كتاب «زمن الجائحة»: التحولات السياسية وأثرها على المشهد الإسلامي

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

*عبد الرحمن مظهر الهلوش

 

يتغيّر العالم بصورة متسارعة، وفي القلب منه يتغير المشهد الإسلامي، تصعد قوى، وتخبو أخرى، تتغير خريطة التنافسات والصراعات، يتأزم واقع جماعات، وتنفرج أزمة أخرى، حتى شكل وطبيعة تلك التنظيمات والحركات يتغير، والتغيير الأكبر يشمل الخطابات التي إنْ لم تواكب الزمن المتسارع ستخرج من دائرته، وتصير جزءاً من الماضي.
وفي كتابه «زمن الجائحة.. صعود وهبوط الإسلاميين» الصادر حديثاً عن دار مقام للنشر والتوزيع في القاهرة.. يرصد الباحث في الحركات الإسلامية مصطفى زهران، إرهاصات التغيير المقبل، وعناصر المشهد التي تصيغ أزمة واقعه ومآلاته.

الصاعدون الجدد وفخ الشعبوية

يرى زهران أن العقود الثلاثة الأخيرة، شهدت ظاهرة استحواذ التيار السلفي وجماعات الإسلام السياسي، جنباً إلى جنب، على مجمل المنابر الدعوية في مصر، وعلى إثر ذلك انطلقت المنافسة، واحتدت، إلى أن يتم إطلاق أسماء هذه الجماعات والتيارات على الجوامع الكبرى والمساجد والزوايا مترامية الأطراف في جغرافيات شتى، داخل محافظات مصر المختلفة، التي خضعت بشكل مباشر لإدارتها وإشرافها. ونتيجة لذلك كانت هناك ظاهرتان رئيسيتان، الأولى: محاولة رموز أزهرية ودعاة صوفيين ــ أصحاب طرق ـ ملء الفراغ الناجم عن انحسار هذه التيارات الإسلامية وتراجعها، والثانية عدم قبول المجتمع المصري، أن تعيد تلك التيارات تموضعها بعد اهتزاز الثقة بأطروحاتها الدينية والأيديولوجية. ويضرب زهران مثالاً بالنسق الدعوي الذي يطرحه الشيخ جابر البغدادي نائب الطريقة الخلتوية الجودية في مصر ـ الذي نجح إلى حدٍ كبير في أن يصبح حالة دعوية، تعدت إطارها المحلي وامتدت آثارها إلى خارجه ـ إلى أنه في سبيل الوصول إلى غايته من تديين الناس على طريقة التصوف الطرقي، وقع في فخاخ الشعبوية، دون الالتزام بمنهج علمي دقيق ينطلق منه نحو دعوة الناس.

تحولات التدين المجتمعي في صعيد مصر

يشير زهران إلى أن طابع التدين المجتمعي في الجنوب المصري، اتسم على مدار تاريخه بقدر من الاعتدال، بفعل تأثيرات الإسلام الصوفي، بشكله التقليدي في صورته المتسامحة والمحبة لآل البيت وصحابة رسول الله، لذا لَعِبت الصوفية الطرقية دوراً في رسم ملامحه الفكرية، وتشكلها داخل بيئته وجغرافيته الجنوبية، من خلال الاعتناء الكبير بإقامة الموالد والاحتفالات الموسمية والحضرات، بالقرب من مقامات وأضرحة مشايخ وأقطاب التصوف. ومن المظاهر الدالة على رسوخ المسلك الصوفي في المخيال الجمعي لمسلمي الجنوب المصري، تعدد المقامات والأضرحة والشواهد، ومن بين أشهر الأضرحة يأتي ضريح أحمد الفرغل الملقب بـ(سلطان الصعيد) في إحدى مدن محافظة أسيوط المصرية، وضريح الشيخ عبد الرحيم القنائي في محافظة قنا، وأبو القمصان في الأقصر.

ويضيف الكاتب أن الجنوب المصري ومع بدايات السبعينيات، وتحديدا خلال فترة أنور السادات، عايش جملة من التحولات المجتمعية، نتيجة سياسات السلطة آنذاك، في ما عُرِفَ بـ(الانفتاح الاقتصادي) الذي نجم عنه سفر الكثيرين من أبناء الصعيد المصري إلى بعض دول الخليج العربي، ما أسفر عن تأثر الأجيال الجديدة بأشكال مغايرة عن أنماط التدين، القائم منذ عقود داخل الجنوب المصري نتيجة احتكاكهم به، فتم استبداله في جزء كبير منه بالتيار السلفي، ووصل ذروته فترة التسعينيات تزامناً مع ظهور (الجماعة الإسلامية) وأنشطتها الراديكالية.

ومن ناحية أخرى نجد التحولات السياسية والمجتمعية التي عايشتها مصر، ما بين ثورة يناير/كانون الثاني 2011، وأحداث الثالث من يوليو/تموز 2013 ساهمت في إحداث فراغ هائل في الساحة الإسلامية، وكان لا بد من شغره من خلال مؤسسة الأزهر وشيخه الطيب والمحسوبين عليهما، والوعاظ العاملين في وزارة الأوقاف ومعهم دعاة بعض الصوفية الطرقية، في القيام بأدوار بديلة عن سابقيهم من دعاة التنظيمات الإسلامية والجماعاتية الأخرى.

العشيرة المحمدية

يقول مصطفى زهران، تمثل العشيرة الشاذلية واحدة من أهم وأكثر الطرق تأثيراً في المشهد الصوفي المصري، رغم حداثة عمرها مقارنة بغيرها من الطرق الصوفية التقليدية المتجذرة في البنى المجتمعية المصرية منذ قرون، إذ تأسست في الربع الأول من القرن الماضي على يد الشيخ محمد زكي إبراهيم، أحد علماء الأزهر ورجالاته في ذلك الوقت، وكان جده أحد أكبر علماء المالكية في عصره. فـ»العشيرة وشيخها لم تكن بمعزل عن المشهد السياسي من حولها، فكان شيخها أحد الدعاة الذين يحفزون الجنود على الجبهات، أثناء المواجهة مع العدو الإسرائيلي». كما خاضت العشيرة المحمدية صِداماً مع جمال عبد الناصر، على خلفية موقفه من الطرق الصوفية، والعمل على تطويق نشاطاتها.

طريقة صوفية بنكهة عالمية

يرى زهران أن الطريقة الجازولية من الطرق حديثة النشأة، فتأسيسها يرجع إلى خمسينيات القرن الفائت على يد الشيخ المصري جابر الجزولي، وتعتبر حالة خاصة داخل الفضاء المجتمعي المصري، فهي تعدّ في جزء كبير منه، تعبيراً دقيقاً عن تمظهرات الإسلام التقليدي وممارسات التدين الشعبي، التي اعتاد ممارستها المصريون في عاداتهم وتقاليدهم الدينية المختلفة على مدار أزمنة متعاقبة. مع التزامها في ممارساتها وآلياتها الاعتقادية والسلوكية، في النأي بنفسها عن الممارسات السياسية مع انكفائها على البعد المجتمعي. خط الطريقة هذا لم يطرأ عليه أي تغيير مع السلطات المصرية، فقد دأبت على مؤازرة السلطة ودعمها والالتحاق بها، وعدم شق عصا الطاعة، فضلاً عن عدم تناول الأحداث السياسية بشيء من النقد والتجريح. فأتاح لها ذلك حضوراً طاغياً في القطاعات الشعبية عبر تفاعلها المباشر مع الاحتفالات بموالد الأولياء الصالحين، ومولد النبي- صلى الله عليه وسلم- بالتوازي مع مناسبات دينية متنوعة، لا تقف على الطريقة وحسب، وإنما تلتف بالمشهدين المجتمعي والديني ككل وتتفاعل معهما.

ويلفت الكاتب إلى أنَّ شيخ الطريقة الجازولية، حاول طرح طريقته الصوفية بنكهة عصرية عالمية، واضعاً نصب عينيه الخروج بها من المحلية إلى رحابة الفضاء العالمي، وهو ما يفسر تقديم الطريقة في الغرب انطلاقاً من تطويره لأدوات الحضرة والذكر، من خلال الآلات الموسيقية والعود وغيرها، ويضيف زهران حاول الشيخ نسج علاقات غير محدودة في المحيط الإقليمي والدولي، وعبر عن ذلك بقوة إهدائه للسفير الأمريكي السابق في القاهرة فرانسيس ريتشاردوني عام 2005 كتابي الطريقة «مدرسة التصوف الجازولي في العصر الحديث» و«الطريقة الجازولية».

وجه سلفي بنكهة عصرية

يؤكد الكاتب بأن الفضاء الأزرق يشهد في الأونة الأخيرة بروز الجيل الثاني من الدعاة الجدد، أو من يُطلق عليهم (دعاة السوشيال ميديا) الذين رافقوا بدايات الألفية الثانية، وها هم يتسلقون العقد الثاني منها. ويقول الكاتب يتسم هذا الجيل بالرغبة الجامحة في تحقيق هدفين: الصعود السريع عبر وسائط التواصل الاجتماعي المختلفة، والتكسب المادي من الدعوة. وأضاف زهران، عادة ما تكون الفتيات المراهقات الجمهور الأكبر لدعاة السوشيال ميديا، حيث يجذبهن الخطاب الدافئ والناعم في بعض الأوقات، الذي يصدر من هؤلاء الدُعاة، خاصة إن كن شابات، فيتحولن إلى معجبات بهم على غرار نجوم كرة القدم والفن، توازياً مع هواجسهن الحالمة بفتى أحلام أو شريك لهن يجمع بين التدين والهيئة اللافتة، ويرى مؤلف الكتاب أن هذا أحد مخاطر توظيف الدعوة من قبل جيل دُعاة السوشيال ميديا.

معضلة طالبان في المشهد الأفغاني

ينتقل المؤلف للحديث عن حركة طالبان، ويراها تتبنى رؤية إسلامية أصولية تنطلق من خلالها لتقدم دولة أفغانستان كونها إمارة إسلامية. ظهرت حركة طالبان أو (طلاب العلم) بلغة الباشتو في أوائل تسعينيات القرن الفائت انطلاقاً من شمال أفغانستان، ومن قلب المعاهد الدينية السُنيّة، حينها قطعت الحركة على نفسها أن تطبق الشريعة الإسلامية في مناطق (البشتون) الممتدة من باكستان إلى أفغانستان. فمنذ انطلاق الحركة كان لعرق البشتون القبلي عظيم الأثر في تمظهرات طالبان الفكرية ورؤيتها العقدية حيال العالم من حولها، التي جاءت إلى حدٍ كبير- حسب الكاتب- ممزوجة بين الفهم الطالباني كـ(حركة دينية) لـ (الإسلام) والآليات والممارسات البشتونية، فنتج عنها نسخة (إسلامية طالبانية) أكثر حدة وصرامة، مع قدرة على المواجهة والمجابهة أمام من يُناصبونهم العداء. ويبيّن الكاتب أنّ الحركة استطاعت عام 1996 أن تسقط مدينة (كابل) العاصمة، عقب الإطاحة بنظام الرئيس برهان الدين رباني، أحد الآباء المؤسسين للجهاد الأفغاني، لكنها وقعت في جملة من الأخطاء، قادت إلى هزيمتها عام 2001، ولاسيما إيواءها لعناصر وقيادات فاعلة من تنظيم «القاعدة» وعلى رأسهم أسامة بن لادن، زعيم التنظيم، ونائبه الطبيب المصري أيمن الظواهري، حيث شكّل الهجوم على برجي التجارة في نيويورك وتبني تنظيم القاعدة له نهاية لسيطرة حركة طالبان على أفغانستان بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان في تشرين الأول/أكتوبر 2001 ويضاف إلى ذلك إقدام الحركة على تدمير تماثيل بوذا التاريخية عام 2001. ومنذ الإطاحة بها انتهجت طالبان سياسة حرب الاستنزاف في مواجهة ثالوث المواجهة: الولايات المتحدة الأمريكية، والقوى العسكرية الغربية، والسلطة السياسية الأفغانية، طوال العشرين عاماً الماضية، لكنها استطاعت إجبار الولايات المتحدة على سحب قواتها من أفغانستان والسيطرة على مقاليد الحكم في خريف2021.

*صحافي وكاتب سوري

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...