة الحالية بسلام يمرّ عبر التوصل إلى توافقاتٍ وتفاهماتٍ سياسية بين مختلف القوى، تضمن سلالة عبور المرحلة الانتقالية نحو إجراء الانتخابات المقرّرة في نهايتها.

يقود استمرار الأزمة السياسية المحتدمة في السودان إلى دخول متاهات مجهولة العواقب على عامّة السودانيين

وبالنظر إلى أن النكوص عن الوثيقة الدستورية يحمل مخاطر الانزلاق نحو انقلاب عسكري، أو إثارة نزاعاتٍ مسلحة تدخل السودان في أتون حربٍ أهليةٍ مدمرة، فإنه بات مطلوباً من القوى والأحزاب السياسية السودانية التفاهم على وضع خطةٍ واضحةٍ لإنقاذ السودان، تتضمّن برنامجاً محدّداً بمواعيد زمنية، للوصول إلى محطة الانتخابات، وعدم الركون إلى سلطة الفترة الانتقالية وصراعاتها ومماحكاتها، والتصرّف وكأنها هدف في حد ذاتها، بل ينبغي اعتبارها محطّة استعدادية لتهيئة الظروف نحو الانتقال إلى مرحلة الانتقال الديمقراطي والحكم المدني التي طالبت بها الثورة السودانية، وذلك عبر عقد المؤتمر الدستوري ووضع قانون للانتخابات وتحديد دوائرها، ووضع برامج تنموية وتوعوية تلتفّ حولها الجماهير السودانية التي باتت تعاني من طول أمد مسار الانتقال السياسي وصراعاته، ومن تفاقم الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي تعصف بسبل عيشها، وتدفعها إلى إلقاء اللوم على العملية السياسية وعلى أحزابها وقواها المشغولة بصراعاتها، خصوصاً أن الحكومة السودانية الانتقالية التي نتجت عن تقاسم السلطة بين العسكر والمدنيين لم تستطع تقديم الكثير لحياة السودانيين ومعيشتهم، فالبرامج الإصلاحية الاقتصادية والسياسية التي أطلقها رئيس الحكومة الانتقالية لم تؤت أكلها، وما يزال الاقتصاد السوداني يعاني أزماتٍ عديدة. وبالتالي، سيقود استمرار الأزمة السياسية المحتدمة في السودان في هذه الأيام، حتماً، إلى دخول متاهات مجهولة العواقب على عامّة السودانيين.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...