شباب مسلمي إيطاليا و إشكالية الإنتماء والتطور

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

ذ. أحمد براو

 

 

ظهر في العشرين سنة الأخيرة بإيطاليا عامل جديد للتعددية داخل المكون العام للمهاجرين المسلمين، وهو ظهور مكون الشباب، الذي غالبًا ما يتم تحديده ضمن فئة “الشباب المسلم”. هؤلاء هم أبناء الأجيال الأولى من المهاجرين المسلمين بإيطاليا، والذين بدأوا يتبوؤون مناصب جد مهمة في المجتمع، ورغم أن الإسلام في أوروبا هو واقع متعدد بسبب سلسلة من العوامل أهمها تنوع البلدان الأصلية للمهاجرين، والتفسيرات المختلفة للإسلام التي يتمذهب بها المسلمون، وتعدد التيارات والجماعات الدعوية والجمعيات الثقافية حواضن هؤلاء الشباب، والأهم من ذلك، الأنواع المختلفة من الانتماء الشخصي والفهم المستقل للإسلام، ما زاد من تكاملية الفسيفساء التعددي الذي هو روح وصبغة هذا الدين.

فهؤلاء الشباب لديهم حقيقة واحدة مشتركة مفادها أنهم ولدوا في أوروبا أو أكملوا جزءًا كبيرًا من تعليمهم في البلدان الأوروبية. وهم بذلك يمثلون مكونًا جديدا وفريدا في السياق الإسلامي الأوروبي له مواصفات محددة وثقافة متجددة وأسلوب حياة مغاير يمزج بين الماضي والحاضر في علاقة الإسلام بالغرب بصفة عامة.

ولأنهم يطورون العلاقات بطريقتهم الخاصة سواء فيما يتعلق بالمجتمع الإيطالي أو فيما يتعلق بالإسلام. على عكس الأجيال الأولى من المهاجرين المسلمين، فإن لديهم معرفة أكثر عمقًا بالواقع الأوروبي، بينما في معظم الحالات لا يعرفون جيدا بلدان الأسرة الأصلية، وغالبًا ما يتجاهلون لغتهم وثقافتهم الشعبية، والتي تشكل بدلاً من ذلك الهوية والمرجع للمهاجرين السابقين من الجيل الأول في حين أنهم كوّنوا فيما بينهم ثقافة “أوروإسلامية” شبابية متميزة لها طابع خاص بلغة حديثة وإشارات مختلفة، تتسم أحيانا بالإندفاع وأخرى بالتردد حسب مستجدات التجربة.
وإذا كان من الصواب القول أن اندماج السكان المسلمين في أوروبا يمثل تحديًا كبيرا لكل من المجتمعات الأوروبية والمكون الإسلامي، فمن الواضح أن الأجيال المسلمة الشابة ستلعب دورًا أساسيًا في هذه العملية وستكون بطل الرواية.

ولفهم الآفاق المستقبلية لتطور الإسلام في أوروبا عن طريق هذه الفئة العريضة من الشباب المسلم، فأصبح من المهم بالتالي تحليل إلى أي مدى وبأي نتائج يلعب الانتماء الديني الإسلامي دورًا مهمًا إلى حد ما في حياة الشباب. ويصبح من المهم بنفس القدر تحليل الطرق التي يدخل بها الانتماء الديني في علاقة مع أشكال أخرى من الانتماءات الهوياتية. من هذا المنظور، يجب أن تتم عملية تطوير التزامات الشباب المسلمين بدءًا من البحث والتطرق لثلاثة عوامل على الأقل: العلاقة الجدلية مع الإسلام التقليدي للأجيال الأولى، والعلاقات مع المجتمع الأوروبي والتأثير الذي تمارسه التيارات والتجمعات الإسلامية الكبرى كالإتحاد والكنفدرالية.

إن الطرق المختلفة والمعقدة التي يتبعها الشباب للارتباط بالإسلام في إيطاليا لها قواسم مشتركة أعلاها الانفصال التدريجي عن الإسلام التقليدي وتأكيد المنطق الفردي الحداثي في العلاقة مع البعد الديني. هذه عملية جارية أيضًا في بعض المجتمعات الإسلامية ضمن ما يطلق عليه عملية تجديد الخطاب الديني أو الدعوة للتسامح ونبذ العنف والكراهية، لكنها في أوروبا تجد مساحة أكثر وضوحًا للتعبير وتشكل حداثة حقيقية، ومن المهم التأكيد على أن عملية إضفاء الطابع الفردي على الاختيار والممارسة الدينيين هي عامل تقارب ثقافي حاسم مع ما يوجد في الثقافة الغربية فيما يتعلق بالانتماء الديني، لكن بالمقابل يرى المحللون والمفكرون المسلمون أن التعويل على هذا النوع من التدين الصوفي المنغلق والذي ليس له أي علاقة بالتحديث والتطور، يبقى مخالف لطبيعة الإسلام والمسلمين ولا يتماشى سواء مع حماسة الشباب الأوروبي المسلم أو ما يمثله الإسلام من حركية وتدافع وحضور قيمي في شتى المجالات والفضاءات، فيما ينمّ كذلك عن الفهم السطحي للرجل الأوروبي لدينه الكنسي المؤسسي وإضفاءه على باقي الأديان بصفة عامة وهذا مخالف للواقع، كما تم تفضيل إضفاء الطابع الفردي على الاختيار الديني في أوروبا بسبب عدم وجود سلطة دينية إسلامية شرعية، وهو ما أخر الإعتراف به كديانة لها حقوق دستورية فيما يتعلق بالأحوال الشخصية لأتباعها، وبالتالي حرم المسلمين كأقلية دينية وحيدة في إيطاليا المستثناة من الإتفاقية التنظيمية مع الدولة، “intesa” في الواقع، يعاني المسلمون في بلاد الهجرة من عدم وجود وساطة بين الفرد والنص المُنزل، فالعلماء أهل الإختصاص غائبين إن لم نقل منعدمين والأئمة ليسوا دائمًا مناسبين لهذه المهمة، وغالبا في دائرة الإتهام بأن ليس لهم أهلية وأحقية لإمامة المسلمين عامة وخصوصا أولئك الأجيال المتعلمة في المدارس والجامعات الإيطالية التي يجب على الأئمة أن يتحدثوا لغتها ويفقهوا واقعها.

إن عملية تفكك الإسلام التقليدي في أوروبا، مع صعود التيار الشبابي والتي تؤثر بشكل أساسي على مجالات الأجيال الشابة، ليست خطيئة ولا متوقعة في نتائجها، بل يمكن أن تجلب معها بذور إصلاح العلاقة مع الإسلام – بالمعنى الليبرالي أو في الأصولية الجديدة – ولكن أيضًا من الانحدار التديني إلى الفكري الحركي. في جميع الأحوال ، فإن الأمر يتعلق بأشكال “الإسلام العالمي” المنتشرة على مستوى عابر للحدود القومية، والتي تقترح رؤية تفسيرية عالمية للإسلام وعلاقاته مع نظام العالم الجديد المتعدد الثقافات، حيث ينتشر الإسلام الحداثي في أوروبا، وتضع الغالبية العظمى من المسلمين المرجع الديني الإسلامي في البعد الخاص وليس العام إلا للضرورة أي في التجربة الدينية الشخصية.

لا ينبغي الخلط بين التطرف الإسلامي ككل والإسلام الأصولي، حتى لو اشتمل على التيارات والمظاهر التي تبدو متطرفة ومنزوية، فهي ظاهرة معقدة لإعادة الإنتماء الشخصي لإسلام “أنقى” خصوصا في أواسط الأجيال الشابة، وتجريد قدر الإمكان من الدلالات الإثنية التقليدية وتعويضها بتلك الثقافية المتجددة والمتطورة، من خلال إشارة مباشرة إلى النصوص الشرعية وعلاقتها مع القوانين الأوروبية الرسمية، ويسعى الإسلام الأصولي الأوروبي إلى حوار مفتوح، وإن لم يكن دائمًا بدون تناقضات مع الثقافة الأوروبية إلى إعادة قراءة التقليد.

يسعى كذلك هذا الطرح الجديد للشباب إلى خلق فضاءات وتجمعات جديدة وحديثة ومبدعة للتعبير عن أنفسهم ولا يتردد المسلمون الشباب الجدد على المساجد كثيرًا، بل ينخرطون على مستوى الجمعيات، مع الدعم التطوعي الإنساني والاجتماعي وأنشطة الدعوة على المستوى المحلي. وتميل هذه الجمعيات إلى أن تكون بين-ثقافية وتعيش عصرها بحيث يرغبون في الاختلاط ويغلب عليهم الذكور، في حين أن معدل تواجد الإناث في إيطاليا جد مرتفع يدل على ذلك نسبتهن ومناصبهن في جمعية شباب مسلمي إيطاليا التابع لإتحاد المنظمات الإسلامية، يقولون إنهم مهتمون بالحوار بين الأديان وعقد لقاءات بين-شبابية تجمع مختلف الأديان لتبادل الخبرات والتجارب والثقافات، لكن هذا غالبًا ما يظل تأكيدًا لمبدأ المناسباتية بسبب عدم الاستعداد من باقي المكونات الشبابية؛ كما أنها تعزز التزامًا مدنيًا واجتماعيًا قويًا، خاصة على مستوى الأحياء أو المجتمع المحلي.

وأخيرا يظل الإهتمام بفئة الشباب المسلم في إيطاليا قيد المراجعة والتقييم والتردد وكأن الكل يتوجس خوفا من صعوده بثورة صامتة تعبر عن آماله وتحدد معالم طريقه من أجل مستقبل يصنعه بيده في غياب كلي عن قصد أو غير قصد سواء من طرف المسلمين أنفسهم أو من طرف المؤسسات والساسة في إيطاليا، ونظرا لكل هذه العوامل التي ذكرناها في الأعلى يبقى الشباب المسلم هو حامل هذه الشعلة وله كامل الصلاحية والأحقية لتحديد مستقبله ومستقبل دينه في هذا البلد، وكما أن الشباب هم بذور الزرع وملح الأرض وسواعد البناء يبقى على من يهمه الأمر من المسؤولين ومواليهم الأخذ بأيديهم وتعبيد الطرق أمامهم وتوجيههم بالنصائح والتجارب التي لا تقل أهمية من أجل مستقبل واعد لهم وللمسلمين ولغيرهم في هذا البلد.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...